موسى الهاشمي – الحديقة الميّتة

ليس لدينا ما يبين أن أحمد الصخري كان مذهلاً ولا مدركا ولا بصيراً عندما فكر أن يضع بحثاً عن أثر الزواج الثاني على الزوجة الأولى فمن أجل ذلك درس علوم القرآن وعلم النفس والعلوم السياسية.

بدءاً، كان يجري في الأزقة كما لو كان غريباً.. يتلمس طريقه بعصا، انه يبحث عن شيء تحلل إلى عناصره الأولية ففقد ماهيته، أو أزيلت آثاره على مدار مسيرة طويلـة، ســــتين عاماً، لم تنته بعد.. لــم تكلل بنجاح بـاهر كما كان يأمل. ان هذا ألفاه سريع الغضب لا يحتمل دبيب نملة؛ يمكن لأيِّ إنسان أن ينسف عصبه فيصاب بعطب مميت أو أن يبدو مضحكاً، مثل قرد جائع طرح طعامه خارج متناوله, وفي لحظات أخرى يسكن السقم بدنه، كأنه احتوى أمراضاً عضالاً دفعة واحدة، لا رجاء في شفاء أيِّ منها.

بتعاقب السنين أوذي فأصبح كعشب بري أنقطع عنه المطر فجفت أطرافه ويبس عوده. ازدادت الثقة بالنفس تصدعاً فهام يلاحق أذناً صاغية ولكنه وجد الأذنَ الصاغية قد تحولت أو زاغت أو اختفت في عالم اليوم، وما واجه إلا الصدود المعبر عن جمود بشري عام.. لا غير. وكان لقاؤه مع أناس عدة ويحيي كل منهما الآخر بلطف وابتسامة معبرة عن ود شيء تافه ولا يعني شيئا, فجريهم مضحك، عادة، هم مثل صناديق مغلقه يلفها الغموض .

فكر ولا يعلم أن كان عقله يتخبط أو ينزاح بعيدا, أو كان على صواب, فهو بحاجه إلى ان يستوقف عابر سبيل من عينة عشوائية, ليس من احد شروطها أن تمثل شريحة حددت طبائعها وثقافاتها مسبقا فاخفق في ذلك أيما أخفاق, فالأذن التي يرومها أغلقت أو تبدلت بصماء قاسية ,تتدلى من دهاليزها لاقطات أصوات تنبعث من أجهزة هاتف نقال.

السابلة يمرون ومنظرهم مزر, يبعث على الدهشة والنفور، لقد أحاطوا أنفسهم بصمت مطبق وخطواتهم واسعة وعجلة, كأن أحدا يتعقب أثــــــــــــرهم أو هم في مهمة دقيقة وثيقة بمصير محتوم؛ نستطيع أن نشبههم بدمى من البلاستك تجري وفق برنامج عد مسبقاً . انه يزداد حزناً بعد كل يوم ينقضي, والعبرات تتزاحم في صدره تبحث عن مناطق رخوة لتنفجر. انه لا يعثر على سبيل للبكاء والتنفيس ربما لكونه رجلاً عصامياً أدمن الصبر ومقارعة الخطوب. حياته تحولت إلى لغز محير. وبسبب تكدس الهمــوم الديناميكية تـوقفت عــن النشـاط في داخله. وخبا السعير المتأجج، مثل نار خبأها الرماد الذي كان قد تمتع في دفئه قبلا. ذهب عقله إلى انه أصبح خارج المد البشري، وبلغ نهاية المضمار قبل غيره بسبب تقادم العمر, أوعلا فوق المجتمع الإنساني فتقطعت أوصال التفاهم والتناغم وانحلت عرى المودة وطفت على السطح أولى ضحايا ذلك السأم,رفيقة الدرب الطويل, زوجته.

شيء عجيب ألا يطيقها بدءاً بجسدها، هيئتها, ملابسها، وجودها.. لا بل حتى أنفاسها، وشعرها المدبوغ بالحناء والأصباغ الملونة.

بدت ألفاظها تلسعه كالسياط. مثله مثل أي إنسان نام سنيناً ثم أستيقظ فاكتشف أنه كان نائماً على تل قمامة نتن جداً.

قبل كل شيء ساءت العلاقة, تحطم الود وحل النفور والتقزز، ثم نحرت سبل التفاهم. ويوم بعد آخر تفشى الصراخ وساد الضجيج, ودق ناقوس الخطر منذرا بشر مستطير . عقب ذلك ارتفعت بيارق سوء العواقب بدلاً من رايات السلام والحكمة واللين والتأني .

ولما كان قد درس علم النفس والعلوم السياسية أراد أن يخفف وقع الصدمة الأولى على نفسها فلم يقل تزوجت. قال:

_ أنا عازم على تغيير نمط حياتي. سأتزوج !

مطت شفتيها بامتعاض.. غير مصدقة. أيمكن لهذا الرجل الهادئ الطبع، المسالم، الوديع على الدوام أن يتزوج بأخرى بعدما سلخ أربعين عاما في كنفها؟

وخطرت أمامه بثوب البيت الرث المتسخ المشبع برائحة الطعام غير مبالية.

تأزم، أصبح أكثر عداءً من ذي قبل. الحياة القائمة ظهرت قاتمة وساخنة مثل مرجل يغلي مسه مؤلم ألماً مبرحاً لا يطاق، وتجري قلقة يشوبها الحذر، مثل زورق في بحر لجي يجري على غير هدي.إهماله والاستهانة بإعلانه الزواج رفع درجة عزمه على تسريع وتيرة الزمن ومجابهة التحدي. وإذا كان تناسل المبررات التي مافتئت تسفي في الرأس كالهوام أمسى التأجيل غير محتمل. غاب عن البيت ثلاثة أيام ثم ظهر ليعلن أمامها بحزم:

ـ لقد تزوجت.

…سلسلة إجراءات يتعين اتخاذها قبل كل شيء. لكن في ألصباح لم ينجزها تماماً، كل ما فعله لصق وجهه في ألمرآة فهالته التغيرات الحديثة: فقد وجد جفنيه قد تورمتا, والأخاديد أصبحت أكثر عمقاً وبروزاً وصفحتي وجهه أكثر شحوباً كأنه أحد الموتى، أو كمن تلقى لكمات قاسية تركت آثاراً ممضة. تساءل من حيث لا يدري: هل أن الزوجة من يبني او يهدم صرح الرجل وقلب النعيم إلى جحيم أم انه غالى في إهمال بدنه ومظهره ليصبح مزريا إلى هذا الحد الذي بات فيه قبيحا ؟ هذا ما كان عليه أن يضمنه البحث الذي هو بصدد نشره وتمريره.

ان المسكن الذي اشتراه منذ زمن قريب كان زاهيا وبهيجا فما الذي جعله بين ليلة وضحاها ينقلب إلى مسرح تهريج؛ يضم سبعة أبناء بلغوا سن الرشد، تجمعهم كلمة واحدة تدعى الأسرة وتفرقهم المصالح. لا جامع لهم إلا البيت. .وعندما يجتمعون في الليل يعلو الصراخ ويسود التذمر والشكوى والتدافع .وان ذلك المسرح اقتضى ان يكون كل شيء فيه مدمراً، كما لو أن قنبلة انفجرت بداخله فمزقت أطرافه، لكن كل ما نظر أليه بهدوء وترو وجد أن الأثاث والأواني والأجهزة الكهربائية واللوحات المعلقة على الجدران مازلت في أماكنها القديمة. إذن ما معنى هذا النشوز! هل أن النفس تغيرت بعدما أصابها عطب أم هو الملل وراء ذلك التحول المفاجئ؟ إذا بحث في عقله عن سبب مقبول ومبرر اقرب إلى الأنصاف عليه إيقاف ذلك البحث المدمر والكف عن نشره أو سلخ الزوجة منه. من غير المعقول أن يجعل منها حقلا لتجربة من هذا النوع المؤلم والمدمر.

في الواقع كان يتمنى أن يحترق البيت بمن فيه بما في ذلك هو, ولبث ينتظر أن يقوم احد بذلك ويعني أن تفعل ذلك زوجته حالما تفيق من غيبوبتها .أما على ارض الواقع فكان كل شيء يجري مجرى الماء منذ سنين ولم يتغير شيء، أو لم يحدث ما هو مفاجئ يدفعه إلى موقف متطرف مثل هذا.

بدا حزينا صامتا متألماً منتظراً حدثاً كبيراً من شانه أن يهز أركان البيت ليجد عذرا مقبولا لفراره بعيدا عن البيت. وكان بمقدوره أن يقوم بذلك الفرار دون البحث عن مبرر الساعة، بيد انه وجد نفسه مكبلة بقيود صلدة تقعده عن هذا النهوض الجلل.

كان قد أعاد النظر، أثناء بحثه، عن أسباب التحول أو الانقلاب أو التمرد، فلم يجد في ذلك الواقع الذي عاش فيه أربعين عاما شيئا جديدا .فما الذي جعله يلاحظ أن كل شيء في غير مكانه ولم يساهم في شرائه أو وضعه في ذلك المكان.أن وجهة النظر الطارئة هذه شاءت أن تلعب دورا رياديا في انحراف مسيرته. انه يبحر بإصرار ومثابرة بدافع خفي مثله مثل من كان ينتظر تلك الفرصة منذ أربعين عاماً. لا ريب كانت أحلام مؤجلة تراكمت ثم رسخت عبر سنين طويلة .

أحلام كهذه كانت تغزو رأسه بين فينة وأخرى، وتكاد تهيمن على عقله كلما دخل حديقة الحيوانات، وكلما دفعه الفضول والبحث والتقصي؛ ودقق النظر وتابع تصرف بعضها اتجاه البــــــعض الآخر, كان ذلك سلبا أم إيجابا, ثم خرج إلى الشارع ليجد أن الإنسان أبـــــــــشع كائن على الأرض.. بشاعته لا تحتمل. كـــــــــما لا يدري لم كان يود أن الناس يتفرقوا ويصبحوا شيعا لا يرى احدهم الآخر.

وعلى ضوء ذلك ترك الأمر للتخيل..أن تتصور نفسك تعيش وتتعامل وتتحدث وتنام إلى جانب كائن حي بلغ حدا من البشاعة لا تطيق حتى رؤيته ناهيك عن لمسه ومصافحته ورغم ذلك تجد نفسك ملزما أو مكرها على تقبل ذلك الكائن والأعراب عن حبك… ان تجلي أسنانك كل صباح لتتلقاه بابتسامة بيضاء ساطعة ودودة..وأنت ملزم أن تقول بلطف معبر عن مودة لمن تكرهه اشد الكره وتبغضه اشد البغض أن حبك يملأ قلبي، وأنت، من وجهة نظري، رائع ووسيم ومفكر مبهر للعقول في حين هو أكثر الكائنات الحية قبحاً وغبــاء،

وحقارة وبشاعة .

حسن. هل يوجد على الأرض مَن يشاطرني الإحساس نفسه؟

حسن. بصفته درس العلوم التي ذَكرت كان يعلم مسبقا ستسقط زوجته من هول الصدمة الأولى وقوة وقعها ميتة، أو مغشياً عليها على أقل تقدير، ما أن يعلن عن فحوى التجربة؛ وستجحظ عيناها، وستشق ثوبها وتلطم خديها وتدميهما قبل كل شيء. ولا يستبعد من أن تحرق البيت بمن فيه أو تقتله قبل أن تقتل نفسها. فإذا كان يعلم كل ذلك مسبقا فلمَ أراد لذلك أن ينجح؟ هل انه مساق برؤية أقوى من نطاق العقل، أم كان مصاباً بنوع من الجنون، أم كان يريد تحقيق ذلك؟

كان ينتظر أن يقول شيئا حالما تفيق من الصدمة الأولى ، لكن هي قالت:

ـ لقد طعنتني في ظهري .

ثم اقتربت منه ووضعت يدها على قلبها وأضافت:

ـ جعلت في قلبي ثقباً لن أبرأ منه أبداً. قلبي بات مثل جمرة متقدة.. كأنك أطفأت سيكارة مشتعلة فيه.

وهو يتسكع في شارع أبي نؤاس وحده. ناجى نفسه: عندما دخلت كلية العلوم السياسية قيل لي أن السياسة فن رفيع فاعتقدت يعني مثل فن الرسم والتصوير والنحت والشعر والأدب، وبعد أربع سنين من الدراسة الجادة اكتشفت إنها تعني فن الخداع والرياء والكذب والضحك على الذقون والدجل ورسخ في يقيـــــــني أن من أسباب مأساة البشرية أصحاب القرار السياسي. هؤلاء من دمر العــــــالم وجعل البشرية شعوباً وقبائل بدلاً من أن يكون من أولى مهام عملهم حل مشاكل المجــــــتمعات، وجعل العلاقات طيبة بين الشعــوب، وتوحيد البشرية، يستحدثون مشاكل أكـــــــــــــثر غرابة من الخيال في كل يوم لتبرير وتــــــــمرير مصالحهم ومصالح حفنة من الأقوياء والأثرياء وقـــــــطاعي الطرق.

الحقيقة.. السياسة فن المصالح لا صلة لها بالأخلاق والعواطف. لا تحل مشكلة لأن هذا يكلفك خسران منصبك السياسي. ليس في السياسة حب ولا صداقة ولا قرابة ولا أخلاق!

مباح للقوي أن يأكل الضعيف.

فهل لعب تلك اللعبة مع زوجته من طرف خفي؟ فهي جاهلة تصلح أن تكون ضحية الجهل.

لو كان نبيا لأدرك ما لا تدركه العقول. في الواقع هو عاجز وضعيف بحاجة إلى وحي يوحي أليه كما أوحي للأنبياء والرسل…

انه أشبه بطفل عابث بحاجة إلى مراقبة و رعاية دقيقة. لقد نأى بعيدا عن الحلول الصائبة وكابد وسيكابد مشاكل لا حصر لها.

فإما أن ندعه يتخبط ولا نلومه أو نمنحه عمراً ليتزود بثقافة جديدة .

هي قالت: أصبتني في مقتل. وكان يعرف ذلك مسبقاً!

ألهمته رؤية دودة القز بأنه حشرة منتجة. فأين الخطأ؟ انه خلق ضعيف ينبغي أن يعبث ويدمر ما حوله. بمعنى.. لكي يبني لا بد أن يهدم ما صنعته الطبيعة. يهدمه ببشاعة. وعليه أن يتسكع بقية العمر.

لن يصدق احد ( ان غباء الإنسان مطلق)

الإنسان بدأ بنفسه ويعمل بجنون ليتذوق مرارة النهاية.

عاد إلى البيت في وقت متأخر، شأنه في كل يوم. سأل عن زوجته فقيل له ساءت حالتها فنقلت إلى المستشفى. تعجل في الذهاب مع أبنه البكر.

في الطريق سأل الابن البكر أباه:

ـ أبي.. هل صحيح تزوجت امرأة غير أمي؟

أجاب الأب بطلاقة:

ـ لا. ليس من الذين يكرر الخطأ مرتين!

صمتا معاً. وأنشغل كل منهما بتفكير مختلف.

هناك قال الأطباء ماتت قبل دقائق. صمد الزوج ولم يبكِ، لكن عينيه امتلأتا بالدموع. ذهب ليرى الجثة.. هناك كشف عن وجهها ثم أعاد الغطاء وخرج. في طريق العودة هرش رأسه بشدة وتمتم: كنت أعلم ستموت قهراً. جريمة شنعاء غفل عنها القانون الوضعي.

بعد عدة أيام مرر بحثه إلى أحدى الصحف، تحت عنوان ( تاثيرالدين على المجتمع) وجلس ينتظر النشر وردود الأفعال المختلفة…



* عن الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى