عبد السلام بنعبد العالي - الجدران الميتافيزيقية

«إن الخاصية المميزة لكل ثقافة هي ألا تكون مطابقة لذاتها. لا أعني ألا تكون لها هوية تحددها، وإنما ألا يكون في وسعها أن تتطابق مع ذاتها، وتقول «أنا» أو «نحن»، وألا تتخذ شكل الذات إلا بكيفية غير مطابقة لنفسها، أو إن شئنا فلنقل، إلا في اختلافها عن ذاتها.

ما من علاقة مع الذات، وتطابق معها دون ثقافة، إلا أنها ثقافة الذات مثلما هي ثقافة الآخر، ثقافة المضاف إليه المزدوج، ثقافة الاختلاف مع الذات»

جاك دريدا

لعل أبرز ما يميز دعاة «فكر الاختلاف» هو تحديدهم للهوية على أنها انتقال وعبور. إنها عندهم حركة. ومن يتحدث عن الحركة والعبور لابد وأن يستحضر قنطرات الوصل فينفي الجدران العازلة.

عندما يرسم فوكو، على سبيل المثال، مبدأ الهوية على الشكل أ = أ، فإن ما يهمه في الرسم ليس طرفي التطابق والمساواة، وإنما قنطرة العبور الفاصلة / الواصلة بينهما. ذلك أن هذه المساواة تنطوي، في نظره، على حركة داخلية لا متناهية تُبعد كل طرف من طرفيها عن ذاته وتقرّب بينهما بفعل ذلك التباعد نفسه. يتعلق الأمر ببعد إيجابي بين المتخالفين، إنه البعد الذي ينقل أحدهما نحو الآخر من حيث هما مختلفان. إلى المعنى نفسه يذهب جاك دريدا حينما يحدد الهوية على أنها حركة توليد الفوارق والاختلافات، «إنها انتقال ملتو ملتبس من مخالف لآخر، انتقال من طرف التعارض للطرف الآخر».

يعتبر هؤلاء أنهم عندما يعيّنون الهوية كحركة انتقال وعبور PASSAGE، فإنهم لا يعملون إلا على الرجوع بكلمة «اختلاف» إلى أصلها الاشتقاقي. في هذا السياق يوضح أحدهم: «لنتأمل كلمة اختلاف DIFFÉRENCE. هذا نقل فرنسي يكاد يكون حرفياً للكلمة الإغريقية ديافورا، فورا آتية من الفعل فيري الذي يعني في الإغريقية ثم في اللاتينية FERI، حمَل ونَقَل.. الاختلاف ينقل إذاً، فماذا ينقل؟ إنه ينقل ما يسبق في الكلمة ديافورا فورا، أي السابقة ديا التي تعني ابتعاداً وفجوة..الاختلاف ينقل طبيعتين لا تتميزان في البداية، مبعداً إحداهما عن الأخرى، إلا أن هذا الابتعاد ليس انفصاماً، إنه، على العكس من ذلك يُقرِّب بين الطرفين اللذين يُبعد بينهما».

ما يهم في هذا التحديد لمفهوم الهوية بطبيعة الحال، ليس لحظة الإبعاد بين الطرفين، إذ أن ذلك يبدو من بدهيات كل تضاد وتخالف، المهم هنا هو كون الاختلاف إذ يبعد بين الطرفين يقرب بينهما. المهم هو القنطرة والعبور. إلا أن هذا التقريب غالباً ما يُهمَل في تحديد الاختلاف، وحتى إن أُخِذ بعين الاعتبار، فانه يُرَدّ إلى مجرد لحظة التركيب الجدلية.

ما يميز «الاختلاف» بالضبط عن الجدل، هو كون هذا التقريب ليس هو التركيب الجدلي، ليس هو المصالحة بين الأضداد. وقد سبق لهايدغر أن شدد مراراً على هذه النقطة، وأكد « أننا لا نقتصر على جمع الأضداد وضمها والمصالحة بينها»، فـ «الكل الموحَّد يَعْرض أمامنا أشياءَ يتنوع وجودُها ويتباين وقد اجتمعت في الحضور ذاته».

الوحدة التي يعرضها أمامنا الاختلاف كحركة لا متناهية للجمع والتفريق ليست هي وحدة الأضداد. ليست هي الهويات الساكنة، والمنطوية على نفسها. ذلك أن الحركة لا تتم هنا بين الكائن وضده أو نقيضه، وإنما تنخر الكائن ذاته. السلب هو الحركة اللامتناهية التي تبعد الهوية لا عن نقيضها فحسب، بل عن نفسها أولاً وقبل كل شيء. الابتعاد والتقريب والعبور يتمّان هنا «داخل» الكائن، إن صحّ الكلام عن داخل. الاختلاف قائم في الهوية. على هذا النحو يلح مفكرو الاختلاف على لاتناهي حركة التباعد. وما يهمهم في تلك الحركة، ليس الطرفين، أو على الأصح ليس الطرف الهارب من نفسه، وإنما القنطرة التي تضع الزمان «داخل» الكائن، فتحُول بينه وبين الحضور والتطابق. لذا فهم يميزون الهوية LE MÊME عن التطابق L´IDENTIQUE. ويعتبرون الذات في تباعد عن نفسها، كما ينظرون إلى الآخر، لا على أنه ذاك الذي تفصلني عنه الحواجز والجدران، وإنما هو، أولا وقبل كل شيء، بُعد الذات عن نفسها. فلا مكان في نظرهم لهوية متوحشة معزولة تقوم في غياب عن الآخر، وهم يطرحون الاختلاف على مستوى الأطروحة قبل «الخروج» نحو النقيض. ويرون في ذلك لا عمل السلب وحده، بل عملاً إيجابياً، عملاً بنّاء «يشكل» الهوية ويبنيها.

ما أبعدنا هنا عن كل ما يروج في أغلب العواصم الغربية التي لا تكفُّ عن ترديد عبارة «التعدد والاختلاف»، من مقاومة عنيدة لكل أشكال العبور. لا نعني هنا أساساً لجوء بعض تلك العواصم لتبَنِّي أفقر أشكال الهوية، وأكثرها سكوناً وانغلاقاً، وأقلها حركة وانفتاحاً، وللتجسيد المادي للانفصال وإقامة جدران من أسمنت وحجر لتفصل البشر وفق ألوان بشرتهم، وأنواع قيمهم وأشكال ثقافاتهم، كما أننا لا نشير فحسب لتلك الجدران «المعنوية» التي تبدو أقل صلابة من الأولى وأخف وطأة وأضعف حضوراً لكونها تتخفى وراء قوانين تشريعية، أو مؤسسات إدارية، أو وزارات تحمل أسماء مراوغة، كوزارة الهجرة، أو وزارة الهوية الوطنية، أو حتى وزارة «الاندماج» والتكافل، ونحن لا نقصد فحسب تلك الجدران «اللامرئية» التي لاتكف عواصم الغرب تذكّرنا بها كلما طلبنا «تأشيرة» عبور، مهما كان شكل العبور الذي نرومه، ولا نقصد فحسب هذه الجدران التي ما تفتأ عواصم الغرب تزرعها، لا في نفوس من يَفِدون عليها فحسب، وإنما في نفوس أبنائها ومواطنيها، وإنما نعني أساساً الجدران الأنطلوجية التي تعود بنا لمفهوم قبل- جدلي عن الهوية يردها إلى أفقر أشكال التطابق، وينزع عنها كل حركة، وينفي عنها قدرتها على العبور، ويحول بينها وبين توليد الفوارق إقحاما للآخر في الذات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى