علي لفته سعيد - سيدوبا صانعة الخمر.. قصة قصيرة

لم تكن السيكارة التي تنشقت دخانها هي الأولى أو الثانية فربّما هي العاشرة وأنا أشاهد أعقابا ًكثيرةَ في المنفضة المزجّجة حتى إن رماداً قد تبعثر على المنضدة التي أضع عليها حاسوبي وأوراقي وبعض الكتب التي أطالعها.. كنت وأنا أقرأ روايةً لي تتحدّث عن صناعة الدكتاتور وكيفيّة المواجهة له وما يحصل بعد الإطاحة به، أفكر بشيءٍ آخر أكثر مأساويةً من الحدث نفسه.. كنت أحاول ربط الواقع بالمظلّة التي لا تمنحني هدفاً قلقاً ومعلوماً ومستنبطاً من آلية هذا الاحتشاد الذي نبحث عنه، في أن السلطة هي مجرّد طغيانٍ حتى لو كان سلطة دينية.. ولأن الصوت الذي صار قريباً منّي يستفزني الى أبعد الحدود، حتى إنه يكون بنغماتٍ مختلفةً وتتصاعد حدّته كلّما ضجّ في داخلي الحديث، ويخفت كلّما أردت الإنصات بشكلٍ جيد.. وكان السؤال الأبرز الذي طرحته في الرواية: من الذي يصنع الدكتاتور ومتى يصنع؟ وأمام كل الدمار الذي لحق ببطل الرواية وعشيقته لم أصل الى نحوٍ متّقنٍ غير أسبابٍ عاليةٍ من المعرفة التي لا نألوا جهداً من الوصول الى سقفها، لذا نظل أشبه بمحللّين.. كنت منشغلاً الى درجةٍ كبيرةٍ بالبحث عن عمقٍ ودلالاتٍ أخرى. أذهب الى المكتبة الصغيرة التي تتوزّع على رفوفها عشرات الكتب الخاصة بالروايات والأدب والشعر والنقد وثمة كتب أخرى في الفلسفة والدين.. لكن الكتاب الذي طفر أمام عيني كان ملحمة كلكامش ترجمة طه باقر.. فسوّلت نفسي ربط الأحداث والبحث عن الإجابة الى تلك الحقبة.. لكن صوت غرابٍ سمعته جعلني أتريث في اليقينية حين عادت لي الآيات القرآنية من أن هذا الطائر الشاهد الأولى على فضاعة الإنسان وقتله للإنسان الآخر.. مددت يدي الى الكتاب فسقطت ورقةٌ إصْفرّ بياضها وتعتّقت فيها الكلمات وغادرت سوادها قليلا:

إلي أين تسعي يا كلكامش

إن الحياة التي تبغي لن تجد

حينما خلقت الآلهة العظام البشر

قدرت الموت علي البشرية

استأثرت هي بالحياة

أما أنت يا كلكامش فليكن كرشك مملوءا على الدوام

فكن فرحا مبتهجا مساء وأقم الأفراح في كل يوم من أيامك

وأرقص وألعب مساء نهارا

وأجعل ثيابك نظيفة زاهية

وأغسل رأسك واستحم في الماء

ودلل الصغير الذي يمسك بيدك

وأفرح الزوجة التي بين أحضانك

وهذا هو نصيب البشرية.

قرأت النص من جديد.. أعادني الى حصولي على هذه النسخة يوم كنت منبهراً بهذا الألق الذي تمنحه القصيدة في الملحمة وما يمكن أن يستخلص منها قدرة الإنسان على صناعة الأسطورة.. حتى أني وضعت خطاً تحت الجملة الأولى ( الى أين تمضي يا كلكامش إن الحياة التي تبغي لن تجد) ولا أدري لماذا وضعت خطّاً أسود تحت هذين الشطرين.. وكأني أبحث عن لحظة تدوينٍ أخرى لما معنى الحياة التي يبتغيها كلكامش والتي أوضحته له سيدوري في حانتها.

كان البطل الذي يتحرّك في قصتي يحتاج مني الى أن أكون أكثر حذراً في الكشف عن تفاصيله واحتاج الى أسلوبٍ القناع والتورية لكي لا تكون ملامحه واضحةً، فيكون العقاب أشبه بالذهاب الى غابة الإرز ومقابلة خمبابا كما تقول الأسطورة وأنا غضّ لا أملك من العضلات شيئاً، غير عقلٍ لا ينفع فيه مواجهة القوّة العضلية للحاكم. قال لي أبي: لا تكن متيقظاً الى الحد الذي يسلبك النوم لأن المعرفة الكثيرة في بلادنا تفقدك الصواب وتكون أكثر جنوناً.. قلت له: يا أبتي لكن كلكامش كان حكيماً ايضا وكان انكيدو مستلهماً لهذه الحكمة حتى أن الآلهة كانت معه ومنحته كل الصّفات التي يحتاجها بهدف أن يكون لها وينفذ طلباتها.. ضحك أبي وهو لا يعرف من هذه الأسماء شيئاً.. ثم غرز عينيه في وجهي وقال بلغة مهدّدة: إسمع.. أسمح لك بالحديث والمعرفة وأن تكتب قصصاً لا يهمني بك وإن كنت تخاف من الحكومة ولا تريد الكتابة عنها كما تقول لأنها ستقطع رقبتك أو ترديك برصاصةٍ في جبهتك فهذا أمر يمكن احتماله وأن أكتّفك وأمنعك مثلا من نشر القصة او حتى كتاباتها.. ولكن أن تقول كفراً وإن هناك آلهة وإن هذا الذي تسميه كلكامش كان نصف بشرٍ ونصف آلهةٍ فهذه سوالف لا أعرفها.. إياك والخوض في تفاصيل العبادة. ثم وهو يغادر غرفتي وقبل أن يصفق الباب، سمعته يدردم: أنعل أبوكم هذا الجيل يخاف من السلطان ويأتي بسوالف ويقول هذه الحياة قبل قرون.

أبي مسكينٌ بالتأكيد، يتصوّر إني أكفر، وإن الأسطورة تقول إن الآلهة خلقت العظام للبشر وخصتهم بالموت وأخذت هي الحياة.. أعرف إنه يعد مثل هذا الكلام خروجاً عن المألوف والطاعة، ولكن الحياة الآن تبرهن إن صوت القوّة خصّ الحكام ، وإنهم وحدهم الذين يعيثون بعمر الإنسان.كنت منشدهاً الى صوتي الذي يفرقع بطريقة عجيبة هذه المرّة ، ولم أميّز بين ما أبحث عنه وما أريد.. لكن صوتا داهمني فجأة كأني أسمع غرغرةً عجيبةً تتحرّك في رأسي وتصادر حنجرتي.، وراح يتكرّر كلما أردت إكمال القصة التي أحاول فيها ربط السلطة بسلسلتها التأريخية التي لم تنتج إلّا عقماً معرفياً..لم أتمكن من معرفة الصوت لكنه كان أنثوياً فيه خشونةً محبّبةً لامرأةٍ ثملةٍ أنهت حفلتها الصباحية ولم تعرف طريق العودة ليقظتها.. جلستُ مصغياً الى الصوت وثمة خوفٌ حقيقيٌّ تشرّب الى تفكيري واقشعرّ جلدي للحظاتٍ ميمّماً معرفتي إن هذا الصوت مجرّد هلوسةٍ شفاهيةٍ لماهيّة القصة التي أكتبها والتي أحاكي فيها ملحمة كلكامش التي أخذت منّي في الآونة الأخيرة مأخذاً كبيراً في البحث عن خفايا المعرفة الأولى للقوّة والسلطة والسّماء.. لم أكن معنياً بكيفية جلوسي على الرمل أو على كرسيٍّ هزازٍ بقدر ما معنيٌّ بكيفية التوصّل الى اتّفاقٍ عقليٍّ من أن الكوارث واحدةٌ وإن هذه الأصوات التي نتخيّلها هي واحدةٌ أو من مصدرٍ واحدٍ وتناسلت، لكن الإجهاد زاد في رأسي وجعلني لا أعرف كيفية الإمساك بالتفاصيل، لأن الغور في التأريخ موضوعةٌ مرهقةٌ أصلاً أمام تجنّي التأريخ نفسه في تدوينه من قبل السلطة.. أخذتُ سيكارةً ثانيةً وقبل أن أنفث الدخان عاد الصوت ثانية كأنه أفاق من جديدٍ، أسمعه يناديني باسمي.. ولأني شعرت بالإرهاق من إتّهام أبي لي بالكفر بطريقةٍ غير مباشرةٍ وإن الأدب تحليقٌ في المخيلة الكاذبة التي تستنجد بالمحرمات لكي تثبت جدليتها كما قال، ورغم إن والدي موظفٌ حكوميٌّ لكنه محكومٌ بإرثٍ من الثوابت الدينية التي لا يمكن عدّها إلّا من خلال الموروث المجتمعي..لكن الصوت جعلني أبحث في كلّ تفاصيل الغرفة.. اندفعت بقوّةٍ الى المرآة المعلّقة بالقرب من الباب.. لم أشاهد سوى صورة وجهي وشعري المنفوش ولحيتي التي لم يمرّ عليها موس الحلاقة منذ أسبوع وياقة قميصي المهدلة.. ولم يزل الصوت ينادي باسمي. قلت لاستمر مع اللعبة فأنا صانع الحكايات أيضا وأعرف ما يدور في رأس الكاتب إن تعمّق كثيراً في الشخصيات، فكيف وأنا منذ أشهر أدوّن ما يمكن تدوينه من قصصٍ عن الملحمة بعد أن صدمني ناقدُ بأهميّة الكتابة عن الملحمة بطريقةٍ أخرى لأن العالم اكتشف الملحمة لكنه لم يكتشف مدى تأثيرها على الواقع الذي نشأت فيه الملحمة.. وقفت أسحب من السيكارة دخاناً وأنظر الى المرآة.. قالت: لا تعر أهميّةٍ لصوتي فأنا ربما ثملةٌ لأني استيقظت لتوّي.. تبيّن لي إنه صوتُ أنثى لا محال.. صوتٌ فيه غنجٌ محبّب، ورويداً رويداً يزول من الصوت البحّة الخشنة.. قلت لأجاريها بكامل العقلية: من أنت؟. قالت: لا يهم من أنا المهم إنك أيقظتني من سكرتي الطويلة التي نمت فيها ولم أستيقظ منذ عصورٍ ودهور.. ضحكت على صورتي تتحرّك في المرآة وكأنها تتحرّك على صفحة ماءٍ لم تركد بعد، وظلّت بعض موجاتها تنساب ببطء. كانت المرة الأولى التي تتراءى لي الأشياء التي سببتها القصة أو الكتابة عموما.. حتى شعرت إن ثمة ثيابٌ تنضوي عن جسدٍ بلّوريٍّ فيأتيني العطر محملاً برائحة خمرٍ لم أشم مثلها في كل بارات العراق في القرن الماضي والحالي.. شعرت بيديٍ تمسك أصابعي وتسحبني بدلالٍ الى الجدار الثاني البعيد عن المرآة والقريب من منضدة الكتابة..كنت أسيراً تماماً للفعل ولم تبدِ منّي ردّة فعلٍ إزاءها.. ولا أعلم إن كنت قد تماهيت معها أو كل الأشياء هي محض تصوّرٍ لكن الحقيقة إن الصوت الذي أسمعه وهي تقول لي: لا تخف مني فأنا لست بقاتلةٍ أو ساحرةٍ أو عرّافةٍ.. جعلني أرخي أصابعي من قبضةٍ أنثوية فسقطت يدي على أوراقي., حتى إذا وجدتني أجلس على الكرسي أنظر بعمقٍ الى الأوراق والى مقدمة القصة التي أكتبها فلم أجد غير ما يتعلّق بنصّ شعريٍّ قيل بحق كلكامش من أنه سليل الآلهة التي هي خلقت العظام للإنسان.. سمعت ضحكةً سكرانةً ثم تثاؤبٍ مرحٍ ولمسة ذراعين تتمغطّان بعذوبةٍ آسرة.. سمعت صوتها: أنا صانعة الخمرة في حانة سيدوري.. لا أحد ذكرني ولا أحد يعرف أسمي.. أنا اسمي سيدوبا الخمّارة .. تحاول إزالة البطء في نطقها وتواصل التعريف:كان انكيدوا أطلق عليّ اسم صانعة الخمرة أو الخمّارة وكان كلكامش حين يأتي ويمسك سيدوري من مؤخرتها يقول لها لا أريد شراباً إلّا من تلك الجميلة وكان يقصدني.. لحظة صمت شعرت بأن شيئا منغصاً تذكرته: كاد يتسبّب بطردي من العمل وأكون بعدها لقمةً سائغة له لأنه أرادني أن أكون احدى نسائه لكن سيدوري رفضت طلبه بهدوء وقالت له.. أترك لي هذه الجميلة لأنها مصدر الخمر لا أحد غيرها يعرف كيف تصنع الخمور في مدينة أوروك العظيمة وإن الملك وعائلته لا يشربون إلّا من خمرتها، ولا آلهةً تعشق الخمر كما تعشق خمر حانتي التي تصنعها هذه الجميلة.. كنت مصاباً بالدهشة وأنا أغرق في مياه التفاصيل الجديدة التي تسردها علي صانعة الخمر بعد ان تصورت ان سيدوري صاحبة الحانة والتي سقت كلكامش وانكيدو الخمر قبل ان يذهبا الى الغابة ويصارعها خمبابا هي التي تصنع الخمر المعتق..وبمرحٍ من تكتشف الزهو والغرور وسر الصنعة راحت تشرح لي كيف تصنع الخمرة من أرواق أشجار الإرز ولبّ الشعير بعد إزالة قشوره وبعض العنب وتخلط معه عطور أجنحة الفراشات وورد الياس ثم تضع عليه عشبةً من أعشاب الغابة التي اشتهرت على إنها عشبة الإخصاب لكي تشعر الشارب بالقوة.. قالت: كنت أوهمهم بأنهم أقوياء فكانوا يفتلون عضلاتهم ويخيفون الناس.. ثم شعرت بشفتين تقتربان من أذني الى درجةٍ شعرت برجفةٍ لذيذةٍ تسري في روحي: سأقول لك شيئا..لا شيء من الآلهة سوى الأسماء التي أطلقها الطغاة.. كانوا طغاةً هم من صنعوا الكهنة ليتحدثوا باسم الآلهة وهم من جعلوا من أنفسهم مبعوثين للآلهة وهم من تحولوا الى آلهةٍ وصنعوا بأكذوبتهم كلّ شيء.. أصابتني صعقةٌ كبيرةٌ خلخلت أغلب المعلومات التي جُمعت في أوراقي وما دوّنتْه المدونات التي امتلأت بها المكتبات وصفحات الإنترنت من إن الآلهة هي التي كانت تحكم الأمصار الواسعة، وإن هناك آلهة ًللخصب وأخرى للموت والرياح والقمر والشمس حتى تعددت الآلهة.. ولان الأمر يهمني في بحثي وسؤالي انتبهت الى اقتراب فمٍ من شحمة أذني وأنفٍ من خدّي الايمن: ما قيل وما مكتوب غير ما هو حقيقي في واقعه، إسمع أيها المجنون ربما أنسخك الآن وأعيدك الى ذلك الزمن ليس في بطون الكتب، بل الى الحانة كي ترى بأمّ عينك ما فعله كلكامش حين علم إني أعلم بكلّ ما يخططّون وما أمر به كلكامش من قرارٍ بالتخلّص منّي بسبب سمعي ما رواه مع انكيدو في رحلة عودتهم من غابة الأرز.كان الصوت يلملمني ويجعلني أتكوّر على المنضدة وأجمع أوراقي ليبقى السؤال مركزاً على الصفحة الأولى,, من يصنع الدكتاتور؟ عاد بي الصوت الذي كلّما تكلّم زاد أنوثةً وأزيل عنه لزوجة النوم والخمر وصار أكثر صحواً من سماءٍ تتحوّل من الشتاء الى الصيف.. وسمعتها تقول لي: أريدك أن ترى جمالي.. قف أمام المرآة واكتشف جسد سيدونا الجميل، ها أنا أصحو وإياك والإقتراب كثيرا فقط فتّش عن مفاتني.. صرخت بها.. لا أخاف منك لا أريد أن أرى شيئا.. فقط إعلميني ما سمعتيه في الحانة، في جلسة الإنتصار الاخيرة قبل الوصول الى الملك ليكون بعدها كلكامش ملكاً على أوروك.. سمعت ضحكتها ترجّ الغرفة وخفْت أن يسمعها أبي أو يسمع صوتي، وأنا أتحدث ويأتي فيذهب كلّ شيءٍ هباءً ..كنت أخفي وجهي عن المرآة التي تسحبني إليها لأرى مفاتنها معكوسةً على السطح المصقول. قالت لي: لا تخف.. فقط لأعلمك كيف اغويت كلكامش حتى لا يقتلني لأني كاشفة أمرهم.. قلت لها: إذا كانت الكتب تؤكد إن سيدوري كانت أجمل النساء مثلما أكدت الكتب التي وصلت إن زليخة كانت الأجمل في عصر يوسف فكيف أقارنك أنت؟.. سمعت ضحكةً وحركةً على أرضية الغرفة ومع وقع خطاها وثمة ريحٌ عذبةٌ مثل نسمةٍ هادئةٍ تحرّك قطرات العرق النازلة من أسفل صدغي وتحت أبطي.. أتلمّس قدحاً تركت في قعره ماءً لعلّه يرطّب هذا الخواء الحار في روحي.. قلت: أنا اشعرك إنك أجمل امرأة خلقها الله الآن في عرفنا وعصرنا لا شيء في بياض مفاتنك غير ورقة التوت الخضراء التي كأنها قُطعت من غصن شجرة العنب.. ضحكت بغنجٍ أيضا وقالت: قول شاعرٍ مجنونٍ وكاتبٍ يبحث عن كيف يولد الطّغاة؟ خرجت من تنفسي الصعب لألهث خلف صورتها المعكوسة عل المرآة وكأني أقف أمام ضوءٍ هابطٍ من سماءٍ سابعةٍ، ألجم فمي كي لا يصرخ فترتجّ أعضائي هلعاً ويتردّد صوتي في البيت.. ورحت أفتّش عن كلامٍ مساوٍ لما أريد.. سمعتها: يكفي تبحلقاً في المرآة لأني لا أنفع حتى أن أقبّلك، ولكني أردت فقط إخبارك إن جسدي هذا كان منقذي من الموت كما كانت النساء في المملكة.. فقد سمعت شيئاً إدّاً من فم كلكامش وهو يخاطب انكيدو وسيدوري أن الأمر لم يعد يكفي ليكونوا هم صنيعة الآلهة الموهومة التي صنعوها، وعليهم أن يكونوا هم الآلهة فالناس بطبيعتهم خائفون ويصدّقون بكلّ شيءٍ، وإنه بالإمكان تقاسم السلطة على الأرض وأن تكون السماء وحيّاً لهم ولأفعالهم.. أخذت نفساً عميقاً سمعت فيها شهقةً غريبةً ثم سمعتها كمن تدخل سيكارة ويتحرّك الهواء أمام وجهي وأشم رائحة دخانٍ نوع السيكارة التي أدخنها: أخذت واحدةً لأهدّئ من روحي فأنا جالسةٌ من نوم ميّتٍ ثملٍ فكيف ترديني أن أكون، فقط أخبرك وأموت بعدها.. تحرّكت باتجاه خزانة الملابس وقالت: سأستعير منك معطفاً حتى لا أتركك تبحلق بجسدي .لم أكن أتكلم أو أكون شجاعاً لأطرح الأسئلة، ولا أريد لهذا المشهد أن يفوتني في التصوّر لأرى حقيقة ما يعتريبني من هذا الكدر الذي يؤرقني من سنواتٍ حين شرعت بكتابة روايتي عن الدكتاتورية والطغاة. مسحت حبّات العرق عن جبهتي ومسكت أوراقي ووضعت القلم بين أصابعي، لكن يدين ناعمتين أنهضتاني من الكرسي وسقط الضوء أمامي: أنا أريد الجلوس أم انك أيضا تحب الكرسي ولا تريد لأحد أن يجلس مكانك؟. لا تخف لن استحوذ عليه. مرّ الوقت وكنت مشغولاً بقولها ولا أعرف لماذا ساد صمتٌ لبرهةٍ حسبتها دهرا ً.. قالت: هل عرفت الآن من يصنع الخديعة للناس وكيف الناس تصدّق إنهم يعيشون تحت رحمة ما يقال كتقديسٍ لا جدال فيه؟لم أشأ مغادرة الكلام وليس لي القدرة على البقاء في الصمت لذا قلت لها: من يقول إن هذا الكلام هو الحقيقة وأنت تنسفين كلّ الأشياء التي احتوتنا، نعم قد تكونين أنت صانعة الخمور والنبيذ المعتّق في حانة سيدوري ولكنك قد تكونين كارهةً لكلكامش لأنه هتك بكارتك قبل الزواج كما يفعل مع النساء.. وقفت قرب الباب ولم أسمع صوتاً.. تأكدت من إحكام الرتاج في مكانه حتى لا يتسرب الصوت: لو سمعك أبي الآن لأعلنك كافرةّ في كلّ الذنوب.. ضحكت وبان صفّ أسنانها: إنك تبحث عن الحقيقة لكنك موهومٌ بما ترتّب عليك من أحداثٍ لتصديقها.. كلّ شيءٍ خارقٌ للعقل..لحظة سمعت ما شبه النشيج والآه التي تحرق بلعوماً لم يصب بسوء المرض وقالت: حتى يعاقبني ولا يفتضح امرهم طلب من سيدوري أن أشرب كل الخمر الذي صنعته خلال أشهرٍ ثلاثة في ثلاث ليالٍ.. ثم وهي تصطنع ابتسامةً: لم أفق من نومتي إلّا بعد أن أيقظتني، وانت تبحث في حانة سيدوري عن أثرٍ لما دار وكنت مرميةً في زاوية الكهف الذي حولته الى مصنعٍ للخمر.. سمعت اصطفاق الباب بقوّة وثمة صوتٌ جاءني من النافذة المطلة على الباحة: أعلم إنك لن تصدق، ولكن صدق، إن الجميع يستغل السماء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى