رامية نجمية - القاتلة.. قصة قصيرة

اليوم تنبَّهتُ إلى أنّني أصبحتُ أتمنى اختفاءهُ مِن حياتي؛ وَليتمَّ ذلك تحت أية ذريعة: سفر، رحيل.. أيّ شيء، إلا الموت؛ فإنه ليس من أمنياتي. فإنه يستحيل علي أن أتمنى انقطاع الأنفاس عن أحدهم، وأنا التي أقدِّس الحياة ولا أتمنى زوالها حتى لأعدائي... إنّي أتألَّم مَع كلِّ زهرة تذبُل... والنَبتة في حديقتي أرعاها وأسقيها وأتوجَّع إن داستها قدَم... حتى الحشرات التي تتأفّف مِنها بناتُ جنسي أتأفّف أنا مِن قتلها... إنه ليسَ ذنب الصرصور إن كان مُقزّزا، ولا جريمةَ البعوضة إن كانت حياتُها رهينةً بِبُلالة دمٍ في عروقنا.

22يناير/كانون الثاني 1974

الحياة هِبة مُقدَّسة، لا يمنحها البَشر ولا يحقُّ لهم _إذا_ أن يسلُبوها. وأنا لم أكن أتصوّر في يوم مِن الأيام أني أستطيع أن أتخيّل _مجرّد تخيُّل_ في أني قد أكون أسعدَ لو أنَّ الحياة تُنتزع مِن أحدِهم انتزاعاً.. لكنَّ هذا الذي صرتُ أفكر في موته وأتمناهُ ليسَ أيّ أحد، إنه أقربُ الناس إليَّ، والرجلُ الوحيد في حياتي، وهو في آن الوقت، المُسمِّم الوحيد لحياتي

مايو/أيار 197406

في البَدءِ كان تفكيراً وحَسب، أيستطيعُ أحد أن يُدين التفكير؟

أيُعقل أني أذنبتُ إذ فكّرتُ بأنَّ حياتي أنا، ستكون أفضل لو تمكّنتُ مِن إنهاء حياته هو؟ هل أصبحت بذلك إنسانة شريرة؟

كلا، إنه ليسَ مِن الشرّ في شيء أن يُحاول الإنسان الدفاع عن حياته وأحلامِه، وهذا الرجل سرقَ أحلامي كلّها، إنّه يخنقني منذ سنوات، لا يتركني أعيش، و لا يتركني أرحَل، ولا يَرحل هو لأرتاح.. لقد أضاعَ مِن عمري أجمل السنوات، وها هو الآن يُضيع ما تبقى ... آه، كلَّما فكَّرتُ بأنّ اكتمالَ سعادتي رهين باختفائه من الوجود، أتمنى لو أنّي أستيقظ ذات صباح فلا أراه!

12يوليو/تمّوز 1974

لقد اتخذتُ قراري ... سأقتُله... سأسلُبه حياتَه البئيسة... حياتُه ليسَت ذات قيمة، إنَّه إنسان تعِس، يعيش ليُعذِّب ويتعذَّب. لا شيءَ يُمتِعه، لا شيء يُسعده، لا شيء يُعجبه... يحبِس نَفسه بين جدران هذا البيت ويحبِسني معه. يصرخ في وجهي لو حطَّت على وجهِه ذبابة، ويمدُّ يدَه عليّ عِوضَ أن يمُدّها لي...

إنّه فارِغٌ ومخيف كفزّاعة، لا أحدَ يُحبه، ولا أحد يُطيق صُحبته... هو يعرف هذا جيدا، يعرف أنَّه ليس هناك مَن يتحملّه سواي، وأنّ الموتَ سيكون مآله إن هجرته، لذلك لا يفُكُّ وثاقي... يُراقبني بعينيه الضيّقتين طوال اليوم، ويعلّق على كلّ خَطواتي... إنّي أنا أكون لعبتُه، التي إن ارتاحَ لها فكّكها، وإن سئِم منها كسّرها.. أن أقتلَه أو أن أنتظِر موته سِيان، في الحالتين لا أتمنى أن يطولَ عمرُه، وتمني الموتَ لأحدِهم جريمة كقتلِه... وإني متأكدة أنَّ الله سيسامحني على جريمتي، ولئن التقيتُ بمقتولي هناك سيسامحني أيضا، لأنّه فقط في حياته الأخرى سيدرك كَم عذبني وآلمني وسقاني مِن العذاب مُرّ الكؤوس... سيدرِكُ أنّي لَم أمتلك الخيار... ولرُبَّ موتٍ يحيقُ به الآن ويحمله إلى الآخرة مَظلوما خيرٌ مِن حياة يحصُد فيها المزيد من الذنوب والذنوب...

استجمعتُ همَّتي أخيرا... وأما طريقةُ قتله فإنها أمرٌ هيّن... إنّه رجل كهل، أقربُ إلى الشيخوخة، صِحته ليسَت في غاية المتانة، ثمّ إنّي أنا التي تطبخ طعامه، وتنظّف ثيابه، وأنا المسؤولة عَن كلِّ أشيائه... حسبيَ أن أترَك النوافذ كلَّها مفتوحة في حَضرته حتى يصيبه داءُ الرئة، أو أُهمِل في نظافة ما يأكل حتى تتفجّر أمعاؤه، أو أُكثِر له مِن المُملّحات والمَقلِيات، وأُتخِمه بالمثلجات والحلويات، حتى أرفَع ضَغطه وسُكّره، أما إذا فعلت به كلَّ هذا دفعة واحدة لأبكين في جنازته أسرع مما أتصوّر، ولتكوننّ هذه بحقّ، أوّل جريمة كاملة!

1غشت/آب 1974

قبل آذان الظهر بقليل، أنا في الداخل، قُبالة الباب الخارجي، وهو ملفوف في غطاء فوقَ نعشٍ يتعاون على حملِه ستةُ رجال.... في الخارج جوقةٌ كبيرة من الناس احتشدوا حولَ بابِنا في صفَّين؛ واحد للرجال وآخر للنساء.. أراهُم كلُّهم يبكون... يشهقون... عيونُهم مُحمرّة... أنوفُهم مُختنقة... يرتعشون من هول المشهد. مشى الرجال بالنّعش وأنا أتتبعه بناظري حتى قطع الطرقة الطويلة والتفَّ نحو اليسار، أما سيلُ البَشر المُتدفّق الذي يتبعُه مازال ينثال من كل الجهات... أيُّ مسجدٍ سيحمِل كلَّ هؤلاء؟ ومن أين جاؤوا؟ بينهم وجوهٌ لا أعرِفها، ووجوه وجدتُ صعوبة في تذكرها... لا أذكُر الآن إلا أنَّ أصواتا تناهت إلى سمعي وهي تردِّد عبارات مِن قبيل:

كان رجلا طيبا. -

-كانت الابتسامة لا تُفارق وجهه ...

لم يفوّت صلاةً في الجامع ......-

كان يحبُّ الجميعَ والجميعُ يحبّه ......-

8غشت/ آب 1974

أعترفُ أنّني لستُ سعيدة وأني لا أتوقّف عَن البُكاء ... تُطارِدني صورتُه وتترصّدني الذكريات... هذا هو الباب الذي كانَ يدخل مِنه واقفا على قدميه، مُحمَّلا بالمُشتريات... وهو ذاتُه الباب الذي خرجَ مِنه محمولا في نعش.. وهذا هو الكُرسي الذي كان يجلس عليه ليتلو مُصحفه ورائحة المسكِ تفوحُ مِنه، وهو نفسُهُ الكرسيّ الذي كان جالساً عليه قبل أن نجِدهُ ذاتَ ليلة مُلقى على الأرضِ مُزرقَّ اللون تفوحُ منه رائِحةُ النتَن... أقاربي الذينَ استنجدتُ بهِم لمّا رأيتُه جُثة أجمعوا على أنّهُ توفِي في الصباح الباكر وسألوني كلُّهم بلسانٍ واحد:




كيف لم تكتشفي أنّهُ مات إلا بعدَ مُضيّ ساعات على ذلك؟-

-كيف لَم تُلاحظي غيابَه وأنتِ وحدَك تقيمين معه؟! كيف لم تتفقّديه؟!

بُهِتُّ أنا؛ فلم أجد بأسئلتهم جواباً يليقُ أن يُقال...: أأقولُ لهم إني لا أكلّمه منذ شهور؟

-أأقول لهم: إني أتعمَّد الاختفاء عَن عينيه حتى لا يُغرقني بطلباته كطفلٍ صغير؟

أأُخبِرهم أني ضَجرتُ منه حتى فكّرتُ في قتلِه؟-

-لكن أنا لَم أقتله... لَم أجعل البيتَ منفذَ تياراتٍ هوائية، ولَم أحرِص على إطعامه المَقليات، ولا أكثرتُ المِلح ولا السكّر في طعامه... اهتمامي بنظافة البيت بَقي كمَا كان... أنا لَم أقتله! قرّرتُ ذلك، نعم، لكني لم أقتله! أنا فقط كرهته؛ ثم أهملته وتجاهلته... اعتبرتُه ميتا بالِفعل فَمات... فهل يقتُل التجاهل أو الكُره والإهمال؟

أني الآن في أشدّ لحظات حزني وألَمي... وأشدّ ما يوجعني ويقضُّ مضجعي هو هذا السؤال اللّعين؟!

تُرى كَيفَ ماتَ أبي؟!



* القصة الفائزة بالمركز الثاني لمسابقة رولا الحسينات للادب النسائي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى