إبراهيم سبتي - حصان لورنس.. قصة قصيرة

ارض شاسعة تمتد أمام البصر لا يحدها شئ أبدا .. لا غيري هنا ، لم يمر أحد منذ ساعات .. تعطلت سيارتي في طريق ترابي مقطوع .. خمنت ان الآخرين سلكوا طريقا آخر ربما يعرفونه جيدا يقيهم هذا التيه الصحراوي الممل .. أو انهم قد مروا من هذا الطريق ولم ارهم ، ربما ..
تندفع حوصلتي كما الطير ، ابلل رأسي بأخر قطرات الماء وأطفئ ظمأ روحي عندها تتطاير كلمات أخي فوق رأسي كخيط دخان وتتقافز فتوحي بأن كل من عليها فان .. كل من عليها يرجع إليها .. أول مرة منذ سنوات ، اندهش !
لم يثرني أي شئ منذ قرأت خبر ضبط جودي فوستر في مطار بوسطن وهي تهرب الكوكائين تحت ملابسها الداخلية .. أثارني وتصورت بأنها لا تستطيع ا لنوم دون جرعة مخدرة فما كان منها إلا أن تخبأها في منطقة مثيرة ظل يتقاتل عليها البشر منذ بدء الخليقة ..
لم يثرني أي مشهد آخر منذ سنوات .. الطريق يمر بصخور وأدغال وأوحال ثم يبدأ الرمل يغطي مساحة الأرض القصية .. ليتني اعرف طريقا آخر ، مررت بكل مآسي المكان ، تسلقت صخور جثمت منذ ان وجدت ، واجتزت الأوحال وأنا اردد أناشيد الفروسية والبطولة ، رباه كم رجلا استطاع اجتياز المكان منذ خلق ؟
لا أحد .. لا أحد .. أنا قاهر الصخور والأدغال وهجمات الجراد وخفافيش الليل .. امتدح نفسي كل عشرة أمتار فينطلق صوتي هادرا بأناشيد حفظتها في طفولتي في اصطفاف الصباح استمع الى خطبة المدير الرنانة المكرورة ثم تنطلق الأناشيد صادحة ولكنها صارت مضحكة بعد سنوات .. يا لسخرية الأقدار! وقتها حفظت كل كلمة من خطبته وصرت اردد كلماته قبل ان ينطقها .. عشرة امتار اخرى اجتازها واردد : انا البطل قاهر الاوحال والصخور .. اصول كأسد هصور في ارض خلت الا مني ، ياحنان يامنان ، أسألك ان اجد احدا يمر من هنا ..
اتعثر بنتوءات الصخر واعلق بادغال تشابكت رؤوسها ، واسحل جسمي عنوة كغريق شدَ الى حبل النجاة .. اتوقف .. ياللهول ! بئر ! ارى بئرا وسط بر موحش ؟
اشرب ، ارتوي !
كيف لي ان اصل الى الماء ؟ انه بعيد .. امدُ يدي فلا تصل ، تذكرت حكاية الاعرابي الذي رمى عباء ته في البئر وراح يعصرها في فم الكلب العطشان .. لم ارتد عباءة .. كل ملابسي ان ربطتها لا تصل الى الماء .. تركته ! ابتعدت عنه ! تمنيت ان اجد ذلك الإعرابي فعباءته تساوي ثروة في هذه اللحظة .. هي مفتاح نجاتي من الموت عطشا ، كما الصبر مفتاح الفرج والنورماندي كان مفتاح هزيمة الرايخ ! رايخ ؟ أي رايخ هذا وانا عطشان . تمنيت ان اصير جملا واقطع الفيافي والوهاد متحملا العطش ، عمري لم اسمع ان بعيرا مات من العطش ..لا يهمني ان اكون بعيرا او طائرا بجناحين من ريش طاووس واعبر كل الأرض الى حيث المتعة .. الى حيث النكهة ..
الى حيث الماء . وقد اصل الى ارض لا ماء فيها واصير كائنا لا مائيا كالمريخ الذي تعبت ناسا من ابحاثها دون ان تثبت وجود ماء على الكوكب الاحمر .. اريد ان .. واريد ان .. وبين الاريدان انا عطشان .. هلكان .. دايخ وتعبان ..
اللهم انجني من الموت عطشا ..
اللهم اهدني الى سواء السبيل ..
اللهم ان يكن الندم توبة فأنا اندم النادمين على هذه الرحلة البائسة .. انك تمهل ولا تهمل ودعوة المظلوم مستجابة ولو بعد حين .. لا يهمني سوى الوصول الى دياري مرتويا لا ظمآنا.. كلمات اخي في لحظته الأخيرة دوختني : سأموت .. اموت ..
مات أخي أمام عيني .. كانت عيناه تغرقان بدمع خجول وهو يحدق بي بتوسل ان انقذه من الموت !
كيف لي ذلك ؟ عرف باحساس الميت بأني لا استطيع شيئأ عندما انهمرت دموعي صامتا لا اقوى على شئ .. مات في مكان غريب .. بعيد .. ليس فيه من الأهل احد .. وسط غرباء في مشفى لم ار احدا فيه حضر معالجا او متفقدا الا في لحظة تحرير شهادة الوفاة .. تضرعت الى الطبيب الخفر ، كان مشغولا عني متغزلا بفتاة صغيرة .. لم يأبه لتوسلاتي .. لم يحضر لمعاينة اخي في رمقه الاخير .. رد علي بتكلف مصطنع : لا فائدة ! اخوك ميت لا محالة .. نطقها دون ان يراه اصلا ..
تمنيت ان انسفه .. أُدمره ولحظة مات اخي هجمت عليه مستذئباً فتوارى خلف باب مقفول .. اخرجوني الى الشارع بينما كان اخرون يضعون الجثمان في غرفة مجمدة حتى الصباح .. بعد ثلاثة شهور ذهبت الى المشفى منتقما .. دخلت الى الردهة التي مات اخي فيها ووقفت امام السرير الذي شهد اخر لحظات حياته .. اعتصرني الم عنيف وانا استرجع حكاية الطبيب المتهاون .. لمحته يجلس في مكان الطبيب الخافر ، دنوت منه ، كان رجلا يبكي متوسلا يقف قبالته .. شعرت بان الفرصة حانت .. لكني تثاقلت وانا افكر بطريقة اكثر عصرية للانتقام خشية افتضاح امري .. انزويت في ركن بعيد اتدبر الأمر مع نفسي فقفزت فكرة جامحة رأيتها في احد الافلام الهندية عندما رشق العاشق الولهان وجه حبيبته الخائنة بماء النار مشوها وجهها الجميل ومبعثرا تفاصيله .. حامت الفكرة حول رأسي وقررت اعتمادها كطريقة مثلى للانتقام .. سأحرق وجهه .. سأشوهه .. اسرعت بالخروج ابحث عن سائل النار هذا ، سائل سحري يسميه الناس تيزاب واهل العلم يسموه حامض الكبريتيك.. ولجت شارعاً تصطف على جانبيه محال متراصة .. ودون صعوبة عثرت في احداها على غايتي قنينة صغيرة هي كال ما احتاجه .. دسست حامض الموت في جيبي واسرعت الى هدفي ، ذلك المتصابي ، سأمزق وجهه القميء برشقة ، سأفرقعه ، سألقنه درساً في كيفية الشعور بآلام الاخرين .. وقد انسف حياته تماماً .. وصلت الى مكانه ، لم اجده ، بحثت عنه في ردهتين دخلتهما عنوة ، لم اجده .سألت موظفاً صعقني جوابه : خرج ! انتهى واجبه وغادر !
لم أسأله شيئاً آخر خشية افتضاح امري وعدلت في خطتي قليلا .. الانتظار الى اليوم التالي .. اعددت نفسي بقوة ورحت انشد كل اناشيد الفرسان التي حفظتها في الصغر وكأني اعددت لحرب ضد الأعاديا ، حرب ضروس احتاج فيها الى معاونة لوجستية من شخص يدلني على غرفته في المشفى ويؤمن لي طريق الخروج سالماً .. فضلت ان تتم العملية داخل غرفته دون مرآى احد وبلا ضجيج .. لا احب الضجيج .. لا احب الصخب المفرط .. كنت اغير قناة التلفاز كلما بثوا ماتفعله اعاصير ايفان و آندرو و فلويد في ثوراتها.. رغبت ان يتم كل شيء بهدوء .. ارشقه وكفى المؤمنين شر القتال واعود الى بلدتي تستقبلني احدى وعشرون اطلاقة مدفع ابتهاجاً بالناسبة السعيدة .. حضرت في الصباح مبكراً ، دخلت في رواق طويل موصل الى مكانه وبعد دقائق حضر يتوسط فتاتين جميلتين خمنت انهما طبيبتان من ملابسهما .. وقفت وسط الرواق ويدي اليمنى في جيب سترتي تمسك بالقنينة مرتجفاً ، فجأة استدار مسرعاً كأنه نسي شيئاً وترك الفتاتين تمضيان لوحدهما .. ساعة كاملة وانا انتظره وسط نظرات الريبة التي يطلقها كل المارين في الرواق .. خرجت مستاءً من حظي العاثر ، حظي الذي كدقيق نثروه وفي يوم ريح قالوا اجمعوه .. لم اعرف حظا ً كحظي ابداً .. مرة خطب بنا آمر وحدتنا قائلاً بحماس : انتم اشاوس ، دافعوا بقوة عن البوابة لانها شرفكم ! وكلما مر يوم كان عددنا يتناقص بين صريع وجريح ومفقود وفار .. بعد اسبوع من النيران الملتهبة والجثث المتفحمة ، هدأ صخب الموت وانقشعت الغمة لأجد نفسي وحيداً مع الآمر فيحجزني داخل زنزانة من الصفيح اربعين يوماً لبقائي على قيد الحياة !
وضعت القنينة قرب سريري وصارت امام عيني لأندب حظي كل يوم .. لم استطع فعل شيء ابداً واقنعت نفسي بأن وقت الأنتقام لم يحن بعد ..
مشيت مسافة طويلة وبانت سيارتي خلفي كحبة قمح .. سرت اترنح متعباً عطشاناً في بر موحش مهجور .. ياويلتي ، اخشى ان اتيه في هذه الأرض المترامية ، في هذا التصحر المخيف ..
ابصرت شيئاً يتحرك في سراب الأرض لم استطع تمييزه ، خمنت انها شجرة تقف وحيدة في غربة قاحلة مميتة .. قفزت الى ذهني فكرة الركض للوصول اليها ، ولكن من اين لي القوة ؟ لم اركض .. تخيلت ان اسراب الجراد سوف تأتي وتغزو الأرض الشاسعة واغرق في لجتها ، شعرت ان عينيَ قد احمرتا وملأ الطفح جلدي ..فرحت احكه بشراسة وخفت ان اصاب بالجرب ! ياإلهي ..
انا عطشان وجسمي يؤلمني ولا شيء هنا غير رمل وسماء وشمس خجولة .. تخيلت نفسي سائرا تحت كرم معروش ورمل مفروش ، انتبه ، فأجد نفسي متعباً ، صرخت مستجيراً بعنف ، لا احد يسمع .. ياويلتي اني ميت في غربة كما اخي .. تذكرت كل طفولتي وأنا أمر بهذا المأزق ، رباه .. كلمات المدير كل صباح ترن في رأسي ، ذلك الأشيب الوقور كان يرتدي بدلة واحدة على مدار العام لم نر غيرها الا نادراً . قبل عشر سنوات رأيته جالساً على الأرض امام داره بدشداشة بالية مقطوعة الأزرار.. اقتربت منه ، سلمت عليه ، لم يرد ، كررت فلم يجبني .. مؤكد انه لم يتذكرني ، كبر الرجل كثيراً خمنت ان شيخوخته افقدته القدرة على التذكر ، كان طفلا يقف قربه قال لي انه
مجنون ! ابتعد وإلا ستلقى ما لا يرضيك ، سيرميك بحجر ولو هربت الى آخر الدنيا !
دمعت عيني .. ياخسارة .. ذهبت سنوات طفولتي هدرا وانا أرى الرجل مخبولا يجلس امام داره وحيدا بائسا يخشاه الناس ..
وصلت الى المرآى الذي رصدته من بعيد .. شجرة وحيدة يابسة لا حياة فيها ولا فيء تحتها .. اغصان تمتد بخجل لا حول لها وجذع مترهل مخدد ، جلست متكأً عليه ورفعت رأسي ادعو النجاة من محنتي ، استسلمت مفوضاً أمري الى الله ، لا فرق بين الحياة والموت في لحظتي هذه ، ولا تدري نفساً بأي ارض تموت .. سأموت وحيداً غريباً لتنهش جسدي الغربان والجوارح .. لا احد يواريني في لحدي واظل فوق التراب حتى اتلاشى تماماً .. وقد تبقى بعض عظام متناثرة .. رباه .. انك تمهل ولا تهمل وتستجيب دعوة الداعي اذا دعاك .. اغمضت عيني وسمعت صوتاً كأنه الرعد، مدوياً زلزلني .. لم اتحرك .. تخيلت اني في لحظاتي الاخيرة .. سأموت .. قفز شريطاً تحرك ببطء .. الممثلة الشهيرة تهرب الكوكائين تحت ملابسها الداخلية ، اخي يموت امامي واعجز عن فعل شيء ، مديري المجنون الذي كسر قلبي ، آمر وحدتي الذي لم يعجبه بقائي على قيد الحياة .. يا ألهي ما الذي يحدث لي .. ارغب بحصان ينطلق بي في البرية وافعل كلورنس العرب في الصحراء المترامية ، السه سرجا جلديا غاليا ادهش به كل حسادي .. ياويلتي من زماني الذي ذهب سدى ..ما الذي جنيته ؟ تمنيت موتي مع اصحابي بعد خطبة آمرنا الصنديد ، ماتوا وتركوني وحيداً.. الصوت يدوي في رأسي ويهز نافوخي وانا مغمض العينين ، تخيلت ان السماء ستمطر مدرارا وسيسكب الماء مسفوكاً على جسمي اليابس ..
إرتعدت من الصوت الذي بعثر صفنتي :
ـ انت !
انطلق الصوت الاجش وسط ترترة مخيفة ، فتحت عيني ، الرجل الواقف يمد يده ، نهضت مرتجفاً كموجة تتدافع صاعدة الى شاطيء منحدر .. ثبت واقفاً وكأن سوطاً يلهب جسمي ، تمسكت بالرجل كغريق يريد النجاة .. كلمني بنبرة تشيع فيها اللطف : اشكر ربك انني رأيتك !
تملكني شعور بالقرف وانا اغادر الارض الشاسعة واتذكر اخي الذي مات غريباً والقنينة الجاثمة قرب سريري لا من احد سيحملها ويأتينا بخبر ذلك الذي استهان بأخي ، فتطلق بلدتنا احدى وعشرون اطلاقة مدفع ابتهاجا بالمناسبة ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى