محمد البساطي - أسوار

أمشي وراء الحارس في الطرقة الطويلة، على جانبها تصطف مكاتب إدارة المعتقل. أرض الطرقة من خشب قديم، نحل كثيراً من الوسط، وصريره الحاد يرتفع تحت أقدامنا، تتناثر به فجوات مرقعة بقطع من الصاج الصدئ. للمعتقل مبنى مستقل يفصله عن بقية السجن حاجز من الأعمدة الحديد الطويلة مغطاة بشبكة من السلك، نرى من خلالها المساجين ويروننا، لا نقترب أو هم من الحاجز ولا نتبادل كلاماً، ومن وقت لآخر تحلق كرة من الورق في حجم قبضة اليد وتمرق في الفضاء آتية من ناحيتهم وتتخطى الحاجز لتسقط في ساحتنا. يتراجع القريبون منها ويقفون غير بعيد، ويظهر حارس من مكان ما ويتقدم متكاسلاً، ينحني ملتقطاً كرة الورق وينظر إلى الجانب الآخر، وننظر معه. المساجين في حركتهم العادية، يمشون هنا وهناك في ظل العنابر، ويقضون مستندين بظهورهم الى جدرانها، والشمس الحامية تغطي الساحة. يفك الحارس الكرة ورقة ورقة، يتأمل ما يكون بها من كتابة أو خطوط، ويدير الورقة في يده مرة وأخرى، ولا يجد ما يريب. في النهاية كان يكورها ويرمي بها الى برميل القمامة. أمشي وراء الحارس لأنهي إجراءات خروجي. الأوراق بيده، يدخل من مكتب لآخر، وانتظره بالطرقة أمام باب المكتب المفتوح. الإفراج عني كان لأسباب صحية. لم يكن هناك موعد محدد لخروجي ولا الآخرين في العنبر، وكنا أضربنا من شهر عن الطعام احتجاجاً على مضاعفة عدد مرات الضرب. كانت مرة في الأسبوع وزادت الى مرتين، ولم يستجد في سلوكنا ما يستدعي هذه الزيادة. وربما كان الدافع إليها آتياً من خارج الأسوار، هذا ما فكرنا فيه. إحدى الجرائد كتبت - كما علمنا - تطالب بمحاكمتنا وتحديد التهم الموجهة إلينا. كتبت مرة وأخرى ولم يرد أحد على كلامها، وسكتت. استاء أحدهم على ما يبدو مما كتبته الجريدة، وكان ما كان من مضاعفة مرات الضرب، وربما شطحنا في التفكير، فالواحد لا يكون على يقين من شيء داخل الأسوار. وذهب خمسة منا لمقابلة الضابط المسؤول، استمع لما قالوه عن الآلام المبرحة والجروح في ظهورنا التي لا تجد ما يكفي من الوقت لتجف، وما يحدث من حالات القيء، وصرفهم بإشارة من يده من دون كلمة. كثيراً ما كنت أثناء الضرب من نصيب الحارس الذي أمشي وراءه الآن في الطرقة. كان لدى صدور الأمر بالتوقف يحدق في وجهي بعينين متوهجتين بالغضب والرغبة في معاودة ضربي، ثم يستدير مبتعداً. كنت أول من تهاوى بعد أربعة أيام من الإضراب عن الطعام، وحملوني الى مستشفى المعتقل، وضعوا في ذراعي أنبوب محلول يوماً كاملاً. وجاء البعض من زملائي المضربين مكثوا يوماً في العلاج وعادوا الى العنبر. كانوا من يوم لآخر يعيدون الأنبوب لذراعي ساعات قليلة. وجاء طبيب من الخارج فحصني ومضى، وبعد أسبوع جاء آخر فحصني ومضى. أيام وأيام وأنا راقد في الفراش، وكان هناك من أخبرني بالإفراج عني. استقبلت الخبر متوجساً. وكان سؤالي: - وحدي؟ - آه وحدك. لا أعرف علتي. وطبيب المعتقل حين سألته قال: عادي، علاجك غير متوافر هنا. أتأمل جسدي باحثاً عن آثار لعلتي الكامنة. وهن شديد أحسه عندما أتحرك ورعشة بأطرافي، ربما كانت علتي كبيرة ولهذا أرادوا التخلص مني. أمشي وراء الحارس. ضرباته تركت خطوطاً محفورة على ظهري. يلتفت ويراني متعثراً في مشيتي، يتمهل ويشجعني ضاحكاً: - هانت. يبدو وكأنه لم يضربني كل هذا الضرب، أنا أيضاً أهرول خلفه ولا يخطر لي ما فعله معي. يعطيني نصف سيجارة كان يدخنها: - خذ. بعد خروجنا ندخن على راحتنا. معي علبة كاملة. كانا سيرافقني بعد انتهاء إجراءات الخروج من المعتقل الى الإدارة العامة في العاصمة حيث أحصل على التأشيرة الأخيرة. قال الحارس: أمامنا ساعة على موعد القطار. انتهينا مع نهاية الطرقة، خرج من المكتب الأخير وفي بيده الأوراق، طواها ودسها في مظروف: - كله تمام. حظك حلو. كلهم كانوا موجودين. ودلوقتي للأمانات تستلم هدومك المدنية. وقفت بجواره أمام شباك قسم الأمانات. الأرفف بداخله تصل الى السقف، مكدسة باللفائف، رمقني المسؤول عن القسم من فوق لتحت، بعدها أعطاني ربطة. وذهبت مع الحارس الى كشك جانبي من الخشب ملحق بقسم الأمانات، كان خالياً، به منضدة في الركن مائلة على جنبها، وضعت فوقها الربطة وفتحتها. من النظرة الأولى عرفت انها ليست هدومي. قال الحارس: - كلها واحد. البس. - وهدومي؟ - هدومك لها سنتان في المخزن. - ويجرى إيه؟ - ولا حاجة. ادخل انكش بنفسك لو عرفت. - ومقاسي؟ - الحاج في الأمانات عرف مقاسك وانت واقف عند الشباك. - هدوم مساجين؟ - المساجين لهم قسم أمانات عندهم. ولهم إدارة. ايه تاني؟ كيس صغير وسط الهدوم، به ساعة متوقفة وقلم نشف حبره من دون غطاء ومحفظة قديمة تآكلت أطرافها. كانت خالية، وجاء الحارس ووقف بجواري وأنا أبحث بإصبعي في جيوبها الصغيرة. سحبت صورة كانت مخفية. فتاة في الثامنة عشرة تبتسم، وشعرها كثيف مفرد على كتفها. أعدتها للجيب الصغير، وقال الحارس مبتعداً: - مليحة. ياقة القميص وسخة ومهلهلة وبطانتها خرجت من القماش، السترة واسعة قليلاً والبنطلون أيضاً، ثنيت رجليه واستخدمت الحزام في تثبيته حول وسطي، وحشوت مقدمة الحذاء بالورق الذي يلف الربطة، وتركت ما تبقى منها على المنضدة. دس الحارس الساعة والمحفظة في جيبه وتقدمني، خرجنا من باب صغير واطئ، انحنيت وأنا أعبر عتبته. وهج الشمس الحاد. والصحراء الممتدة حولنا، أمشي لاهثاً وراء الحارس، وحذائي الواسع امتلأ بالرمال الناعمة. ألمح صف أشجار على بعد قليل حيث محطة القطار، وعربات شحن من دون سقف واقفة بالخط الاحتياطي وقد خرجت عجلاتها عن القضبان. وضعت يدي في جيب السترة الجانبي كعادتي حين تشرد خواطري. لم أجد نهاية للجيب، سقطت يدي في فراغ حتى آخر البطانة الداخلية. لمست اصابعي زراً وورقة مطوية طيات عدة. تبينت انه زر مفقود من السترة، له نفس لون الأزرار الأخرى. فردت الورقة. كانت على ما يبدو منزوعة من كراس مدرسي. سطران مائلان يتوسطان الصفحة: «يا جابر. بطني كبرت وبانت. أخاف البقاء في البيت وأخاف الخروج. أخي الأكبر الشك في عينيه. لو تأتي. لن يرفضوك». قرأت الورقة مرة وأخرى، وكأنما أفيق من غفوة. أنظر حولي. أريد أن اسأل ولا أجد من أسأله. صياح الحارس لا يتوقف وكان يسبقني بخطوات، وصوت القطار القادم، والمبنى الأصفر الممتد طويلاً وفوق سوره أبراج الحراسة، والباب الصغير الذي خرجت منه يكاد لا يرى، أشبه بحجر. وانتبه للحارس يجذبني، وأمشي وراءه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى