المهند رجب الأمين - ظل

لستُ شبحاً كما تتصورون، لست كائناً خفياً يخافُه الناس، أنا ظِلِّي فقط، والظلُّ لا يعيش مفرداً دون كيان، الظلُّ ليس له شكل، إنما يتشكل مثل الماء في آلية تُلائمها مع الأشكال، أحياناً أكون في شكل كوب، وأحياناً أخرى في شكل أنبوب، وأحياناً في شكل غيمة كبيرة. أنا كذلك أتشكل حسب ماهية الشيء الذي يحجب الضوء عنِّي ويَحْجُبني عنه، أنا اليوم تحولت إلى ظِلِّ إنسان، وُلِدْتُ من جديد في أحد الأماكن التي كان يمكن أن يعُمَّها الضياء. ولولا وجود جسم يتقمصني وأتقمصه، ويحول دون إرادتي في رؤية مصدر ذلك الضوء الذي يكونني بطريقة ما، ونقيضي رغم أهميته لي؛ أنا اليوم أتعس ما يكون.
تجربتي السابقة كانت مع عمود الإنارة في مؤخرة الشارع العام، كنت أعتقد أنها تجربة قاتلة، لا أستطيع التوقف عن الظهور أبداً. تشرقُ الشمس صباحاً وتجبرني على التحرك ببطءٍ شديد طول النهار. وعندما تغربُ يُضاء مصباح عموديٌّ، فأظهرُ من جديد في أشدِّ حالاتي تقلُّصاً. نهاراً أشعر ببعض الراحة، خصوصاً في تلك اللحظات التي أكون فيها ملجأً لعدد من الذين لَسَعَتْهُم حرارة الشمس، أو الذين شاهدوا بعض الرفاق، وأرادوا الاختفاء خلف العمود النحيف، فأحتويهم بحُبٍّ تاركاً جسدي يتماهى مع أشكالهم، ويتداخل في ألوانهم متعرِّجاً كأنه يريد الخلاص. في مثل تلك اللحظات، تتجلَّى قدرتي على تحمُّل مصيري ذي الوجود الخفي والقسري. كم يؤسفني أنني غير ملحوظ، رغم عدم استغناء الناس عني!
كنت أتمنى أن أُولد في مكان وثير، مثل فيلا مكيَّفة الهواء، أكون أول ظِلٍّ فيها، فهي أُنشئت خِصيصاً من أجلي ومن أجل أن يعيش داخلي بعض المُنعَّمين، يرفعون أرجلهم فوق بعضها، ويُطلقون الريح في جسدي.. يا للهول!.. لا.. لا أنا أفضّل مكاني هذا، حيث أنفع الجميع ليلاً ونهاراً.
هل تعلمون أنني كائنٌ موجودٌ ومقهورٌ ومهزوم، إلى درجة أنه لا يمكنني أن أشكو! لا يمكني أن أتحرك.. لا يمكنني أن أستغيث في حالة أن تعرَّض مصدر ضوئي للخطر؟ هل تُدركون أنني أنقرض إذا تعرَّض الشيء الذي يعكسني للزوال؟! إن عاكسي الذي يواجه مصدر الضوء دائماً ما يكون قاتلي في إحدى حالات بحثه عن الأضواء باختلاف أشكالها وأنواعها. أكثر حالات مرضي هي تلك الأماكن متعددة المصادر الضوئية التي تضطرني إلى الانقسام في أكثر من جهة، مُعرِّضاً عَتْمَتي إلى التبعثر، وربما قد أبدو غير قاتم ومشعشعاً كما مضى، لا أريد أن أكون باهتاً كبعض الأشياء التي قلَّدتُها فيما سبق، أريد أن أحيا مضيئاً تجتازني الإضاءة وأشعة الشمس ومصابيح السيارات، لا أريد أن أموت موتاً ضبابياً دون جدوى، أريد أن أكون حاضراً ليوم أصادقُ فيه سيدي حاجب الضوء بنوع من الألفة واحترام الآخر، ولو كان ظِلاً. هل تساءلتم يوماً إلى أين أمضي؟ أين أختفي؟
كل كائنٍ في هذا الوجود ديكتاتوري وظالم، ولكنَّه لا يعلم، كل البشر (أوتقراطيون)، كل جماد في بيئة يعمها الضوء هو كذلك يمارس عليّ الاضطهاد، لكني لا ألومهم فهم لا يعلمون أنني مهم.
وأنا كذلك لا أعرف أهميتي ولا خواصي، ولا حدود كثافتي ودرجة إظلامي وقتامتي؛ إلا عندما غادرت ذلك العمود ولصقت بظِلها في ذات نهار تخلله كسوف كُلي، اختفى مصدر إظلامي في نفس اللحظة التي توقفت فيها فوقي وعبري مُمسكة بالعمود، اختفت الشمس وأضاء مصباح سيارة مُسرعة ليعكسني بسرعة من جسدها النحيل، تحَركت ببطء وتحركتُ معها أقوم بدوري اللا إرادي.
سطعتِ الشمسُ بقوَّة كأنها تُصرُّ أن تكون الأقرب والأقوى، وجدتني أتداخل مع ظلال أخرى، نتشابك فننتج مكاناً شديد الإظلام ومعتماً، أحياناً أحملُ شكلاً هندسياً، وأحياناً أخرى أكوِّن بعض الصداقات السريعة مع الظِلال الأخرى، نحاول التفاهم أو الاعتراض على وطأة ظل، أو على ظل شوَّه شكل سيده فظهر على هيئة عارية، أو أضاف أذنَيْن كبيرتَيْن على صاحبه، بالإضافة إلى صراع المساحات الجغرافية لكلٍّ منا. في مثل تلك الحالة، تُحاول بقية الظلال أن تفض الظلال المتشاركة في المكان عن بعضها البعض، حتى يستطيع كل ظل أن يمارس حقه المشروع عنوةً في تقليد صاحبه.
مضيتُ معها ماراً بمحطة بحري الوسطى، وهي تجرُّ ساقيها بفتور امرأة تعاني الأمراض المزمنة في شبابها الفتيِّ، والذي يظهر جليَّاً في شكلي. أحمد الله أنني لا أستطيع عكس التجاعيد أو الوجوم أو البثور أو القباحة أو بقية التفاصيل. أنا هيئةٌ رمادية اللون في تلك اللحظة.
وصلت برفقة سيدتي أمثِّلها خير تمثيل، فقد تفانيتُ في الظهور على أثر أقل درجات الضوء، وشرعت في التمسك بقدميها، أُقلدها حيناً ولا أُقلدها حيناً آخر، وفي الحالتين لا أتمرَّدُ عليها.
كانت ستفقدني عدة مرات: المرة الأولى عندما دخلت بي إلى مكان التقاط الصورة الشعاعية؛ والأخرى عندما دخلت بي إلى غرفة مظلمة لا يوجد بها إلا مصدر واحد للضوء، وكان بعيداً عنها لدرجة أنني قد تقلصت إلى ما تحت قدميها فقط.
كنت أحسُّ بالسعادة قبل قليل، وأنا سعيد بمغادرة ذلك العمود الذي قضيتُ معه عدداً كبيراً من السنين. في بداية نشأتي، كُنت سعيداً بذلك العمود، خصوصاً في يومي الأول، حين ظهر المفتش الإنجليزي وأَمَرَ بوضع عمود الإنارة الأسمنتي في مكانه. وبمجرد أن تم إخراج العمود من المستودع ظهرت في مرَّتي الأولي.
لا أدري أين كنتُ قبلها؟ ربما أن تكون ظلاً لعمود يجعلك تكتسب بعض الخواص الخاصة بالجمادات مثل الصمت.
الظلال لا تُحدِّث إلا نفسها فقط، ليْتَنِي كنتُ إنساناً أستطيع الكلام والتعبير لأُخبر الجميع ببعض الأسرار التي تخفيها الظلال، وهي مثل أن تكون مقهورة بغير إرادتها، وتعكس أشخاصاً مقهورين بإرادتهم.
أنا لا أكذب أو أقتل أو أحقر أو أغش، رغم أنني أحياناً أشعر بأنني مشارك في ما يفعله الإنسان بحسب طبيعتي المجبولة على المُحاكاة، وعلى عكس الأشياء. على الرغم من تخوفي الشديد من مجاراة الكائن الوحيد الذي يمارس جميع أنواع التعصب والتمرد سِرَّاً وعلانية؛ أجدُ نفسي أفعل أحْقَرَهَا معه، مثل استغلال الضعيف، واستضعاف الطيب، واغتياب الصديق، وقتل المحبة، وزرع الدسائس. لو يعلم الناس ما يعرفه الظلُّ عنهم لما خرجوا في الضوء أبداً.. ولشاركوا الظلَّ في الاستظلام.
دخلتُ معها إلى عنبر كبير، جلستُ أسفلها في سرير مُنهك، كُسي بالمشمع الأحمر، أنا لا أشتم، ولكني أستشعر القرف في كل ما تحتي، أشعر بالشفقة على سيدتي صاحبة الخد المشلوخ على شكل “الله”.
تتنهد في أسىً بالغ، يعلو نفسها وتتصاعد حدة سعالها، تجرجر أرجلها في رحلة طويلة جداً لمكتب الأطباء الذي لا يبعد سوى عشرة أمتار. أعود معها في استكانة غريبة لظِلٍّ مغلوب على أمره. هذه المرة أرقدوها، اتقدت الأحلام في مخيلتي ذات البيئة المحدودة، رأيت النيل في البعيد مبنىً كبيراً مليئاً بالشُرفات والأبواب، ملاصقاً لكي شيء، ورأيتني في شبه حلم مرتعش أعيش داخله كظل سمكة صغيرة، صغيرة جداً لدرجة أنني غير مرئي، فكوني ظِلاً عائماً يكسبني خاصية جديدة وهي الشفافية.
تعاند سيدتي الجديدة في إصرار، أسمعها تتمتم بعض الآيات، وتذكر بعض الأسماء، وتصفهم بأبنائها وتبتهل ربها ليعطيهم الصحة والعافية والعمر الطويل.
يقول الطبيب إنها في حاجة إلى عناية مُكثفة. أفرحتني هذه الكلمة جداً؛ فلا بدَّ أنها شخصية مُهمَّة لكي يرعوها رعايةً خاصةً، تهيأت جيداً للذهاب معها إلى ذلك المكان الذي يملأ خيالي بالضوء، وحلمتُ بأن أراني في حجم الشخص العادي أو أن أرى الشخص العادي في حجمي، في تلك اللحظة أكون قد حققت ذاتي وآمنت بإمكانية تكاملي يوماً ما مع نصفي الحقيقي!
لربما إذا انعدمتُ من الحياة، لتغيِّرِ سلوك الإنسان إلى الأفضل، ربما تتوقف الحروب ويسود الضوء والأمل الجميع، ربما كنت أنا النصف الشرير في كل شيء، دون أن أدري.. وكيف لي أن أدري وأنا مجرد انعكاس لجسم.
تأوهتْ سيدتي في نقالة بالية، في قسم الحوادث تحمل في يدها صورتها الإشعاعية المغلَّفة جيداً حتى لا يفسدها الهواء كما قال لها حدسها، وضعوا لها قناعاً أضحكني كثيراً، فقد بدا أنفي كبيراً جداً وفمي أيضاً، حاولت أن أبدو عادياً، ناسياً أني غير ملاحظ، ولكن أحدهم وضع قدمه أعلى أنفي، تشوه منظري، لم أستسغ صورتي وهي تمر في حذاء جِلدي طويل ومفتول برباط تحمل أطرافه بعض المواد اللاصقة قوية الرائحة والتي تذكرني بأيامي مع عمود الكهرباء، حيث درجت إحدى طفلات المُشردين على البكاء؛ فكانت والدتها تضع لها بعضاً مما يحمل نفس الرائحة في قطعة قماش وسخة تُسْكِتُها بها في حضني حتى الصباح.
هل يا ترى يوماً سأتحول إلى إنسان؟ أعتقد أنني إذا حظيت ببعض الأشياء. قد أتحول إلى إنسان، بعض الملابس تعطيني الشكل وتغير لوني دائم الشحوب. أيضاً إذا وجدتُ جسداً يمكنني أن أبدو إنساناً، لا تهمُّني الملامح ولا يهمُّني شيء آخر، أريد أن أجرِّب شيئاً أقرب إلى ملامحي، ولم يكن هناك شكل غير عاكسي الجديد في هذه اللحظة، وهو الإنسان.
لا أعرف لماذا لا أعترف بأنني أحس كما البشر؟ هل لأني ظِلٌّ كُتب عليَّ السكوت؟ أم لأنني فعلاً لا أستطيع الكلام؟! دائماً لا أعرف أين يوجد الضوء، هل تعلمون أنني حتى الآن لم أشاهد أيَّاً من مصادر ضوئي؟! هل تعلمون أني لا أعرف ما هو شكل الشمس والنور؟! لا أعرف أكثر مما أعرف، أحياناً تكون المعرفة واجبة التجربة، لتحقق القناعات وتثبت المتغير.
تهاوت أمامي سيدتي، لأول مرة أرى نصفي الحقيقي يتهاوى ويقع، لستُ متعوداً على مثل هذا النوع من حواجب الضوء. وقعت سيدتي والشمس تميل للغروب في إطراء لي، حيث أبدو طويلاً إلى درجة بعيدة، أكبر من سيدتي فعلاً، أحببتُ الشمس التي حققت حُلمي دون استطاعتي رؤيتها. أنا أعرف أن رؤيتي لمصدر الضوء تقتلني، أنا مستعدٌّ للتلاشي، ولكن دعوني أرى نقيضي.
دون أدنى حماس حُمِلَتْ سيدتي إلى غرفة بها جهاز تكييف، جعلني أبدو غريباً حين أعطاني بعض النسمات مّرت على ملاءة كنت بها، راسمةً تموجات وانكسارات سريعة. سَرَتْ فيَّ لأول مرة قشعريرة، لأن بعض الطبقات كانت تُشكِّل بعض الظلال الصغيرة المستقطعة من جغرافيتي، بِفعل التموجات التي جعلتني أشعر بشيء مختلف قد يكون تعاطفاً أو إحساساً بالأبوَّة.
رفيقتي لا تتحرك، على الرغم من حركة كلِّ من حولها، نمتُ معها محاولاً إغماض عينيَّ مثلها، ولكنِّي قضيت الليل كله أبحث عن تلك العينَيْن.. ولم أجدها.
في الصباح، خرجت سيدتي، بينما ألوم فيها حركتها شديدة البطء، سألتْ إحدى فتيات التمريض:
– هل أتى أحد أبنائي يسأل عني؟
ولمَّا كانت الإجابة بالنفي، خجلتُ من نفسي لدرجة أنني قرَّرت أن أكون ظِلاً إلى حين توقف مصدر ضوئي، همهمت المرأة التي لأول مرة أشاهدها حين تأملتني في رمق أخير، وعيناها تدمع لتسقط دموعها في جسدي. بالمقابل، كنتُ رغماً عني مقابلاً لها، متفرِّساً فيها، مستغرباً فِيَّ.. في هذا الظل الذي لم يتخلَّ عنها طوال حياتي القصيرة معها.
وجهها الطيب كان يشبه مصدر الضوء الذي تصورته، حاولتُ أن أتمرد لمرة واحدة، أن أكون إنساناً لمرة أخيرة، احتويتُها بكل تسامح وحب، أحسستُ معها بقيمة الوجود لبعض اللحظات، بعدها تأرجَحتْ قليلاً في الهواء معرضةً وجهها للسقوط فِيّ، أصبحتُ ملتصقاً بها وجهاً لوجه، شعرتُ أخيراً بمكان عينيَّ يختفي وبجسدي متدرج الألوان والكثافة يتداعى إلى شيء أجهله تماماً، لم أعرف أبداً أنها كانت لحظة ملاقاتي لمصدر ضوئي.. لم أعرف أبداً أنها كانت نهايتي.. لم أعرف أبداً أيَّاً مِنا كان الظِل.



* (النص الفائز بجائزة مسابقة الطيب صالح للشباب في القصة القصيرة – 2015)


* عن موقع البعيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى