عبـد الحكيـم قاسـم - الصـوت

حكيم قاسم.jpeg

أجرى، لا أدرى ما الذى أهرب منه ولا الذى أبحث عنه، لكن أجرى بكل ما فى القلب من عزم وما فى الجسم من مروة. صفا المصابيح على جانبى الشارع يدهشهما وقع خطوتى على ثلج الرصيف، ينظران إلى بعيون صفراء تتسع دهشة واحدة بعد الأخرى، وأنا أحث الخطى، تغوص منى الأقدام فى هشاشة هذا السكون السرمدى المليء بأسرار الظلال الشاحبة والضوء الأصفر.
هذه أرض النهار فيها وجيز وشمسه معلولة تسطع على أرض مكدس فيها الثلج ، والليل يمد جناحيه فيها على ثلاثة أرباع دائرة اليوم ، وأنا أدور يائسًا مكدودًا فى هذه الدائرة الباردة المبلولة مخنوق القلب ، أعرف أننى سأمشى إلى يوم الدينونة ، وإنه لمحزن أن أقدامى هذا الصباح فى الخامسة رأيتها ، السيدة وعربة طفلها . كل يوم فى هذه الساعة وفى هذا المكان أراها فيمتلئ قلبى أمانا ، إنها تميمتى ، وربما أخشى أن تفوتنى مقابلتها ذات صبح أكثر مما أخشى أن أتأخر على عملى. وإذا ما وارتنى على الجانب الآخر من الشارع ما حنيت عكس اتجاهى ، تشربت حواسى تلك العرامة الكامنة فى رسم أم والدة تحمل وليدها ماضية لشغلها .. حينئذ يجلجل فى قلبى غناء أسيان ، تراتيل قداس ، تراتيل حضرة ، استغاثة مؤذن ، أو آهات من مواويل الصبر .
لكنه الصوت العصبى ، الصوت الذى لا أستطيع غناءه ، سأظل أغنى حتى أجده ، مبحوح ثقيل القلب ، لو أننى كففت ، لو أننى وقفت ، إننى إذن سأسقط ميتا .
أمامى اليوم – وكل يوم – عمل شاق حتى المساء . يبهظنى الاشفاق والوجل ، لكننى أمضى بلا تردد . لم أكن أتصور أبداً أننى أملك هذه القدرة على استمرار العذاب ، والتعلق بالوهم الكامن مخبوءا خلف الحقائق الصقيلة السطوح الحادة الزوايا . كأننى أقول ، حاضر لو امتلأ القلب بكبرياء الظن بعد أن استحال كبرياء الحقيقة ، أن الواحد إذن يألم ولا يبث ، وتبقى له قدرة الحرب على الأشياء .
وحينما نزل ذلك الصديق برلين الغربية طاف بى فى ذات مساء . جلست قبالته محطما متعبا ، وهو أطل على بوجهه السمين وملامحه الوسيمة ..
- لماذا ..؟ أى سؤال معضل عويص الإجابة يرمى بك فى هذه القرية وهذا الشتاء ..؟
يقول وأنا صامت . ونحن هنا أيضاً فى صمت ، فى غرفة الاستراحة حول مائدة غذائنا . عرب وأتراك وإيرانيون وزنوج وغير ذلك .. نلوك اللقم وما يوصلنا ببعضنا من كلمات ألمانية عاجزة . هل أطل عليهم من فوقهم بوجه سمين وسيم الملامح وأفدحهم بالأسئلة العجيبة . لا أملك هذه الفصاحة. وهزنى هذا الزمن بأسئلته ، يوشك أن يثقل عبؤها كاهلى أسقط بلا أدنى أمل فى أن أقوم .
لكننى أتصنت على قلوب هؤلاء الرفاق أريد أن أسمع الأصوات . ناس من أزقة مدن جنوب آسيا. من أكواخ القرى فى جنوب أمريكا ، من غابات إفريقيا ، ناس غليظو الأقدام مبقعو الجلود شائهو الملامح . حجيج هائل . من فجج الجنوب أتوا ونحن هنا التقينا . كيف هى فى كل صقع من أصقاع جنوب الدنيا الجوامع والكنائس وحلقات الفرح وحلقات الحزن ، كيف هى القراءة والترتيل والعديد والغناء ، كيف هى الأصوات . أتسمع .
أتذكر المقيدين بالسلاسل إلى مجاديف السفن ، العاملين تحت وقدة الشمس فى مزارع القطن والموز ، العاملين فى برودة الفابريقات الثلجية . أتذكر غناء الناس المكبلين بالسلاسل بالخوف ، بالعجز ، بالرغبة فى أن يجدوا الصوت العصى الذى لا يستطيعون غناءه . سأظل أغنى حتى أجده ، مبحوحا ثقيل القلب . لو أننى كففت ، لو أننى وقفت ، إننى إذن سأسقط ميتاً .
أضرب بأقدامى فى الثلج والصمت والقامة حتى لتدهش من تصميمى ولهوجتى مصابيح الشوارع . هكذا كنا جميعا ونكون ، لا تسل عن السفن تمخر عباب المحيط ، ولا عن الطائرات ، ولا عن شواهق المداخن على سطوح المصانع الهائلة . لا تسل عن عدة الحرب ولا عن عدة السلم ، بل سل عن غنائنا واسمع لأصوات قلوبنا .مازلنا نغنى يزداد الغنى ويزيد فقرنا ، يزداد النعيم ويزيد بؤسنا ، نأتى من أصقاع الجنوب حجيجاً رثاً بائساً يغنى باحثاً عن صوته .
نحن فريق من العاملين فى هذا المصنع . من فوقنا يحلق ألمانى حاد العينين مفرود الجناحين كحدأة عجوز ينقض فوق كل هفوة ويمزق صاحبها تمزيقاً . أسلم نفسى مع الآخرين لعذاب اليوم ، ننخرط فى العمل دائمين زائفى العيون .
من العاملين معى يربطنى برفيق إيراني أنه لا يعرف كلمة ألمانية واحدة . الصمت بيننا عميق وموحش حتى ليوشك أن يكون خوفا كذلك الذى أحس به إزاء مناطق موغلة فى البعد والغموض .
نتحاشى أن تتلاقى عيوننا أو أن تتقاطع فى حركتنا سبلنا . لكننى أحمل ملامح وجهه فى خيالى وأقول فى نفسى إنها ليست سوى مفردات من الشوق والألم عرفتها فى مكان ما وزمن ما ، بل إننى ربما عرفتها فى كل مكان وكل زمان . أتجنبه وأراه . أبتعد لكنني لا أنفصل عنه حتى كان أن أقبل على .
الوجه فيه ابتسام ليس أنبل منه وفرحة ليس أصفى منها . لوح كأنه من فوق صخرة تحتشد تحتها الدنيا وتسمع له ..
- هنا القاهرة .
كيف أننى كنت نسيت هذا الصوت ، حينما كان مذياع القاهرة يقول فيهتز العالم ، حينما كان صوت القاهرة هو صوت المغلوبين والمقهورين والذين يحاربون حتى تكون الدنيا أحسن . تذكرت . عادت تتدفق فى عروقى فرحة كانت مطمورة منسية . حمدت لصديق تحيته وتذكرته . مشى ومشيت كل ينهمك فى عمله .
أعود إلى بيتى فى الثلج والصمت والعتمة . كان نهارا وجيزا ذا شمس معلولة دام وهنا ثم مات . لكنه بقى يضيء وجه ذلك الرفيق فى العمل . وإذا يغني قلبي فإن ذلك الصوت يعلو وينضح.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى