عباس محمود العقاد - السندوتش والمائدة

أدب السندوتش هو أدب الفاقة والعجلة، وأدب المائدة هو أدب اليسار والوقار، كما سماهما الكاتب البليغ الأستاذ الزيات وأصاب في التسمية. لأنها تسمية وتوصيف وتعليل في وقت واحد

وقد ختم الأستاذ مقاله سائلا: (ليت شعري إذا خلت أمكنة هؤلاء النفر - أدباء الكهول - الذين نبغوا بالاستعداد والاجتهاد كيف تكون حال الأدب الرفيع في مصر؟ أيذهبون وبطئان ما يعوَّضون على رأي الأستاذ أحمد أمين، أم يذهبون وسرعان ما يخلفون على رأي الأستاذ العقاد؟)

وفي جواب هذا السؤال أيضاً لست من المتشائمين، لأن الجواب بعضه من سر المستقبل. وبعضه من حقائق الماضي؛ فان وقفنا من المستقبل بين الشك والرجاء فموقفنا من الماضي أدنى إلى رجاء المتفائل. وأقصى عن يأس المتشائم، بل لعله موقف لا يحمل في أطوائه غير يقين الرجاء.

قبل ربع قرن من الزمان كان أناس غير قليلين يسألون كما يسأل الأستاذ الزيات اليوم: ترى من يرفع لواء الأدب بعد أعلامه البارزين في هذه الآونة؟ ترى هل ينطوي اللواء بعدهم أو تهيئ له الأيام أكفاً تنشره كما نشروه وتعزه كما أعزوه؟

ولم يكن اسم واحد من الأسماء الستة أو السبعة الذين أشار إليهم الأستاذ الزيات معروفا تلك المعرفة التي تغني في إجابة السؤال؛ وربما كانوا مجهولين كل الجهل في غير مجال الأصحاب أو مجال المتطلعين المتسمعين إلى أبعد الأصداء؛ فكان الجواب الغالب على الألسنة أن المستقبل مقفر مدبر، وأن من مات فات وليس له لاحق بين ناشئة الجيل

فإذا سألنا في مفرق الجيلين مثل ذلك السؤال ورأينا البوادر تملي علينا مثل ذلك من الجواب، فليس من اللازم أن تصدق البوادر، وأن تنقضي خمس وعشرون سنة أخرى دون أن يخلف السابقين عوض من اللاحقين، وإن خفي نجمهم اليوم أو تراءى على الأفق ترائيا يتشابه فيه النجم والسديم

وإننا لنذكر اليوم الستة أو السبعة القائمين بأمانة الأدب وننسى الستين أو السبعين الذي كانوا يهزلون كما يهزل بعض الناشئين في أيامنا، ويتبلغون بالقليل من زاد الاطلاع كما يتبلغ أدباء السندوتش بيننا: نسينا أولئك الستين أو السبعين لأن الزمان قد نسيهم وعفى على أسمائهم وآثارهم، ولكنهم كانوا في أيامهم يحجبون الأفق ويشبهون الشخوص على الأنظار ويبعثون اليأس ويثبطون الرجاء. فليس من البعيد أن يكون لهم نظراء يلبسون الأمر علينا، وأن يكون للستة أو السبعة نظراء ينقشع عنهم الغبار بعد عشرة أو عشرتين من السنين، وإن جاز أن يخيب الظن كما يخيب بعض الظنون

وفي العالم كله نوازع شتى تنزع بالناس الآن إلى الأدب الرخيص أو أدب السندوتش أو أدب الفاقة والعجلة، وقلما تختلف البلاد في هذه النوازع على اختلاف النظم الاجتماعية والمذاهب الحكومية التي تساس بها الشعوب في العصر الحديث

ففي البلاد الديمقراطية يكثر القارئون بين سواد الشعب ويتوخى الناشرون الرواج فيؤثرون ما هو أشيع وأيسر على ما هو أندر وأنفع؛ ويطغى الأدباء الهازلون على أصحاب الجد والأمانة، فلا تتساوى الرغبة في الأدب النفيس والرغبة في الأدب الخسيس

وفي البلاد الفاشية يتحكم المستبدون في أذواق الكتاب والشعراء فلا يذعن لعسفهم واستبدادهم إلا طائفة من المرتزقة المتزلفين الذين لا يقدرون على الأدب القيم؛ ولو أبيح لهم أن يطرقوه ويتوسعوا فيه، فهم أحرى أن يعجزوا عنه وهم مكبوحون مسوقون بالرهبة والإغراء

وفي البلاد الاشتراكية يعتقد الحكام أن الآداب هي لسان حال الطبقات، وأن الأدب الذي يليق بهم هو أدب الطبقة السفلى ومن إليها من أشباه العامة والمسخرين. وحسبك من أدب يقوم على أذواق هؤلاء، ويجري مع هذه الأهواء

ولا ننس عصر الآلات وما يجرف به الناس من سرعة جامحة ونزوة جامحة. ولا ننس (الحرية الشخصية) وما سولته للصغار والأوشاب من غرور المساواة وتمرد المباهاة، فقد بدأت باعتبار الرجل نفسه نداً للسراة والوجهاء ولو كان في الصعاليك والفقراء، وانتهت باعتبار الرجل نفسه نداً للعلماء والأذكياء ولو كان من الجهلاء والأغبياء، فضعف الخجل من التقصير، وضعف الطموح إلى مساواة الأعلين، وأصبح العي الفهُّ لا يداري عيه ولا فهاهته لأنه صاحب (حق) في العي والفهاهة، وصاحب دعوة في المساواة لا يعدم لها أنصاراً بالألوف والملايين!

تلك النوازع في بلاد العالم كله على اختلاف النظم الاجتماعية والمذاهب الحكومية خليفة أن تنصر أدب الفاقة والعجلة، وتنحى على أدب اليسار والوقار. ولكننا نرجع إلى العصور الغابرة فلا يصادفنا عصر منها إلا كانت فيه نوازع كهذه النوازع في نصرة الأدب المبذول وخذلان الأديب الكريم العزيز. وقريبا من عصرنا هذا كان تمليق الأغنياء والخضوع للجامدين والولع بمحاكاة الأقدمين وضعف الثقة والعجز عن حرية التفكير والإبداع نوازع أخرى لا تقل في أثرها الوخيم عما أحصيناه من مساوئ عصرنا، فلا نفاذ في عصور الزمن لبواعث الضعف ولا نفاذ فيها لبواعث القوة؛ وشأن العقول في ذلك شأن الأبدان بين دواعي السقم ودواعي الصحة، لا ينفرد عصر بالأمراض كلها ولا ينفرد عصر بالعافية كلها، ولا يزال الحال في تعادل ونقص وتعويض ما دامت الحياة حيه تعطي وتأخذ من دنياها بمقدار

على أننا لا نخادع أنفسنا ولا نستر الفوارق التي بيننا وبين غيرنا. ففي إنجلترا مثلا يكتب الهازلون ويكتب إلى جانبهم برتراند رسل وهو يتهد في أعوص الموضوعات؛ وفي فرنسا يكتب الهازلون ويكتب إلى جانبهم رومان رولان وبرجسون في المثل العليا وما وراء الطبيعة؛ وفي ألمانيا يكتب الهازلون ويكتب إلى جانبهم هوسرل وهيدجر في معارض لا يعنى بها فيما أحسب عشرة من قرائنا المصريين؛ وفي إيطاليا يكتب الهازلون ويكتب إلى جانبهم فريرو وجنتلي وجروشي في معضلات الاجتماع والتاريخ. وإنما مثلت بالفلسفة وحدها لأن موضوعاتها أعسر، وقراءها أندر، وعقول الباحثين فيها أكبر وأقدر؛ وهي بعد عنوان لما وراءها من أدب الجد والأمانة والرصانة والترفع عن القشور.

أما في مصر فأدب الجد والأمانة والرصانة والترفع عن القشور إنما يقوم على كواهل أصحابه ولا يقوم على كواهل القراء؛ وكل ما نملك من عزاء أن الجد والهزل في هذا الباب يتساويان، فليس بيننا كاتب هازل يعيش بهزله، وليس بيننا كاتب جاد يعيش بجده؛ وسبيل العزاء في هذا أن الهزل والجد يعيشان على نمط واحد، فلا يجوز الهزل حتى يطمس معالم الجد، وأن شاء أن يجور

كذلك يتعاقب أدباء الكهول وأدباء الشباب في أوربا، ولهم في التعاقب معنى يتمثل في تعاقب الأدوار وتلاحق الأفكار، وتباين المدارس الذهنية على حسب الأحوال والأطوار

أما عندنا فحين ظهر بيننا من ينتعون أنفسهم بمدرسة الشباب لم يكن معهم شيء جديد ولا دليل على الحداثة غير شهادة الميلاد، وراحوا في دعوتهم يميعون تميع الذي يربت على عطفيه ويتحبب إلى نفسه ويفرط في تدليل سنه كأنه يتقدم في سوق الرقيق لا في ميدان الفكر وحلبة الصراع

بيد أننا قد جربنا الاختلاف بيننا وبين أوربا الحديثة في خصال كثيرة صلح بعضها ولا تزال لها بقية على سنن الإصلاح؛ فلنجرب ما بيننا وبينها من اختلاف في هذه الخصلة خمسا وعشرين سنة أخرى، ولا ننتظر نهايتها حتى نتفاءل ما وسعنا التفاؤل على أبواب المجهول، وحسبنا منه فيما نحن فيه أن يتساوى الأمران فلا موجب للأمل ولا موجب للقنوط، وكل ما كان بالأمس فهو وشيك في غد أن يكون

أيذكر الأستاذ الزيات ما كانوا يعيبونه قبل خمس وعشرين سنة على كتاب الجيل الناشئ وشعرائه وناقديه؟؟ كانوا يجمعون العيوب كلها في كلمة واحدة يسمونها (التفرنج) ويعنون بها الخروج على قواعد العربية، وكان يخيل إلى سامعيهم أنهم على صواب لا ريب فيه؛ فهل نرى اليوم مصداق ذلك في لغة الفريقين من المسومين بالإعراب والموسومين بالتفرنج في ذلك الحين؟ أقرب الظن أن هؤلاء (المتفرنجين) من كهول اليوم أوفى للعربية من أولئك المستعربين المتشددين، فإن لم يكن ذلك شفيعا للأمل في غد، فلعله أن يكون معينا على الانتظار!

عباس محمود العقاد


مجلة الرسالة - العدد 209
بتاريخ: 05 - 07 - 1937

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى