إبراهيم سبتي - حلمي الأكبر في الحياة.. قصة قصيرة

يبدو كأنها غرفة شبه مظلمة ، ينيرها مصباح صغير يتدلى من سقف غرفة الصفيح .. اوراق مبعثرة ومجلات أغلفتها ملونة لفتيات في ابهى حلة .. صورة معلقة على جدار اصفر بزي الجنود ، مبتسمة بسعادة طافية على وجهها .. كلب يقعى على مؤخرته ينظر الى صاحبته الجالسة تكتب شيئا بتوتر ملحوظ تنتابها لحظات بكاء خافت ..

بهمة وقلق ، تكتب بسيل لا ينقطع من التوسل والاستغاثة لحكومتها .. كلبها الذي أحبته وأغدقت عليه كل العطف والحنان ، غير مسموح له بدخول اراضي بلادها . انه غير مسجل في دفاتر الصحة هناك !

” راتشت ” كلبها المدلل عثرت عليه في مكب للنفايات قرب معسكرها في ارض السواد .. راتشت سيموت ، راتشت الطيب سيضيع في فوضى الحياة وعنفها هنا ، عبارات سطرتها من دموعها في رسالة توسل .. على خديها الحمراوين ، تسيل دموع المحبة لكلبها الناظر اليها بعطف ! .

**

السماء تتلون بلون الدم السائح على الارض الطينية الممتدة حتى الافق .. سحابة سريعة تمر من فوق سرفة واقفة .. جنودها يشربون الماء ويتراشقون بقنان مملوءة منه ويضحكون .. احدهم يبدو انه بليد يتركهم ويركض باتجاه السوق المزدحمة مصوبا بندقيته نحو قط هارب مفزوع .. الآخرون يحاولون ابقاء حالة الضحك ويهرولون نحوه مصوبين فوهات اسلحتهم على المارة والباعة.. يحمون ظهر زميلهم الراكض خلف القط المفزوع .. يدخل القط احد البيوت في طرف السوق من باب نصف مفتوح .. يحاول الجندي المسرور كالطفل اللحاق به فتمنعه امرأة اربعينية وتدفعه لكنه يهجم كالمجنون ويقتحم البيت تحت حماية زملائه الذين انتشروا وكأنهم يحاصرون المكان للقبض على القط المذعور .. بعد دقائق ووسط ذهول الناس المتجمهرين ، حضرت خمس فتيات مسلحات يطلقن ضحكاتهن بغنج وسرور ويتوزعن حول البيت بوضع استعداد قتالي .. صراخ المرأة بدا يسمع من الداخل ولا اخبار بعد عن الجندي والقط ..

بعد دقائق وصلت سيارة رباعية بيضاء وترجل منها رجل في الخمسين نحيف ابيض حاسر الرأس توجه نحو الدار التي دخلها وكأنه يهم لعمل شيء ما ، الواقفون ينظرون بصمت مفجوع لما يجري ‘ خرج النحيف ماسكا الجندي المتهور يسيران بتبختر واضح وكأنهما يستعرضان انتصارهما على القط المسكين الذي يبدو انه اختفى تماما .

لم يصدر اي صوت من داخل البيت ، المراة المنتحبة صمتت تماما ، الحضور خمنوا بانها سلمت امرها الى الله ولا حيلة لها لما جرى في بيتها. انسحب الجنود والفتيات المسلحات بسرفاتهم نصف المجنزرة وتوارى النحيف الأبيض في سيارته الرباعية مبتعدا فيما ظل باب المراة مفتوحا ولم تصدر أية إشارة منها فغابت تماما عن المشهد .. ” راتشت ” ينظر بفزع لما يجري وصاحبته تضحك !! ظل الواقفون يحاولون اقتحام حلقة الجنود احتجاجا لما جرى للمرأة ، لكن البنادق كانت مصوبة نحوهم . اقترح البعض الذهاب بمسيرة الى بناية الجنود التي يحكمها النحيف الأبيض ، احتجاجا ..احدهم كان متهسترا مفضلا اقتحام تجمع الجنود وتلقينهم درسا ، لكن الاندفاع المفاجئ افقده صوابه فوقع على ارض طينية لزجة ، لم يستطع النهوض بسهولة لكنه نهض اخيرا محاولا اظهار قوته التي خارت قبل ساعة . تدنو الفتاة ، نحو الكلب وتحتضنه بسعادة وألفة . الرجل الممرغ في وحل الارض يتلوى من الركلات الموجعة وتدنو منه وتلسعه بسوطها وهي غارقة في الضحك ..امسكت احداهن بيده وسحبته بقوة ليقف متوجعا متأوها لا يقوى على اية حركة واقتادته عنوة نحو فتيات المدرعة اللواتي مازلن يلعقن كؤوس المثجات فيما القت الفتاة السمراء القصيرة بوجهه ماء باردا من قنينة انتزعتها من بنطال احدى زميلاتها المنتشيات من لعق المثلجات ..ترجلت احداهن من مدرعتها وهي السمراء القصيرة نحوه وركلته بقوة .. صعد عنوة سلما حديديا من خانتين يقوده احساس غريب بالتفرد والانزياح نحو عوالمه المحببة .. لا يقوى على شيء سوى انه سيترك لذاكرته عنان المغامرة فوق ارض لم يطأها من قبل ، انها لعبة جديدة عليه .. يصرخن بوجهه ان يسرع بتسلق الهيكل المرعب انه عالم غريب خليط من رعب العسكر ورقة الفتيات المنتشيات .. “راتشت ” ينظر بمودة نحو الفتيات ! ينزل الرجل مترنحا من الضرب .. يسيرون ويسير معهم يهتفون ويهتف معهم .. كلبهم المسعور ” راتشت ” ينبح للنيل منهم ، يسيرون خائفين منه ينظرون الى الرجال المعسكرين امام متاريس من اكياس التراب المرتبة بطريقة العسكر في الحروب . يقفون متأهبين لكل طاريء ، المتاريس صفت لتقطع الشارع الممتد امام الانظار المتعبة من شمس ظلت تحوم فوق رؤوس داخت في المسير نحو بناية انيقة من طابقين يريدون الوصول اليها . صار هذا هدفهم رغم قوة العسكر المدججين بسلاح الموت يرتدون نظارات سود سميكة وبانت وجوههم الحمر وكأنها تنز دما من لفح الشمس يتبادلون الابتسامات مع فتيات يرتدين ذات الملابس المرقطة . انهم يبتسمون جميعا . المتحمسون للوصول الى البناية الأنيقة ذات الطابقين ابتعدوا .. السابح في طين الأرض اللزج يحاول الوصول اليها رغم الموانع التي تحاول إبعاده ..وصل الحشد الغاضب الى البناية . المعسكرون خلف المتاريس يستعدون لإطلاق رصاصاتهم على صدور الهاتفين برؤية الرجل النحيف الأبيض صاحب البناية الانيقة انه مقصدهم منذ اول النهار ..، الفتاة الضاحكة ، تطلق كلبها نحو الناس الهائجين ويتعالى ضحك الجنود ، فتيات المدرعة ينظرن الى جولة الكلب وهن في سعادة غامرة .. تحتضن الفتاة كلبها المدلل وينسحب الناس الى بيوتهم يتوعدون ..

* عنوان حملة واسعة نظمتها المجندة الأمريكية في العراق ، السيرجنت ” جوين ببرج ” وتضامن معها اكثر من 15 ألف امريكي ، طالبوا فيها الجيش الامريكي بالسماح للمجندة بالعودة الى بلادها برفقة كلبها ” راتشت ” .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى