عبد الهادي الزيدي - اليوم الســـابع.. قصة قصيرة

روي عني أن امرأة جاءت إلى الإمام محمد بن سيرين قائلة : رأيت القمر يدخل على الثريا وناداني نداء من خلفي أيتها المرأة أمض إلى (محمد بن سيرين ) فقصي عليه رؤياك .. فاصفّر وجهه كما لم يصفّر سابقاً فقلت : مالك يا إمام ساهماً مطرقاً ؟ فقال: وكيف لا أطرق وقد تنبأت هذهِ المرأة بموتي بعد سبع .. وبعد سبعة أيام تماماً مات محمد بن سيرين ..

( وأعلم يابني أن الرؤيا كانت جزءاً من ستة وأربعين جزءاً من النبوة لزم أن يكون المعبّر عالماً بكتاب الله حافظاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خبيراً بلسان العرب واشتقاق الألفاظ عارفاً بهيئات الناس ضابطاً لأحوال التعبير)… مخطوط دراستي يوشك أن يكتمل بانتظار العمل وبلورة المعاني التي تنساب الآن كماء عذب إلى أرض شقق وجهها الظمأ من بين شفتي الشيخ حيث يعم الاخضرار مقللاً مساحة الجدب الشاسعة في الآفاق كلها..

أنفاس الشيخ وكلماته متوالية مستقرة في رموز وأشكال في قرطاسي إلا في لحظات متفرقة تبرز فيها فرص الترويح حين يصمت قليلاً غارقاً في تأملاته التي كثرت هذهِ الفترة باتجاه آفاق أجهلها فأبحر ظناً مطارداً سرابية رؤيا اليقظة لا النوم فتعيدني كلمات الشيخ على قرطاسي الذي أحرص على أن أقيد فيه أي كلمة أو إشارة ..

(…وأعلم يابني ..أن أصدق أوقات الرؤيا هي ما تم رؤيته آخر الليل ووقت القائلة وأضعف الرؤيا زمان الشتاء ومجيء المطر ..) .. الدواة دمي ممتدة كصحراء يجتاحها الفرسان على خيول أصابعي التي تجمعت في هيئة الكرّ خاطة بالرمح وجودها على صفحة القرطاس سوداء خانقة مساحة الفراغ بلا هدنة …

وروت التواريخ عني أن رجلاً جاء إلى الإمام محمد بن سيرين قائلاً : كأني بقدح زجاج يمتلأ ماءً ثم سقط الماء حين أنكسر الكأس وهو ما يزال في يدي …

– قال بن سيرين : هل لك زوجة حامل ؟

– بل على وشك الولادة …

– تأمل أبن سيرين الرجل لحظة ، ثم قال بهدوء :

– بعض الناس يتضايقون من إرجاع الأمانات إلى أهلها ، وهذا خلق شائن ، أليس كذلك ؟ … ستحتفظ بأبنك فقط !…

تشاغل أمامه بقرطاس يقلبه بينما دخل الرجل في عالم يطبق عليه الصمت موحياً إلى عدم إدراكه الإجابة .. إلا حين همس غلام في أذنه لست أدري متى جاء بشيء ما .. فنهض الرجل مسرعاً وكلماته ترن في جو الغرفة …

– توفيت زوجتي مخلفة طفلاً… تناول الشيخ بيمناه كوزا قريبا توسط كتبه مرتشفاً منه ثلاث جرعات سريعة بنشاط لم يؤثر الشيب فيه، وأشار بها عليّ ، فهززت رأسي الذي خلت أنه سيلفظ دمائي كلها من فتحتي الأذنين ، إلا إنه تصاعد إلى جبيني معترضاً على سرعة الوقت في الإجهاز على درسي الأخير بقطرات عرق متفرقة أخترقت جلدي هناك ، مسحتها بكم ردائي مستغلاً جولة الشيخ العادية في زوايا صمته وذاكرته الذي رصعته نجوم التقوى وثقة الناس به في الأمصار كلها… لم يعد لرمحي ضرورة فسقط على صحراء قرطاسي المثخن بالسواد والرؤى حين دخل نفس الرجل لثالث يوم على التوالي ملتهماً بعض بياض الوقت ، وجلس بإشارة من يد الشيخ .. كان الرجل يدعيّ أنَّ صديقاً له يرى أنه يأكل بياض البيض دون صفاره فعجز عن تعبير رؤياه أو نسيانها ..

ولست أدري ما الذي يقلقه في رؤيا جميلة كهذهِ تبشر باليسر والغنى …

– ها قد جئت اليوم بمفردك – أيضاً- أيها الرجل؟!

– لقد قلت له ياأبن سيرين ولكنه يُصرّ على عدم الحضور !

– وأنا أعيد قولي لك أيضاً ، لن أعبّر هذهِ الرؤيا ما لم يكن صاحبها حاضراً!…

لماذا يُصر أبن سيرين على حضور صاحب الرؤيا ؟ وهل سيوجه تعبيرها إختباراً إليّ… إنها تعد جديدة على أساليب معاملته للناس ، فقد فعل ذلك كثيراً وأحياناً كان يعبر لأناس رؤى آخرين حملوها إليه من أمصار بعيدة . الرجل يقرفص في نفس زاوية الانتظار المزروعة باحتمالات وأسئلة بالضبط كما قرفص – قبل أيام – ذلك الشاب الوسيم قلقاً بعد وقت من صلاة العشاء ، قال الشاب :

– إنني أعد لزفافي ، لكني رأيتني في المنام مقبلاً على امرأة سوداء قصيرة فراعني ما أنا مقبل عليه وخفت كثيراً من مستقبل نكاحي هذا …

ضحك الشيخ كما لم أره يضحك سابقاً.

– لا بأس عليك يابني ، تزوجها ولا تخف !…

– الرؤيا يا إمام …

ضحك أبن سيرين ثانية :

– إن سواد المرأة يدل على كثر مالها وقصرها يدل على أنها لن تعيش طويلاً … ولم تمض أيام حتى زارنا الشاب نفسه حاملاً نبأ وفاة زوجته وقد تركت أموالاً كثيرة …

نهض الشيخ من مكانه بخطى متزنة إلى الباب المفضي إلى الخارج وخاطبني كما توقعت قبل قليل :

– هل توصلت إلى تعبير رؤيا الرجل ؟

مواصلة خطواتهِ إلى الخارج تدل على ثقته في عدم توصلي إلى تعبيرها فحلقت في وجه وهيئة الرجل الذي يقابلني – الآن – وحيداً تبدو عليه سمات القلق وانتظار شيء لم يكن يتوقعه …

ورويّ عني أيضاً أن رجلاً تبدو عليه علامات الغنى جاء إلى الإمام العلامة محمد بن سيرين قائلاً:

رأيتني ولي قصعة من زجاج آكل فيها ، فرأيت كأن نملاً يجوس اتجاهاتها كلها … فقال أبن سيرين الذي عاد معه – الآن – بنفس الخطى إلى حجـرة الدرس …

– وبماذا عبّر رؤياك الإمام جعفر الصادق ؟

قال ، قال الصادق : ألك زوجة ؟

فقلت : نعم ، فقال : ألديك غلام ؟

فقلت : نعم ، فقال : أخرجه من بيتك فإنه لا خير فيه …

قال أبن سيرين : لم يسمى الإمام بالصادق إلا لأنه كـذلك فأفعل ما قاله لك …

( وأعلم أن النمل رؤياه تدل على رجل كثير البركة نفاع لمن صاحبه ويجري في التأويل على ما تقدم والأواني في التأويل خدم وغلمان والقدر والسفرة والسراج فما كان منها مؤنثاً كالمائدة والمسرجة والقصعة فهي الزوجة …) … التفت أبن سيرين على نحو مفاجئ إلى الرجل المقرفص في زاويته متابعاً صمته اليومي كأنه يخفي ما لايجوز إطلاع أحد عليه …

– إن الرجل الذي يأكل بياض البيض دون صفاره هو أنت نفسك أليس كذلك ؟

هزّ الرجل رأسه موافقاً كلام الشيخ بعد برهة صمت مصحوب بخجل لست أدري ما حقيقته …

– هل تقسم على هذا ؟

– أقسم بالله على هذا يا أبن سيرين …

– إذن فقد صدق حدسي ، أنت رجل تنبش القبور سارقاً أكفان الموتى ولن أخفي عليك فقد أرسلت في طلب صاحب الشرطة حين نهضت إلى الباب!…

تلقيت مسرعاً جسد الرجل الذي هجم بحركة لم أكن أتوقعها إلى جهة الشيخ الذي لم يبدِ حراكاً سوى أنه سحب يده إليه التي كان الرجل قد انكب عليها مقبلاً يعلو صوت بكائه …

– إني أعلن توبتي لله خالصة بين يديك يا أبن سيرين ، ولن أعود إلى ما كنت أفعل أبداً…

على الجدب أن يموت يلغي نهائياً من الذاكرة كي تمد الحياة أطرافها خضر في إنشطاراتها المستمرة ليلاً ونهاراً إذ أن إطلاق لجام الزمن للجدب لن ينتهي حتى بانتهاء الروح عارية في زمهرير يذهب الأجنة في أرحامها ، فتنمو في الدروب كلها مقابر لن تخلف في الهواء سوى رائحة الموت تردده أنفاس الخلائق عابرة ذاكرة التاريخ كأضغاث أحلام لا يعبأ بها الرائي والمعبّر مؤسسة في الغطيط أسفاراً جديدة في التيه والإهمال وغياب المعنى …( … وكل ما أخبر به الميت عن نفسه أو عن غيره فهو الحق لأنه في دار الحق خرج من الباطل ومشغول عنه فلا يكذب فيما يخبر به كذلك إذا رأُىَ الميت في هيئة حسنة وعليه ثياب بيض أو خضر وهو ضاحك أو مستبشر …) كان الرجل قد ألقى رأسه بين كتفيه مرتجفاً من بكاء متواصل يجاهد في أن يستره ، فنهضت على إشارة الشيخ مسنداً الرجل إلى الباب مطمئناً إياه إلى حسن تصرف الشيخ إذا ما أنفذ هو وعده بالتوبة مما كان يفعل من نبش قبور الموتى … وحين ولجت حجرة الدرس ثانية طغى على الأصوات كلها معلناً نهاية درسي الأخير صوت المؤذن رافعاً أذان الظهر…

لا أحد سوايّ ينبش الآن خد الرمال الملتهبة ساحباً ظليّ بقوائم البعير الذي دخل في صمته منذ نصف يوم بقي ما يمثله لدخول المدينة حيث تقترب بالتدرج صورة شيخي في مساجدها وطرقاتها ورؤاها جميعاً… محملاً بتحيات أهلي التي تراكمت في مضارب عشيرتي لعدة أيام مضت كاستراحة ستبدأ بعدها إختبارات شيخي لي ، فأما موقفاً وأما سأعود محملاً بأسفار لم أكن جديراً بحملها .

في جهة بعيدة من قرص الرمل الملتحم بزرقة السماء كانت هناك نقطة سوداء ، هل بدأت أهذي أم هو محض سراب ؟!.

مجلس حاشد أفتقده الآن ، ضمني وآخرين بعد صلاة الجمعة قال فيه رجل تبدو عليه سمات الوقار :

– إنني رأيتني كأني أؤذن …

فأجابه شيخي أبن سيرين :

– سيمّن الله عليك بحج بيته العتيق..

وهذا ليس بعجيب إذ إنني فسرت رؤياه بيني وبين نفسي قبل أن يتكلم شيخي ، ولكن إن تتقلب قدور ثقتي بعلمي على أثافيها فهذا عجيب ! إذ نهض رجل آخر أمام الجميع وقص له رؤيا كالأول تماماً إلا إن أبن سيرين تأمله برهة ثم قال مخلفاً لغطاً وذهولاً لدى الكل :

– أما أنت أيها الرجل فستقطع يدك !.

أعدت قرطاس ذاكرتي وسطور ضمت هذا العلم الجليل إلى خرج بعيري ذي السنام الذي حاكى بيئته فأضحى شكلاً مصغراً لتل صحراوي صغير أزحت عنه الغطاء – الآن – مودعاً حرارة نهار يوشك أن ينقضي ، ثم نظرت جهة النقطة السوداء التي تشكلت رجلاً يمتطي فرساً سوداء إنه ينوي دخول المدينة أيضاً وقد يجمعنا مدخلها بعد قليل …

وفي مساء ذلك اليوم خاطبني شيخي أبن سيرين :

– ما بالك يابني ساهماً ، هل لديك شيء تقوله ؟

– حيّرني أمر هذين الشخصين اللذين عبّرت لهما رؤياهما إذ إن الاثنين رأيا إنهما يؤذنان ، فلماذا هذا يحج وهذا تُقطع يده ؟!.

وضع الشيخ يده على كتفي مبتسماً:

– حسبتُ انك فهمت ذلك وحدك ، أما الرجل الأول فكل ما فيه ذكّرني بقوله تعالى وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كلِ ضامرٍ يأتين من كل فجٍ عميق ?

وأما الثاني فلم يضفي لي صوته وهيئته إلا قوله تعالى : ثم أذنَّ مؤذنٌ أيتها العيرُ إنكم لسارقون .

ثم ضحكنا معاً.

– إنها فراسة المؤمن إذن يا شيخي …

وضع الرجل لثامه عن وجه يبدو عليه الغنى واليسر ، إلا ما بدا عكس ذلك من آثار سفر ومشقة طريق ، وكانت المسافة بينهما قد أصبحت بلا مسافة تذكر وسنابك فرسه هدأت لتوازي بشكل ما خطى بعيره …

– ألم نلتق سابقاً ، أيها الرجل ؟

تفرس فيه جيداً مرة أخرى ثم أكمل حين اكتفى الرجل بنظرات مستفهمة يلفها صمت وقور …

– هل تذكرتني ، أنا تلميذ أبن سيرين وأنت الـ …

ولم يكمل مدركاً أن الصمت ستار يقيه الآن مغبة أن ينكأ جروحاً لا بد لها من يوم قادم ستندمل فيه إلى الأبد …

– لا أخفيك سراً يا أخي … لقد كنت أحبها ، وحين عدت إلى البيت حاملاً كلمات الصادق وبن سيرين ، قالت :

– ما بالك قلقاً ، لا يهدأ لك بال ، كأنك خسرت تجارة ما ؟

تعلمين جيداً أن غنياً مثلي لا يعبأ بخسارة مال قط ولكنه أمر آخر أقضَّ مضجعي وطرد عني لذة العيش … سأطرد الغلام من خدمتنا !.

فارتسمت علامات ذهول على وجه المرأة ثم صرخت في وجهي بنبرة لا تقبل الجدل :

– إذا عزمت على طرده ، فطلقني …

وها أنذا عائد عن مواساة أهلها في ضواحي المدينة حيث لم تصبر لديهم سوى أيام قليلة حتى هجرتهم ولحقت بالغلام !…

افترقا – أخيراً- كما التقيا ، لم تعد إلا رمية عصا تفصله، عن بيت الشيخ الذي قدر أنه الآن في منزله يتهيأ للخروج إلى صلاة المغرب … بخطوات اللهفة وحدها أقتحم حجرة الدرس ، كان وجه الشيخ يقابله تماماً وامرأة يلفها سواد كامل ألقى كسائها أطرافه على الأرض من حولها تقف قبالته ، وحين رجعتُ خطوة إلى الخلف أشار الشيخ إليَّ بالوقوف هناك …

تسارعت نبضات قلبي وقطرات خجلة في موقف لاأدري تماماً لماذا حُشرتُ فيه وإلى كيف ستؤول الأمور ؟!.

– هل تعيدين عليَّ رؤياك ياأمة الله؟

أنطلق صوت المرأة متزناً خافتاً بنبرة لن أنساها ما حييت :

– بكل سرور يا إمام لقد رأيت القمر يدخل على الثريا ، وناداني نداء من خلفي : أيتها المرأة قصي رؤياك هذهِ على الإمام محمد بن سيرين وها أنذا أفعل !…

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى