عبد اللطيف الموسوي - لسان اللوحة.. قصة قصيرة

(انت فنان وينبغي ان تمتلك حساً مرهفاً ، فأين هذا الحس؟)… لاتزال تلك الكلمات القاسية تطارده ليل نهار، اينما حلّ او ارتحل من دون ان تقارقه للحظة، حتى لكإنها أخذت تصمّ أذنيه لدرجة تمنى لو كان بإمكانه ان يتخلى عنهما كيما يتخلص من هذا الدوي الهائل الذي تحدثه تلك الكلمات. ولكنه وجد نفسه إزاء معادلة كل من طرفيها مرّ وعذب فكيف له ان يتخلص من هذا الطنين المزعج الذي تحدثه تلك العبارة القاسية وذلك السؤال المفرط في القسوة، وفي الوقت نفسه يتخلص من عذوبة الصوت وحسن مخارج الحروف الصادرة عن شفتين عذبتين تزينان وجهاً ملائكياً لشابة في منتهى الرقة والجمال لطالما شهد هو لها نفسه بين زملائه الطلبة بالحس العالي والذوق الرفيع وحتى الأنوثة الطاغية المصبوغة بمسحة من الخجل اللذيذ والوقار المتناغم مع كونها استاذة جامعية. لايزال غير مستوعب للحظة التي فلتت خلالها أعصابها لتواجهه بتلك الكلمات الشديدة الوطأة.هو ايضاً لم يصدق أذنيه ، بهت وفوجيء حتى كاد يفلت زمامه هو الآخر وهو الجنوبي القادم من أقصى قرية نائية في محافظة ذي قار الى بغداد والذي لايمكن ان يتغاضى عن اهانة اية انثى حتى لو كانت هذه المرأة هي استاذته في الجامعة. شعر انه قد أمتهن كثيراً وأهين من هذه المدرسة الشابة التي ربما قد خانتها تجربتها البسيطة وخبرتها المتواضعة في مجال التدريس فلم تحسن التصرف إزاء طالب كان يمعن النظر اليها مشدوهاً بدلاً من التركيز على الدرس. حاول أن يجد لها عذراً .. تشبث بكرسيه ، استعرض أمام عينيه شريط ماحدث قبل لحظات وماكان قد جرى قبل ذلك خلال الاسابيع البسيطة المنقضية من العام الدراسي الاول له في بغداد. تذكر انها كانت كثيراً ما نبهته وطلبت منه ان يبقى في جو الدرس لكنه كان يصر على العبث بقلمه واحياناً يمضي الوقت برسم عينين جميليتين في كشكوله بدلاً من ان يدون ملاحظات الدرس.. قال في نفسه ان مدرسته لم تخطىء عند توبيخها له ولو انها قد قست عليه كثيراً . جزم في قرارة نفسه انه هوالذي دفعها الى توبيخه بهذه الصورة. التمس لها العذر تلو العذر.. ولكن دواراً رهيباً أخذ يضايقه..

ضغط بسبابتيه على صدغيه ، حاول ان يخفف من الألم ، من دون جدوى. شعر ان المقعد اخذ يدفعه الى الأعلى وكأنه يأمره بالنهوض ومغادرة الصف.. نظر خلسة الى الباب المغلق فتراءى له ان الباب قد فتح على مصراعيه.. فكر سريعاً بالخروج الى الهواء الطلق، لكنه قاوم هذه الرغبة بشدة لئلا يسبب خروجه إشكالات اخرى، ثم انه لايقوى على مغادرة مكان توجد فيه مدرسته الاثيرة وهو الذي ينتظر بشوق قدوم درسها حتى انه لم يفوت اياً من محاضراتها. أخذ يسترق النظر مرة اخرى و لكن هذه المرة الى المدرسة التي عاودت الدرس محاولة تفادي الموقف . نظر اليها بإمعان فقرأ في عينيها نوعاً من الحزن والندم.. استجمع شيئاً من قوته وشجاعته ليطلب الاذن بالخروج ولكنه عاد لحيرته والحديث مع نفسه (ربما استعجلت في توبيخي وربما تأخرت في ذلك كثيراً.. ربما استحق هذه القسوة من التوبيخ .. لابما لا استحق). اعتملت رغبتان متناقضتان في صدره.. البقاء والمغادرة. وفي الوقت نفسه، فكّر في أن يثأر لنفسه ويبدي أي رد فعل يعيد له شيئاً من كرامته .. لكنه لحسن حظه او حظها ، خشي العواقب او ربما لم يطاوعه قلبه إغضابها اكثر فاستطاع في اللحظة الاخيرة ان يتمالك اعصابه ويستعيد توازنه ويمنح نفسه فرصة للتروي والتفكير. ولم يطل تفكيره طويلاً ،إذ تجمعت ، على حين غرة ، كل جنوبيته في رأسه المكتظ بالافكار، فرفع اصبعه بأدب أليها وأشار الى الباب.. نظرت في عينيه بعتب وقالت له بأدب جم: تفضل. بعد خروجه، أرتمت الى مقعدها لتسحب نفساً عميقاً وتعتذر لطلبتها من هذا الموقف من دون ان تبحث عن تسويغ للموقف. ثم طلبت من الطلبة ان يباشروا بقراءة الدرس بصوت مسموع واحداً تلو الآخر لحين إنتهاء وقت الدرس وأخذت تصغي لهم من دون الادلاء بأية ملاحظة او تصويب.بعد أيام من تغيبه عن الجامعة، ولج الى غرفتها على استحياء في اثناء الاستراحة .. ألقى التحية عليها بصوت خفيض ومالبث ان بادرها قائلاً من دون ان يمنحها حتى فرصة الرد على تحيته:(كنت منشغلاً للغاية خلال الايام الماضية ولذا تغيبت عن الجامعة).

_ وما الذي شغلك الى هذه الدرجة؟

لكنه بدلاً من أن يرد على سؤالها، فتح حقيبة كان يحملها وأخرج لوحة وقدمها اليها بتوجس وهو وهو ينمن النظر الى وجهها ليرى ردة فعلها .أبتسمت للوهلة الأولى وهي ترى أحد طلبتها قد قام برسمها وهتفت: (جميلة جداً). ومالبثت أن سألته: لكن لماذا رسمتني بنظارة وأنا في الاصل لا أرتدي نظارة ؟ لم تمنحه وقتاً للرد فبادرته بسؤالين آخرين:(آه ونظهارة سوداء؟ هل أبدو بها أجمل وانت تخفي عيني؟).

_ ربما .. ولكن ليس هذا هو السبب..

* ماهو إذاً؟تنهد هذه المرة ونفث حسرة طويلة في فضاء الغرفة الصغيرة ثم قال وهو يزمّ شفتيه: قررت الا أرسم بعد اليوم امرأة يفوق جمالها ذكاءها كثيراً الا بنظارة سوداء قاتمة تخفي عينيها اللتين تفتقران الى حسن التمييز.

نقر ثلاث نقرات على الطاولة المكتظة بالأرواق واستدار خارجاً من الغرفة لايلوي على شيء. وقبل ان يصل الى باب الغرفة سمع صوت قطعة خشبية صغيرة تقع من على الطاولة الى الأرض. نظر الى لوحته بقلب مفجوع من دون أن ينظر الى وجه المرأة الجالسة على كرسيها غاضبة ثم قال قبل أن يخرج هي ملكك، تفعلين بها ما تشائين لا كما أشاء).وترك الباب نصف مفتوح…..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى