فخري أبو السعود - في الأدب المقارن.. البطولة في الأدبين العربي والإنكليزي

البطل فرد يمتاز عن غيره من أفراد مجتمعه بمواهب عقلية أو خلقية أو جسدية، يظهر بها بينهم وينال من أجلها إجلالهم ويبذلها في خدمتهم ويتولى قيادتهم في معترك الحياة ردحاً من الزمن، ويترك في تاريخهم أثراً يطول عهده أو يقصر؛ فالبطل لا يكون إلا في مجتمع، وهو عادة نموذج لصفات أبناء ذلك المجتمع ومثل أعلى لنوع حياتهم، ومواهبه إجابة لمطالب ذلك المجتمع وحاجاته في فترة من الزمن، فالأمة المحاربة إذا كانت تجري الحياة في عروقها قوية وتتمتع بالصفات اللازمة للبقاء ينبغ فيها القائد، والأمة الشاكة الحيرى يظهر فيها النبي، والشعب الذي يشكو فساد أنظمته الاجتماعية يقوم فيه المصلح

والأمة المتبدية الساذجة التي لم تستقر بعد ولم تبرح حياتها سلسلة متواصلة من الحروب، لا يكاد يظهر فيها من أنواع البطولة إلا القواد البسلاء، الذين يقودونها في مهاجراتها ومحارباتها لجيرانها، ويبدون من ضروب الشجاعة ويفتقون من أفانين الحيلة والرأي والمكيدة ما يبلغون به الفرصة في أعدائها؛ ولأولئك الأبطال في تلك الجماعات مكانة لا تطاول وأثر لا يبارى وكلمة لا ترد، وإن أحدهم ليغني غناء الجحافل، ويعدل بين قومه ما لا تعدل الآلاف، ولا غرو: فالحروب في أمثال تلك العهود أكثرها مصاولات فردية، وتسمى تلك العهود لذلك عصور الأبطال

وفضلاً عما يناله البطل في عصره من تبجيل وتقديم، فإنه إذا ما مات وخلا مكانه وافتقد مثاله، زاد ذكره ارتفاعاً وزاد ذاكروه مبالغة في تعظيم آثاره وتصوير وقائعه وتخيل صفاته ومواهبه، وما يزال جيل يزيد على جيل حتى تقوم حول بعض الأبطال أقاصيص طويلة السرد، تنطوي على شيء من الحقيقة الأولى ويتكون أغلبها من صنعة من الخيال ومما تصبو إليه النفس الإنسانية دائماً، من أمثلة القوة والشهامة والنجدة والغلب وحماية الذمار، ومما تتوق دائماً إلى تصوره من روائع المشاهدات، وجسام الوقائع؛ بل كانت بعض المجتمعات البدائية تغالي فترتفع بأبطالها إلى مصاف الآلهة، كما فعل أوائل قدماء المصريين بأوزيريس وأخته وابنه، وكما فعل أوائل الاسكندناويين ببطلهم أودين، أو إلى مراتب أنصاف الآلهة كما فعل الإغريق القدماء بأبطالهم

وإذا ما استقرت الأمة وتحضرت، وجنحت إلى السلم ولم تعد الحرب هي حالها الاجتماعية وضؤلت مكانة أبطال السلم من أنبياء ومصلحين ومشرعين وحكام وأرباب علم وفن، وهبطت قيمة القائد في الجيش قليلاً فلم يعد هو وحده المهيمن على مصائر الحرب بل صار للعدد والنظام والسلاح وغير ذلك حساب كبير؛ وبطل تصديق المتعلمين بواقع الأقاصيص المتخلفة عن عصور الأبطال؛ ولكن البطولة أعلى صورة من الصور خالدة، وعبادة الناس في كل العصور لها قائمة، بل إن احتفاء الأمة بأبطالها من أبرز دلائل حيويتها، كما أن من دلائل حيويتها حفول تاريخها بأسمائهم، بل يغالي كارليل ويزعم أن تاريخ الأمة هو تاريخ أبطالها، وتاريخ العالم إن هو إلا سير الأبطال

وتلك الأقاصيص المتخلفة عن عصور الأبطال إذا فقدت اعتقاد الناس بصدق كثير مما فيها فم فقدت إلا هيناً يسيراً، ولن تفقد ما يعج به من روائع الأوصاف وبدائع الصور وممتع الأخيلة وشائق المواقف والوقائع، والعرض الصادق لأحوال المجتمعات المتخلفة عنها تلك الآثار، والتأمل في طبائع الإنسان ومذاهبه في الحياة؛ فتظل تلك الأقاصيص تحفظ لنفاستها، وتظل كنزاً ثميناً لقرائح الأدباء وأخيلتهم، يطيب لهم الهيام في عالمها البعيد، وإجراء أفكارهم على ألسنة أشخاصها العظماء، واستعارة وقائعها وتشاهدها في التمثيل لوقائع عصورهم وأحداثها، وإبراز معانيهم وأغراضهم بالإشارة إلى حوادثها وملابساتها؛ وخير مثال لكل ذلك عصر الأبطال في بلاد الإغريق:

فعصر الأبطال في بلاد الإغريق، الذي أمتد زمن استقرارهم في شرق البحر الأبيض وتشربهم حضارته، هو أشهر عصور الأبطال وأسيرها ذكراً، لأن أشعار هوميروس قد خلدت روائع الصور لأحواله وعظائم أبطاله، وبدائع الأوصاف الشاملة لمعتقدات القوم وتصورهم لآلهتهم؛ حتى إذا ما انقضى ذلك العصر وبرزت اليونان في عالم التاريخ الواضح وطلعت في عصرها الذهبي وحلت الفلسفة محل الخرافة، وبطل الاعتقاد بكثير من أخبار الإلياذة والأوديسة، اتخذت أشعار الملاحم تلك مادة لضرب جديد من الأدب هو الدرامة، التي ظهرت لتسد حاجة ذلك العصر ما لم يعد يسده شعر الملاحم الذي يلتفت إلى الماضي ويتوفر عليه، ولا يعير الحاضر التفاتا وكلتا الأمتين العربية والإنجليزية قد مرت في استقرارها وتحضرها بعصر أبطال ترك أثره في أدبها: وعصر الأبطال في التأريخ العربي هو عهد الجاهلية الذي انتهى بظهور الإسلام وظهور الأمة العربية في ضوء التأريخ المستيقن، فالجاهلية العربية شديدة الشبه بالعصر الهوميري: فيه كانت الأمة منقسمة على نفسها لا تفتر عن القتال، ولا يزال يظهر فيها من الأبطال أمثال عنترة ومهلهل ودريد بن الصمة، ولا تزال تتحدث بأيام المواقع وتتفاخر وتتنافر كما تفاخر أبطال الحروب الطروادية، ولولا أن الإسلام وضع حداً فجائياً لذلك العصر، لما بعد أن تتجمع أشعاره وأقاصيصه في ملحمة أو ملاحم كبرى؛ وكان العرب على تفرقهم يشعرون بوحدتهم في الجنس واللغة ويجتمعون في مواسم الحج وأسواق التجارة والأدب، كما كان اليونان يجتمعون في دلفي وأوليمبيا، وكما كان اليونان يزدرون غيرهم ويلقبونهم بالبرابرة كذلك كان العرب يعتدون بعربيتهم ويلقبون غيرهم بالاعاجم، ولم يفتهم أ، يجمعوا شملهم تحت لواء العربية لدفاع الفرس في موقعة ذي قار، كما فعل الإغريق من قبل إذ تجمعوا بزعامة أثينا لرد عادية الفرس أيضا، وفي موقعة ذي قار يقول الأعشى:

لما أمالوا إلى النشاب أيديهم ... ملنا ببيض فظل الهام يقتطف

وخيل بكر فما تنفك تطحنهم ... حتى تولوا وكاد اليوم ينتصف

ومر الإنجليز بمثل ذلك العصر في عهد استقرارهم في الجزيرة، وأهم الآثار الأدبية المتخلفة عن ذلك العصر ملحمة بيولف التي تصف كيف تغلب أمير إنجليزي على وحش هائل أقض مضاجع بعض الملوك المجاورين، وذلك العصر في التاريخ الإنجليزي شديد الغموض، ولغموضه ذاك رُدًّت إليه خرافات لعلها لم تكن منه في شيء كقصص الملك آرثر وفرسان مائدته المستديرة، وهي قصة قد نالت من احتفال أدباء الإنجليزية ما لم تنله قصة بيولف، لسذاجة هذه وشدة إمتاع تلك، واحتوائها على كثير من تقاليد العصور الوسطى وأنظمة فروسيتها ومغامراتها

ولم ظهر الأدب الإنجليزي الحديث، بعد انتشار الحضارة والعلم، اتخذ الشعراء والروائيين من تراث العصر السابق مادة لخيالهم، ولم يكتفوا بذلك بل استعاروا خرافات عصر الأبطال الإغريق مضافاً إليها تاريخ الإغريق والرومان، مما انطوى عليه ذلك التاريخ من سير الأبطال، فحفل الأدب الإنجليزي بذكر البطولة وتمجيد الأبطال، سيان إنجليزيهم وأجنبيهم، تاريخيتهم وخرافيتهم، عجت بذكر هؤلاء وأولئك روايات شكسبير، وتفنن سبنسر وتنيسون في سرد قصص آرثر وفرسانه، واستعار شلي أبطال اليونان وآلهتهم لبعض مواضيعه، كما في قصيدته (بوميثيوس المقيد) ولم يألُ سكوت جهداً في تصوير بطولة القرون الوسطى في قصصه

تناول الأدباء سير أولئك الأبطال بالدراسة الفنية لشتى الأسباب: لما ركب في الطبع الإنساني من عبادة الأبطال والشغف بحديثهم، ولما يُضفيه مجدهم وبأسهم على الموضوع التناول من عظمة وجلال، ولما يبعثه حديثهم في النفس من تسام وصبوٍ إلى المثل الأعلى، وما يبثه ذكر أبطال الوطن في نفوس أبنائه من فخر وثقة؛ فلعباده البطولة في إطلاقها وتمجيد العظمة الإنسانية في عمومها تناول شكسبير سير قيصر وبروتس وكريولانس وعطيل بالوصف، وكتب ماثيو ارنولد قصيدته الطويلة سهراب ورستم، ولتبجيل البطولة القومية والاعتزاز بأبوة الوطن الذين شادوا مجده تناول شكسبير مواقف هنري الخامس في حرب مائة العام، وألف سكوت قصصه الاسكتلندية مثل خرافة منتروز وكونتين دروارد

ولم يقتصر أدباء الإنجليزية في تمجيدهم للبطولة واحتفائهم بالأبطال على الماضي الخرافي أو التاريخي البعيد، بل التفتوا إلى الحاضر والماضي القريب، ووفوا أبطال جزيرتهم الذين وطدوا مكانتها وأعلوا كلمتها حقهم من الذكر والتعظيم، في جانبي المنثور والمنظوم؛ بل كان الأبطال الخرافيون يستعارون أحياناً رموزاً للعظماء المعاصرين، كما فعل ادمزند سبنسر في قصته الشعرية (الملكة الحسناء). وكما قيل أن شكسبير قد قصد من الزمن لشخصية هملت إلى شخصية إرل إسكس؛ وقد أحتفل سوذي وكاميل وتنيسون وما كولي نتمجيد أبطال الإنجليز وعظمائهم في البر والبحر أمثال نلسون وولنجتون وكلايف. وكتب كارليل كتابه (الأبطال وعبادة الأبطال) فأسهب في الكلام على مظاهر البطولة في شتى الأزمان والأمم، واثر الأبطال في تقدم العمران البشري وما هم جديرون به من حفاوة

فالأدب الإنجليزي، بعد انقضاء عصر الأبطال المحاربين، لم يخل من ذكر البطولة وتمجيد الأبطال، بل ظل معنياً بأبطال الماضي ولم يجعل الحاضر دبر إذنه: لأبطال الماضي البعيد بوقائعه الخارقة التمجيد والتصوير الفني المبالغ المغرق في الخيال والشاعرية، ولأبطال الحاضر التكريم والتأريخ الذي هو أدنى إلى الحقيقة دنو عصرهم من الأذهان، وأبعد من الخرافة والخيال بعد الإنسانية عن عصور طفولتها؛ أما في الأدب العربي فقد أنقطع ذكر الأبطال أو كاد بانتهاء عصر البطولة الجاهلية: أهمل الأبطال الجاهليون أو فازوا بالنظرة العابرة والذكرة العارضة، ولم يكن أبطال الإسلام أوفر منهم حظاً من عناية الأدباء. مهما كان نصيبهم من اهتمام المؤرخين ومكانهم في التاريخ

ولم يخل تاريخ العرب بعد الإسلام من أبطال يمجدون وتنسج حولهم القصائد الطوال، ولا أقفر تاريخهم من حوادث مملوءة بالوحي الشعري الصادق، بل أن تاريخ نهضتهم وبسط سلطانهم لهو ملحمة التاريخ الكبرى التي تزري بكل ملحمة، وتسخر من الوقائع الموضعية الضئيلة التي حاك حولها هوميروس قصيده الفاخر، وقد أنجبت تلك النهضة - بعد شخصية الرسول الكريم التي لم يجد بمثلها الزمن - نخبة من أبطال السلم والحرب، كخالد وعمر وعلي وابن العاص ومن عاصرهم وتلاهم من فحول الأبطال الذين لو تنجب أمة أعظم منهم. واحتوى تاريخ العرب على سير أفذاذ يستفزون الوحي الشعري خاصة، لما انطوت عليه سيرهم من طرافة وجاذبية: كالحسين الذي استشهد على أسنة الرماح آبياً أن يستأسر، وصلاح الدين الذي رفع لواء الإسلام وقصم ظهر الصليبيين في سورية، وعبد الرحمن الداخل الذي شاد من الفوضى دولة أزهر دول التاريخ، ومحمد بن القاسم، الذي فتح السند وهو يافع والذي قيل فيه:

ساس الجيوش لسبع عشرة حجة ... يا قرب ذلك سؤددا من مولد

ولكن الأدب العربي قد نبذ ذكر أولئك جميعاً ظهرياً، ولم يحتو من ذكر البطولة والحماسة والحروب إلا على وقائع ثانوية كفتح عمورية وأعمال أنصاف الأبطال، كبدر بن عمار، وغيره من ممدوحي الشعراء الذين كانوا يطمعون في رضاهم ونوالهم، فجاء مدحهم لهم شديد التكلف مغرقاً في التهويل؛ أما إذا لم يكن نوال ولا سلطان حاضر فلا بطولة تستهز نفس الشاعر، ولا عظمة تستدعي إعجابه وتستجيش وحيه، ولا يرد ذكر عظماء الجاهلية في القصيد إلا مستعارة صفاتهم وفضائلهم للمدوح مهما ظهرت فضفاضة عليه داعية إلى السخرية، بل كان أولئك العظماء يزدرون في مواقف الملق لأرباب السلطان: فقد قيل إن بعض الحضور عاب على الطائي تشبيهه ممدوحه (بأجلاف العرب) حين أنشد سبيته في مدح أحمد بن المعتصم فقال منها:

إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس

ومن مثل هذا الحديث تتبين بعض أسباب إعراض الأدب عن حديث البطولة: كالتكسب بتمليق أمراء أنانيين يأبون إلا أن يكون كل المدح لهم؛ بيد أن هناك سبباً أهم هو انعدام روح القومية بين العرب: فقد كانت العصبية القبلية فوق القومية العربية في عصر الجاهلية، فلما وحد الإسلام العرب تحت لوائه وحض على التآخي ونبذ العصبية، لم يستمر العرب دولة واحدة مستقلة منعزلة زمناً طويلاً كافياً لتوحد عناصرها توحداً صحيحاً، واعتناقها جميعاً للقومية العربية مكان العصبية القبلية، بل اندفعوا وهذه العصبية ما تزال على أشدها يفتحون شرقي العالم وغربيه، فإذا هم في بضع سنين يموجون في إمبراطورية مترامية، ضلت قوميتهم العربية في قومياتها المتعددة، وظلت عصبيتهم المأصلة تستأثر بولائهم وتثير الفتن بين قبائلهم، وكان هذا التناحر القبلي من أكبر أسباب انتصار الفرس، ووثوبهم إلى السلطان على أيدي العباسيين

فالمجتمع العربي عرف العصبية القبلية الضيقة الحدود والإمبراطورية العالمية الفضفاضة الجوانب، ولم يعرف القومية العربية التي تسمو على العصبية وتفخر بأبطال العرب الغابرين من أي الإحياء كانوا، والتي تضيق دون مدى الإمبراطورية الواسعة، التي لا يجمعها ماض واحد ولا تشترك في تراث عمراني ثقافي فرد. فلم يكن العربي المسلم يفخر بأبطال العرب المشتركين كابن الوليد وابن الخطاب قدر ما يفخر بآبائه الذين تنتسب إليهم قبليته فابن الرومي في القرن الثالث يمدح أبا الصقر فلا يفوته أن يمدح قبيلته شيبان، وأبو الصقر يرى أن ابن الرومي لم يوف شيبان حقها فيحرمه العطاء، وأبو فراس في القرن الرابع يفخر ببني حمدان الذين يراهم لم يخلقوا إلا (لمجد أو لبأس أو لجود)، ولا يرد ذكر العرب في شعره، وهذه النزعة القبلية الضيقة لا تنتج شعر بطولة فنياً راقياً، بل تنتجه الروح القومية المتدفقة

إنما كان الدين يحل محلل القومية من نفوس العرب، ومن ثم كان له في أدبهم أثر بعيد المدى، ولذلك نرى أن جانباً عظيماً مما قد ندعوه شعر بطولة في العربية يدور حول أعظم الشخصيات الدينية في الإسلام بعد الرسول الكريم، شخصية الإمام علي، وشخصيات أبنائه: ففي الأشعار التي تندب مصارعهم - رغم اتسامها بالحزن والفجيعة، وقلة ما تسجله من عظائم أولئك الأبطال الذين نهضوا في الحقبة بعد الحقبة، وساروا إلى الموت مملوءين ثقة وبسالة - تمجيد صادق الشعور للمثل العليا مشخصة في أولئك النفر الغر الميامين، ولدعبل وابن الرومي وغيرهما أشعار حارة فيهم، ومن ذلك قول الأول:

وليس حي من الأحياء نعلمه ... من ذي يمان ومن بكر ومن مضر

إلا وهم شركاء في دمائهم ... كما تشارك أيسار على جزر

قتل وأسر وتحريق ومنهبة ... فعل الغزاة بأرض الروم والخزر

وسبب آخر عظيم الأثر في خلو الأدب العربي من تمجيد البطولة، هو أن هذا الضرب فني يحتاج في ممارسته إلى تفرغ وطول معاناة وكثرة مراجعة، ومثل هذا الفراغ لم يتهيأ لأدباء العربية، ومثل هذا العكوف أو الترهب الفني الذي حظي به ملتون ووردزورث وتنسيون وغيرهم من شعراء الإنجليزية لم يفز به شعراء العرب وكتابهم، أضف إلى ذلك أن الأدب العربي كان دائماً يؤثر التقليد ويحجم عن اتخاذ مواضيع أو صور جديدة لم يرثها العرب الأولين، ولهذه النزعة المحافظة قد نفي من حظيرته كثيراً من فنون القول ومنادح الفن، لم يرها من شأنه ولم يحسبها جديرة بالتفاته، لأنه لم يرثها عن الأقدمين ولم يطلع على أدب الإغريق فيقف على بدائع النظم التي تأتي من ذلك الباب

وكان الأدب العربي كلما نفي من حظيرته باباً من أبواب القول يمت إلى الطبيعة الإنسانية بسبب لا يجذ، ويروي من النفس البشرية غليلاً دائم الحاجة إلى الري، تلقفه عن الأدب العامي فنهض عنه بالعبء الذي طرح، وآثر إرضاء النفس الإنسانية حين آثر الأدب الفصيح إرضاء التقاليد، ومن ثم حلك الأدب العامي، أو الخيال العربي، حول أبطال الجاهلية كعنترة وكليب، وعظماء الإسلام كعلي بن أبي طالب وهارون الرشيد، روائع قصص البطولة ومنازلة الصناديد ومقابلة الأنس والجان واجتلاء أسباب المتعة والبهجة والفكاهة؛ وما كان بالأدب العربي الفصيح قصور عن ذلك الضرب من القول لو أراده. انظر إلى روعة الوصف في قول المتنبي:

خميس بشرق الأرض والغرب زحفه ... وفي أذن الجوزاء منه زمازم

وقول ابن هانيء الأندلسي في جيش جوهر: إذا حل في أرض بناها مدائناً ... وإن سار عن أرض ثوت وهي بلقع

فهذا وصف للجيوش لن تحوي أبلغ أشعار أروع منه، ولا غرو: فقد كانت المادة متوفرة لأدباء العربية لينسجوا من أحاديث البطولة وأوصاف المواقع ما شاءوا، فقد تفنن المسلمون في وسائل الحروب البرية والبحرية وحازوا فيها غايات السبق، والدول والانقلابات كانت تتوالى على أعين الأدباء تباعاً واللغة العربية الرحبة المساعدة بالألفاظ، الغنية بالأوزان الرصينة والقوافي المتعددة، خير معوان على نظم قصيد الملاحم ووصف عظائم الأبطال، فلو التفت الشعراء إلى هذا المجال من القول لرأوا سعة ولكنهم أغفلوه فيما أغفلوه فيما أغفلوا، وعدوا البطولة والأبطال شأناً من شؤون التاريخ، لا فناً من فنون الأدب

فخري أبو السعود

مجلة الرسالة - العدد 189
بتاريخ: 15 - 02 - 1937

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى