حمد علي حسين - كنّاس الحارة.. قصة قصيرة

إلى الذين يعيشون على الأرض ، والذين يمرون عليها مجرد مرور ، كأنهم ظلال و خيال .
القاص محمد عبد الحليم عبدالله روايته ( الضفيرة السوداء)



أجده اليوم على غير ما تعودت أن أراه ، ساهماً كثير الشرود لائذاً بالصمت مسرحاً ببصره في المجهول ، و أحياناً أجده ينظر إلى الأرض و كأنه يبحث فيها عن شيء قد ضاع منه. .و قد أتكأ على ذراع مكنسته. كان يشارك معنا في الحديث على الرغم من سذاجته الممتعة التي تعبر عن فهم بسيط للحياة و ما فيها ، كما ألفنا عباراته التي تعبر هي الأخرى عن جهل . و كانت تمتلكني ، و أنا اتحدث معه ، رغبة في أن أجوس في مملكة صمته وسكونه و سرحانه .

نظرتُ إليه قبل أن أشرع بالحديث معه ، كان لا يزال مشدود النظر إلى ما بين قدميه على الأرض ، سألته :

– إنني أراك اليوم ساهماً شارد البال ؟

رفع بصره إليّ ،ثم جاءني صوته متعثراً قليلا في حنجرته التي بدت لي مصابة بجفاف .

– إني صافن.

– و يعني إنك تفكر ؟

– لا أدري بماذا أفكر ؟ أنت بماذا تفكر والآخرون أليس يفكرون؟

– بلى ، غير إننا نفكر في شيء محدد .

– ما هو الشيء المحدد ؟ و كيف يكون ؟

– لا بد من أن تعرف بماذا تفكر .

– أنني لا اعرف ما هو و الآن قل لي ما هو التفكير؟

– نوع من التأمل.

– ما هو التأمل ؟

– يعني ثمة موضوع أو فكرة في رأسك تشغلك ، أي تجعلك تصفن .

– و هل كل واحد يصفن يعني أنه يفكر .؟

– نعم .

– و هل الحمار حين يصفن يعني أنه يفكر ؟

– ربما ، غير أني لا أدري .

– طبعاً أستاذ ، لأنك لست حماراً ، أقصد ….

ضحكتُ لهذه الشطحة العفوية تماماً منه و قلتُ

– سامحك الله .

سأل بعفويته المعهودة و قد أحمر وجهه خجلاً قليلا .

– يعني هذه ” جفصة” مني ؟

– نعم و مقبولة منك، أنني على يقين أنك لا تقصد إهانتي

– الحمد لله .

– أخبرني الآن بماذا كنت تفكر ، وهل عندك هموم ؟

قال جاداً و كأنه بدأ الآن يفهم كلامي معه.

– عندي هموم كثيرة ، أدوخ بها .

– يعني أنك تفكر فيها ؟

قال مندهشاً :

– يعني الهموم أفكار ؟

– نعم .

– عندي هموم كثيرة ، كنت أتصور أنني لا افكر مثلكم ، أذن الهموم أفكار و أن الأفكار تعني الهموم ، لكن لماذا نفكر ؟

لم أجد جواباً يمكن أن يستوعبه هو ، فلزمنا الصمت . كنت لا أزال أتطلع فيه محاولاً أن أقرأ ملامحه و هو مستغرق في التفكير ، جاءني صوته ينساب بهدوء من ثنايا الصمت الذي بدأ يلفنا معاً .

– زوجتي مريضة، انها تعبانة مع ولدي المريض ، لم تنم البارحة طوال الليل، كانت ساهرة معه و هو يتلوى من الحمى، كما تقول لي أنها الحمى لأن جسمه المسكين كان حاراً مثل الجمر. جلستُ معها بجانب ولدي ، وجدتها تبلل قطعة القماش و تضعها على يديه و قدميه و على جبينه. عدة مرات

– و ماذا كنت أنت تفعل؟

– كنت أنظر إليه و كنت أتوجع مثله ، أنا أبوه كما هي أمه ، و عندما أراه يتألم من الحمى أتألم ، اعرف أنه مريض، لكني غير قادر أن أفعل مثلها ، تقول لي أنها تفهم و تعرف أكثر مني. فسكت ،أنها مثل بقية الناس تقول أني لا أفهم ،لا اعرف . كثيرا ما أسأل نفسي كيف يعرف الناس؟ أني لا أفهم ,لا أعرف. أنت الآن أستاذ أتجدني لا أفهم و لا أعرف ؟

– (قلتُ مجاملاً) كلا ، أني أجدك غير ذلك، أنك تفهم حين أتكلم معك و أنك تعرف حين أسألك .

– ولكن الناس لا تقول عني هذا ؟

– لآنك بسيط و لديك معرفة قليلة ، بسيط و ليس كالآخرين.

– لستُ أنا من أختار أن أكون لا أفهم و لا اعرف كالآخرين. هذا حظي من الدنيا، قل لي مـَنْ المسؤول عن حالتي و بساطتي و عدم معرفتي؟

حاولتُ أن أتبسط معه في الحديث ليفهم جوابي .

– هذه إرادة الله سبحانه و تعالى أن خلقك من أبوين بسيطين.

– لا أفهم ، لكن كانا يعرفان ؟

– ليس مثل الآخرين .

– أتعرف كم مرة أسأل نفسي لماذا لم أكن طبيبا أو معلماً أ و مهندساً أو موظفاً أو مثل الطلاب الذين كانوا معي في المدرسة ، كنت أجدهم يشاركون في الصف ويمدحهم المعلمون .

– و أنت ؟

– كنتُ لا أشارك ، لا أفهم الدرس , تركتُ المدرسة، الحقيقة أنهم أخرجوني لأني كنت كثير الرسوب و أصبحتُ أكبر من الآخرين في الصف.

– متى أخرجوك ، في أي صف ؟

– الصف الثالث ، بعد عدة سنوات حين قال المديرأذهب و تعلم صنعة ، أنت لا تفيدك المدرسة، أخذني أبي إلى محل نجار في المحلة ولكن لم أتعلم شيئاً ثم أخذني إلى حلاق و لم أتعلم و هكذا كان يأخذني كل مرة إلى صاحب محلٍ و لم أتعلم شيئاً، في أحد الأيام أخذني أبي إلى بناية و سجل أسمي و أعطوني مكنسة وطلبوا مني أن أكنس الشارع و فعلت و من يومها أصبحتُ كناساً في الشارع، ومرات كنت لا اعرف كيف أتخلص من الأوساخ التي أجمعها و كنتُ أجلس بقربها لكي أجمعها اذا طشرتها الريح ، و عرفت أن هناك سيارة تجمع هذه الأوساخ و كنت أنتظر هذه السيارة. في أحد الأيام كنت جالساً قرب الأوساخ ، جاء رجل وسألني لماذا أجلس قرب القمامة ، فسألته و أين هي القمامة ، أشار إلى الأوساخ وقال هذه هي القمامة و عرفتُ يومها معنى القمامة و سألني الرجل أيضا عن راتبي الشهري ، قلت له أنني لا اعرف ، أخذ الفلوس و أذهب إلى أبي و عندما تزوجت أعطيها إلى زوجتي كما طلب مني أبي ، ثم سألني هل هي فلوس كثيرة أوقليلة . قلت أنها قليلة ، وهز الرجل يده و ذهب و لم أره مرة أخرى ، ومرة سألني أحدهم عن شهادتي المدرسية ، قلت له أنهم أخرجوني من المدرسة لأني لم أنجح كثيرأ ، نظر إلى طويلاً و قال لصاحبه الذي معه ” أنه يعيش في مربع لايستطيع أن يخرج منه .” و عندما سألته عن المربع، أخبرني أنه يقصد : الغباء و الجهل والفقر و سوء الحظ . و مع الأيام يا أستاذ عرفت ما كان قد قصده ذلك الرجل ، الآن أني لا أزال داخل هذا المربع . قلتُ له :

– أنك الآن بدأت تفهم ،علماً أن هذا القول هو فلسفة .

– تقصد أنا أفهم في الفلسفة ؟

– أنك تتحدث بالفلسفة كالآخرين.

– كنت أتصور أن الفلسفة صعبة و أحسبها لا تـُفهم، كنت كلما أسمع شخص لا افهم كلامه ، أحسبه يقول فلسفة.

– الآن هل تفهم كلامي ؟ أنه ليس فلسفة.

– نعم ، أفهمه ، أنه كلام بسيط.

– أنهم يعتقدون أنك لا تفهم و لا تعرف كالآخرين خاصة عندما يتكلمون معك. الآن أخبرني كيف تتعامل مع زوجتك في البيت ؟

– نتكلم مرات قليلة ، أنني أفهم كلامها أنها تعيد الكلام عليّ أكثر من مرة . أنها تتكلم كثيراً و خاصة أول أيام زواجنا .

– أخبرني كيف تدبرت أمرك ليلة الدخلة ؟

– لآ أدري ، جلست أنظر لها ، كانت جميلة ، وشرحت لي العملية و كانت ممتعة . و أخذت اقوم بها مرات و كانت هي تطلب مني أن لا اتردد ، بعد شهور قالت أنها حاملة و تنتظر أن يأتينا مولود و سوف أصبح أباً مثل أبي .

– و ماذا فعلت يوم صار عندك طفل ؟ هل فرحت به؟

– نعم ، طلبوا مني أن أسميه ، قالوا يجب أن أختار له أسماً , سميته على أسم مدير الدائرة “ابو نصير”

– أسمه أبو نصير ؟ و كم عمره الآن ؟

– نعم أسمه هو ” أبو نصير” لا أدري كم عمره ، قبل شهور أقامت زوجتي حفلة صغيرة قالت هذا عيد ميلاد ” أبو نصير”

– يعني عمره حوالي سنتين ؟

– لا أعرف .

نظرت ُ نظرة عطف كبيرة إلى هذا الإنسان البسيط إلى حد السذاجة وهو يعيش بعفويته و طيبته .

ذات يوم وجدت الحارة تغرق في صمت شامل يبعث على الدهشة وتعيش حزنا طافحاً على الوجوه و عندما سألت الآخرين أخبروني بآسى ، أركن أحدهم سيارة في الشارع ثم أنفجرت بعد فترة قصيرة ، كانت ملغمة ، فسقط عدد من الناس قتلى وجرحى و كان الكناس من بين الضحايا الذين سقطوا قتلى .على الرغم من الفجيعة، فقد رحل مع الآخرين الذين ينسجون أحلامهم من دمائهم، وعاشوا يمنحون من دون أن يطلبوا. لقد نستهم الأرض و عسى ان تمنحهم النجوم ملاذاً في السماء و لم يدعوا لأنفسهم الأهمية، فأصبحوا من التائهين المنسيين الذين لا يبكي من أجلهم القضاء و القدراللذان سلموا له أمرهم طوال حياتهم، لنذرف الدمع من أجل أولئك الذين رحلوا عنا من غير كلمة وداع ، الذين لا يبكي أحد من أجلهم ،نهم سيرقدون بهدوء و سيكون السلام عندهم أبدياً .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى