كاظم مجبل الخطيب - العدالة (1).. قصة قصيرة

مضى ثلاثون عاماً على آخر لقاء بينهما عندما بَرُدَ الشاي في قدحيهما ،الوقت يتسارع والكلمات تباطأت ،كأنَّ لغة الحديث تعطّلت ،لم تبقَ فرصة لديهِ لاقتحام صمتها ،يبدو انهما وصلا للنهاية الحتمية وهي تخبرهُ بما عندها:

-محمود لا يمكننا الاستمراربحبٍّ مقومات بقائهِ هشّة لا تصمدُ مقابل متطلبات مجتمع أنتَ بحاجة الى نقلة كبيرة في حياتك الاجتماعية والاقتصادية ،فالفقر ليس مكاناً لنمو الحب وانكَ لاتمتلك شيئاً من مؤهلات الزواج

-ما رأيكِ ماجدة نعلن خطوبتنا الان وننتظر بضع سنين فربما تتبدّل احوالي

-كيف تتبدّل وانت بعد شهرٍ ستلتحق بالخدمة العسكرية والحرب قائمة ومستعرة ولايمكن التنبؤ بنهايتها،صدّقني لانّي احبكَ ساترككَ وذكركَ لن يغيب عنّي مهما حصل ،ولكني لااريد ان اكون خطيبة سابقة لكَ مما يزيد في وجعنا معاً.

انتهى اللقاء بوداع حزين لم تتكرّر رؤيتهما لبعضهما الّا في مناسبات عابرة رغم الرغبات الدفينة .

ماجدة تتزوج من مهندس ميكانيك توفّرت لهُ ظروف مادية مهيئة اوجدتها لهُ عائلتهُ دون جهدٍ منهُ.

في الضفة الاخرى يلتحق محمود بالخدمة العسكرية ليقضي سبع سنين من القهر والوجع والذل والضياع ومصير مجهول لم تتضح فيهِ غير صور الموت بعد كل معركة في حرب طاحنة احرقت مئاة الألوف من المتعبين حطباً لأيقادها .

تتوقف طبولها بشكل دراماتيكي لا يصدقهّ العقلاء ضحكاً على ذقون الاغبياء المصفقين للسلاطين دوماً وفي كل عصر .

بعد شهور يتزوج محمود زواجاً تقليديّاً ليتحمّل اعباء اربعة اولاد وزوجة لم يقترب منها فالمسافات بينهما شاسعة وازدادت اتساعاً مع تقادم الزمن فلا يجمعهما غير سقف الزوجية ،هي امرأة ساذجة رغم تعلمها ،لم تستطع استيعاب ما يدور براسهِ فعاش عمرهُ مكرهاً مغلولاً وسجيناً بمسؤولية اولادهِ التي تعاظمت على عاتقهِ ولم ينجح في محاولاته بان يجعلها امراة اخرى تقتلع منهُ جذور الماضي وتنسيه زمان ماجدة الغائبة الحاضرة في حياتهِ والتي انتقلت بعد عشر سنين مهاجرة الى امريكا بصحبة زوجها وابنيها بعد تفاقم ظروف الحصار الاقتصادي على وطنٍ امسى الجائعون فيهِ ينامون على لحم بطونهم .

تحولت ماجدة وذكرياتها الى قصيدة شعرٍ ابتدت بفراقها لتبقى طويلاً اغنية ً وموالاً من الشجن والاسى لا ينتهي لدى محمود .صارت قصائدهُ تنتشر في الصحف الالكترونية والمطبوعة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك).اصبح الشعر لديهِ قضية ً ورسالةً واضحةً وقويةً يانهُ شاعر عاشقٌ قديس في محراب العشق ممجّداً لحبّهِ العذري مشيعاً لثقافة انتظارهِ على امل عودتهِ داعياً للاعتذار لمن تحب ما دام هدفا وغاية ً لكي لا تفقدهُ ،تميّز شعرهُ بصدق المشاعر والبوح النبيل الذي يخترق القلوب رغم الحزن الذي يرافقهُ،ما ينشرهُ كان يظهر باسمهِ الصريح وكثيراً ما يذكر اسم ماجدة صريحاً لتصبح هي بعد حين من اكبر قرّائهِ ومن اصدقائهِ المقربين جداً،تتابعهُ بشغفٍ كبير وبخاصةٍ بعد انفصالها عن زوجها وانشغال ابنيها بحياتهما في مجتمعٍ لا يقيّد حركة مواطنيهِ ولا من ممارساتهم الشخصية في ظل احترام قوانينهم .في بدء تعارفهما اخفت شخصيتها الحقيقية لكنها سرعان ما صارحتهُ وهي عارفةٌ لهُ لتعود بهِ الى ذكريات عتيقة لم تغادرها وهو يرسمها لوحاتٍ تتجسّدُ فيها تفاصيل كانت بينهما ،كما انها ايقنت بان اللهفة للمال واكتنازهِ لايمكنهُ ان يعادل كنوز الحب التي لا تفنى وانّ حياتها الماضية كانت وهماً والحقيقة الوحيدة الباقية هو الحب الذي لم تعشهُ .لم يعد لها في امريكا تلك الروابط الوشيجة لبقائها غريبةً فتقرّر مغادرتها والعودة الى بغداد ومحمود بانتظارها .

عادت حاملة ً الخمسين عاماً وهو يكبرها بعامين ،هي امرأة لم تتمكن التجاعيد من ملامحها ، ولم يتغير سحر عينيها الجميلتين اللتين تخفيهما بنظارة ملازمة لها ،وشالها الازرق لم يغطِّ مقدمة شعرها الاسود الذي ما ظهر عليهِ ما يشير الى خضابهِ ، لم يترهل جسدها ظل متماسكاً مع حوادث الايام ،حنطيّةٌ تجتمع شفتاها على ثغرٍ دقيق يضيءُ عليهِ سراجان من خدّيها لحظة ابتسامها .ماجدة تتحدث الانكليزية بطلاقة وهي تحاول مجاراة محمود في لغتهِ الشعرية الفصيحة التي تعرفها عنهُ من زمنٍ بعيد .

حين وصولها العاصمة لم تفكر بالذهاب الى منزلها الذي اشترتهُ في مكان ٍ راقي وبتوكيل الى اختها المتبقية لها من عائلتها لان محمود كان بانتظارها وهي هنا من اجلهِ وهو ربما تغيرت ملامحهُ والشيب رسم لهُ هالةً من الوقار ولكن بين خصلاتهِ هموم من العوز والفاقة وخذلان الاقربين وندرة الاصدقاء وسط قلب متعب مرهق تعرّض للازمات والنوبات مع تعاظم الغدة الدرقية السامة وعيون ارهقت بالماء الابيض تعاونها النظارات عند القراءة والكتابة .لم يكن لدى محمود منهج وطموح لامتلاك المال وهو يعتبرهُ وسيلة لتمشية امور حياتهِ وليس غايةً يسعى اليها جاهداً وقاصداً رغم ان الكثير من معارفهِ تبدلت دنياهم حين اقبلت عليهم فربما لم تلتفت دنياهُ اليهِ وما اقبلت وربما هو لم يشأ الذهاب اليها.

كاظم مجبل الخطيب – النجف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى