هدى الغراوي - ولادة الطين

لم تكن تملك مرآة لتحدّق فيها، تصغي إلى عقارب الساعة، وهي تمضغ ملامح سعادتها، الجراح أصبحت أشد وطأة من سنين عجاف عاشتها بين الموت والحياة، تؤلمها شروخ الجدران التي تئن من البرد هي الأخرى، نافذة مشرعة على مقبرة، خرقة تبلّلت بفعل الأمطار تستر هيكل باب فاغر فاه، الطين ترك آثار أقدامه في كل مكان، بيت يتنفّس ما تركه الأموات من ذكريات، أدوات أكلها الصدأ كذلك السلاح حين خبّأه جدّي في كومة من الحديد خوفاً من أن يعبث ابنه به. أحبَّ أخوها بنت خالته وأرادها زوجة له؛ كان لابد أن يدفع ثمناً ليحصل على مراده، اعتادت على رائحة العدم، تقسو المسافات حين تكون حلماً، تحدّق في ثوب جديد على واجهة المحل تتلمّسه، تسري في نفسها فرحة خفية، تتذكّر أنها لا تملك سوى ثوبين، تلتفت إلى زوجها، تخشى أن تطلب منه. . . وقبل أن تتفوّه يبتسم؛ يسحب الثوب، يقلّب أقمشة أخرى، يمازح صاحب المحل، ثمَّ يعود إليها وهي ما تزال في دهشة: ــ هذا لكِ.. يجرّها بقوّة من فراشها وهو يصرخ هذا لكِ.. انهضي وخذي هذا الكفن، يركلها بقدمه، ثمّ يرمي بوجهها، ثوباً نشرته مع ملابسه، تنساب دموعها بغزارة. صباح مشؤوم تشعر أنها نقطة ضوء مشوّهة قذفها القدر في رحم الظلام، تمضي في تيه بأمتار معدودة، نسوة يحملن أثقالاً، صراخ وعويل يملأ المكان، إحداهن يغشى عليها، وهذه أصفرّ وجهها من الخوف، عجوز تستعرض قوّتها وتجربتها في وقت لا يكون للحكمة آذان مصغية، تقصّ ذكرياتها حين جاءت بمفردها إلى هنا، تحثهنَّ على المشي جيئة وذهاباً.. جارتها أخذت تصغي إلى حكاية امرأة تريد الطلاق من زوجها وتناست أمر صديقتها، تحاول خدش وجهها، تصرخ من الألم، تتضرّع إلى اللّه، في الجهة الأخرى تسمع صوت فرح، تمنّت أن تملكها السعادة بعد قليل، من الصعب أن تواجه ملك الموت في حالة من الهستيريا، يذهب بك الجنون حين تكون غريباً في زمن ملطّخ بسناج أسود، الأمل هو أن تتمسك بأوهام تصنع منها أحلاماً بعيدة المنال لتواجه بعد ذلك تعاستك، كيف للأم أن تميّز الأوجاع إن كانت أُنثى، لماذا عليها أن تكون ضحية قصّة حبّ لم تتذوّقها، مشاعرها أصبحت أرواحاً تلفظ أنفاسها الأخيرة، كلّما سمعت تهديداته تتمنّى لو أنَّ الله خلقه من جنسها، سقطت تبكي بينما كانت أمّها تتلوّى في صالة الولادة، طلقها بعد أن أنجبت له البنت الثالثة. رجعت إلى بيت أبيها الّذي تآكل من شدّة العِوز، بيتاً تسكنه الأرواح إلّا من شيخ أقعده الدّهر على فراش المرض، اضطرت أن تكون المسؤولة عن عائلة تعصف بها رياح الضّياع، أمّها لم تعانِ كثيراً من الموت، عندما بلغت الحياة جنونها، أسرع المرض ينهش في ثدييها، تذْكر لنا كيف رأتها كخشبة يحزّ المنشار فيها، صرخة والدها جعلتها تدرك أن ليس من حقّها أن تعيش بسعادة، أيتمتها ألسنة القدر، حين تسير حافياً تشعر أن الأرض فتاة لم تفض بكارتها بعد.. لا تريد أن يقربها الغرباء؛ كانت كهذا الحال حين اجتثت من الحنان.. جميعهم ينظر إليها بعين العطف ذلك ما جعلها تفهم أن للدموع أحاديث، تقمّصت دور الأم منذ طفولتها، أصرّ أبوها أن يكون وحيداً، ربما هذه حسنة كبيرة أعدّها اليوم له، كيف سيكون الحال لو كانت تحت سوطين من الظلم. زوايا ما تزال تحفظ نشيج أخته تحت المطر، قالت أنّه منعها من دخول البيت في ليلة كان البرد فيها يتشبث بالظلام، لأنّها نست أن تغسل ملابسه، تخلّى عنهم بعد سنوات ثمناً لسعادته. لم تجد أيَّ وظيفة تعمل فيها، فهي لا تعرف الكتابة والقراءة، قرّرت أن تلتحق (بمعمل الطّابوق) مع أرامل يرتدين الحزن خوفاً من العوز، الموت أحياناً يأتيك بملامح كائن حيّ ينفث في وجهك بقية سمومه، تجرعن الغربة في وضع لا مفر منه، عندما تكون المرأة أرملة عليها أن تكون أم باكر ورجل يجابه المصاعب في آن واحد، راحت تشتغل من الخامسة صباحاً وحتّى آخر النّهار، صار كلّ همها أن تبعد بناتها عن مرارة الحياة الّتي عاشتها، تعود عند السّاعة الثّانية عشرة ظهراً، بطون تضجُّ بالخواء وقدور مشرعة على مذاق الفقر، تحدّق في بناتها وتبكي من القلق الّذي يداهم واقعها، ترجع إلى سجنها تحت خراب الزّمن، معمل كأنّه قبوٌ تستودع فيه آمال تهشم واقعها، حتّى أضحت سراباً في عقر صحراء هائجة بعواصف النِّسيان، لفحت وجهها حرارة الشّمس؛ امتصّت لون بشرتها، أحالت ثيابها أسمالاً، تشيّع أطياف شبابها مع كلِّ حمل تلقيه على ظهرها. اليوم علي أن أحفظ تجاعيد الفقر جيّداً، أمّي ما عادت تقوى على القيام، أنا الآن بمقاس الموت تمارسه تماماً، جدّي رأيته آخر مرَّة كأنّه قطعة أثرية في لوحة من خشب، عندما يموت إنسان طاعن في السنّ، تشعر كأنَّ مدينة سقطت بأكملها، يرحل معه كلّ شيء إلّا ذلك الجدار الذي كان يتّكئ عليه، وحيداً سيظل يحدّق في فراغ مبهم؛ كأمّي التي أهلكتها الأقدار، بعد أيّام من دفنه، طردنا خالي من البيت، وها نحن نسكن هنا منذ أعوام بين هذه النفايات، حين تتأمّلها جيّداً؛ سيتضح لك إنَّ كل هذا الخلق يمارس العبث كي يهرب من المجهول الذي لم ولن نعْلمه أبداً.


[SIZE=5] القصة الفائزة في المركز الاول لمسابقة رولا الحسينات للأدب النسوي [/SIZE]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى