أحمد الباقري - غربة

استيقظ عبد الحميد عيسى في صباح يوم بارد , فهرع الى غرفته واتجه الى مكتبته و فتح بابها واخرج قنينة عرق كان قد خبأها في زاوية الغرفة , وجلس على كرسي امام المنضدة التي اعتاد ان يقرأ الكتب عليها ذلق السائل في قدح وسخ وجرعه على مضض , نظر الى رفوف المكتبة التي ضمت كتبا متنوعة ويغلب عليها كتب الادب , تراءت له مثل جثث متخشبة مرصوفة على رفوف ثلاجة في مديرية الطب العدلي .لم يشعر بألفة مع الكتب , كانت مثل كائنات غريبة و مسوخ تكتم رياحا شريرة و مدمرة في ثناياها , شعر بغربة غريبة , وكان يشعر بالغربة في منزله و خاصة عندما يجلس مع افراد عائلته حين يتسامرون بعد العشاء , اذ يجلس ساهما بينهم وهم ينكتون , ويتحدثون عن اشخاص لا يعرفهم او عن اشخاص يعرفهم لكنه لا يأبه لوجودهم , اولئك الاشخاص الذين يعتقدون في قرارات انفسهم بأن وجودهم ضروري في الحياة ولولاهم لتوقفت الحياة وشاع الموت في كل مكان , كان يسميهم ( التافهين ) لأن وجودهم تافه ولم يقدموا حتى ولو ورقة صغيرة الى شجرة الحياة , بعد ان شرب كأسه الوحيدة , خرج الى الصالة , فوجد افراد عائلته متحلقين حول مائدة الفطور كانت اصواتهم الصباحية متحشرجة ويتكلمون همسا . حياهم بتحية الصباح , و قال لهم بطريقة خطابية :

ـــ ( اريد ان اخبركم بشيء خطير . لم اعد استطيع ان اعيش معكم , وذلك لأني اشعر بالغربة بينكم , وقد اديت رسالتي العائلية .) ثم التفت الى ابنه محمود و قال له : ( انت الان يا محمود طبيب معروف و تستطيع ان تعيل العائلة , لذلك ستكون القيم على شؤونها و لك كل الصلاحيات في اتخاذ القرارات و تزويج اخواتك والاشراف على تربية اخيك (( منذر)) . ) ثم نظر الى زوجته وقال لها : ( اما انت يا شريكة حياتي , سأبعث اليك كتاب طلاقي منك حتى تكوني حرة و ربما يستهويك الزواج من رجل اخر اذا احببت)

ذهل الجميع , قالت له زوجته : ( ألم انهك عن شرب الخمر , فها انت سكران في هذا الصباح . ولم يكن كلامك سوى هذيان رجل ثمل , اني لا اخذه مأخذ الجد . وعندما تفيق من نشوة الخمر ستندم على ماقلته .)

قال لها عبد الحميد : ( لست سكرانا , ولن اندم على قرار اتخذته بعد تمحيص دقيق لأموري . اني جاد كل الجد في هذا القرار , استودعكم الله الان .)

عاد الى غرفة النوم , ابدل ملابسه , ثم وضع حاجاته الضرورية و بعض ملابسه في حقيبة كبيرة , وتناولها وحملها وخرج من البيت .

مضى الى فندق قديم في شارع كثير النفايات , دخل من بابه حاملا حقيبته , اتجه الى غرفة الادارة , شاهد مدير الفندق جالسا يحدق في سجل النزلاء, سلم عليه وقال له : ( اريد غرفة وحدي بسرير واحد , واذا كان فيها سريران سأدفع لك اجرة السرير الثاني .)

قال مدير الفندق : ( حسن , عندنا غرفة فارغة ذات سريرين . ) ثم استأنف قائلا : ( اعطني جنسيتك لأسجلها في سجل النزلاء .)

مد عبد الحميد يده في جيب سترته الداخلي و اخرج جنسيته , قال له : ( خذ هذه جنسيتي .) تناولها مدير الفندق و سجل المعلومات اللازمة في سجل النزلاء . ثم اعادها اليه , و سأله : ( هل عندك امانة ؟) قال عبد الحميد بحسم : ( لا ) ثم هتف مدير الفندق مناديا عامل الفندق : ( حسن , خذ حقيبة الاستاذ عبد الحميد و أوصله الى غرفة رقم (7 ) . قال العامل حسن : ( نعم يا سيدي ) . تناول الحقيبة و مضى ماشيا في الممر وكان عبد الحميد يتبعه ووصل الى الغرفة ( 7) وفتحها بالمفتاح الذي اخذه من لوحة المفاتيح و قال له : ( تفضل ادخل يا استاذ , انا في خدمتك , اذا تحتاج أي شيء ما عليك سوى ان تضغط على زر الجرس ذاك وسأحضر حالا لتلبية طلبك .) قال عبد الحميد مبتسما : ( اشكرك , هذا لطف منك . ) فسلمه مفتاح الغرفة ثم غادر الغرفة . وضع عبد الحميد الحقيبة على منضدة في زاوية الغرفة و فتحها و اخرج محتوياتها و علق ملابسه على مشجب في خزانة خشبية قديمة .

كان عبد الحميد عيسى موظفا متقاعدا , احيل الى التقاعد من وظيفته في السنة الماضية , وكان يستقطع من راتبه مبلغا لشراء الخمر و كان يعطي الباقي الى زوجته كمصرف يومي للعائلة . كان يقضي نهاراته في المقاهي … اذ انه لا يتحمل الوجود اليومي في مقهى واحد فكان يتنقل من مقهى الى مقهى , لم يكن لديه صديق , كان وحيدا , اما لياليه فكان يقضيها اما بشرب الخمر او بقراءة الكتب الادبية .

انه الان في غرفته في الفندق , نظر الى النافذة المغلقة , اتجه اليها و فتحها , فدخل هواء بارد منها وبدل هواء الغرفة الزنخ , مد يده الى جيبه و اخرج محفظته و اخرج منها النقود , عدها هز رأسه كأنه اتخذ قرارا سريعا , ثم خرج من الغرفة و اغلق بابها و قفلها بالمفتاح الذي حمله الى لوحة المفاتيح و علقه عليها , ثم القى تحية الوداع على مدير الفندق , وخرج الى الشارع . ثم اتجه الى شوارع فرعية و مضى الى خربة و نادى : ( راهي ) خرج راهي من خلف ثلمة في جدار الخربة , فقال : ( اهلا و سهلا يا استاذ عبد الحميد … ماذا تريد ؟ ) اجابه : ( اريد حصتي التموينية ! اريد قنينة عرق كاملة .) قال راهي : ( انا في خدمتك ) ثم دلف في الثلمة و خرج حاملا كيسا نايلونيا اسود فيه قنينة عرق و قال : ( هذا ما اردته يا استاذ ) . تناول عبد الحميد الكيس النايلوني و اخرج منه قنينة العرق , نظر اليها ثم اعادها الى الكيس , واخرج حزمة من ورق النقود و ناولها الى راهي و شكره الاخير , ثم التفت عبد الحميد الى الخلف و شرع يمشي في ذلك الشارع المقفر , وصل بعد لأي الى الفندق و دخله و هو يسحب انفاسا ثقيلة , دخل من باب الفندق , كان الوقت ضحى , و كان مدير الفندق يتناول فطوره , سلم عليه عبد الحميد فرد عليه التحية و اشار الى الكباب قائلا : ( تفضل يا استاذ عبد الحميد ) قال عبد الحميد : ( اشكرك بالعافية , تناولت فطوري في البيت ) ثم اتجه الى لوحة المفاتيح و اخذ مفتاح غرفته و مضى ماشيا في الممر و لما وصل الى باب غرفته ادخل المفتاح في ثقبه و اداره بأناة و دخل في الغرفة , ثم اغلق بابها و قفله بالمفتاح . اتجه الى المنضدة , وضع القنينة عليها واخرج قدحا من الخزانة و صب فيه العرق و لم يخلطه بالماء و جرعه كأنه يجرع عصير الحنظل , وكانت مازته تفاحا , وبقي ثلاثة ايام يتغذى من مازاته … بعد ثلاثة ايام , سأل مدير الفندق العامل حسن : ( هل ترى الاستاذ عبد الحميد ؟ ) اجاب حسن : ( لا ) سأله المدير بأستغراب : ( ألا تنظف غرفته ؟ ) اجاب حسن : ( لا ) سأله المدير : ( لماذا ؟) قال حسن : ( كلما اذهب الى غرفته اجدها مقفلة من الداخل .) طلب منه مدير الفندق ان يخرج من خزانة الادارة المفتاح الاحتياطي لغرفة رقم ( 7 ) , اخرج حسن المفتاح و ناوله الى مدير الفندق , فقال الاخير : ( هيا .. نذهب الى غرفته لنتفقد حاله .) ذهبا عبر الممر , ادخل المدير المفتاح في الثقب و اداره و فتح الباب , دخلا , شاهدا عبد الحميد نائما على المنضدة و بجانبه قدح فارغ و قنينة فارغة , دنا منه المدير و رفع رأسه , كان مغمض العينين و شاحب الوجه , جس صدره , كان قلبه متوقفا ندت من المدير آهة عالية و قال مرتعبا :

( حسن … الاستاذ عبد الحميد ميت ) صاح حسن : ( ماذا ؟ ) ثم اردف قائلا : ( هل عندك عنوان بيته ؟ ) اجاب المدير : ( لا … لم يعطني العنوان اذ قال لي انه تشاجر مع عائلته و خرج من البيت غاضبا و لا يريد العودة اليه .) سأل حسن : ( ماذا نفعل الان ) اجاب المدير ( سأتصل بالشرطة و ابلغهم بموته . ) رجاءي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى