محمد مستجاب - حافة النهار

ارتبكت الشمس قليلاً فازدادت احمراراً، وهبط ثعلب في المجرى فلما استأنس أمناً مد بوزه وسط الساسابان ولعق من المياه، واشرأب رأس ضفدع فتوقف الثعلب عن الرشف وبدأ يتحفز للقنص، ووضع (الحاج) طفله الوحيد أمامه فوق حمارته (المصبوغ ظهرها بالحناء من كثرة الجراح) ساحباً بقرته ووليدها خلفه، وأطل نمس من بين عيدان القصب آملاً أن تهمد الحركة فيعبر الطريق، وتقاربت غمامتان فامتزجتا وتدفق بطنهما بالحُمرة، واقتحمت السماء هوجة زرازير محدثة جلبة فأجفل العجل الصغير لكن البقرة ظلت تسير هادئة خلف حمارة الحاج (الذي كان يزنّ بموال ويقرص في رفق رقبة طفله مداعباً إياه ببعض الشتائم ليظل الولد مبسوطاً) وضرب (الحاج) الحمارة فوق رقبتها كي تتخطى قطعاً في أرض الطريق، ووثبت الحمارة فتشبث (الحاج) ضاماً ابنه في عبه وكاد يسقط فعاد لضرب الحمارة مرة أخرى ولعن أبا الذي باعها له فانزعج النمس وارتد داخل القصب، ومن الناحية الأخرى بص ذئب على (الحاج) وابنه والحمارة والبقرة والعجل ثم فتح عيناً وأغلق عيناً ورقد .
سأل (الحاج) طفله: ارتجفت؟ فبكى الولد، أعاد السؤال مرة أخرى : ارتجفت؟ فسكت الولد، أقسم (الحاج) لطفله أنه سيطلع جباناً مثل أخواله وقرصه عدة مرات في أذنه، ضحك الطفل وضحك (الحاج) وجرى العجل الصغير بعيداً عن أمه ثم عادإليها.
ازداد احمرار الشمس فاضطرت أن تنكس رأسها وراء الجبل ساحبة شالها الضوئي من حول رقبة النخيل، وأوقدت عمتي نفيسة الفرن ليتكاثف الدخان ويحط الهباب فوق وش صحاف السمك المرصوصة على الأرض المككل وجهها بالقوطة والزيت والبرغل، شم الكلب الرائحة فتثاءب وتحرك فوق الحائط وقفز في الباحة ودنا من الصحاف متحسساً الأرض بأنفه ثم رقد، وخرجت أرانب يامنة أم محمود من جحورها وانتشرت متوهجة العيون تتنسم الأعواد في التراب، وجست الحاجة شفاء مؤخرات فراخها لتطمئن على البيض ونادت ابنتها وسبتها لتخاذلها في نقل الماء من الزير إلى الأباريق قبل أن يتأتي الليل، واستطاع محمود عبد الجابر أن يشد وثاق جمله
أمام الباب بادئاً في تضميخه بالزيت الأسود كي يخفف عنه الجرب.
وسحب الشيخ حسني صديقه محمود حسنين من كم جلبابه جاذباً إياه وملحاً في اصطحابه للمسجد كي يؤديا صلاة المغرب، فلما قاومه اتهمه الشيخ حسني بالكفر مستنزلاً فوق رأسه اللعنات وأنبأه محتداً بأنه حتماً سيدخل النار، وتجمع نفر قليل حول حمار وحمارة أتيحت لهما فرصة التواصل، ونصبت أم كامل عند الرجال الطبلية في مدخل الدار ورصت عليها صحن ملوخية وصحن قلقاس وطبقتين من العيش المقمر في تراب الفرن ونادت على محمود – زوجها – للعشاء فأقسم على رفاقه أن يقوموا معه ليشاركوه الزاد، واتجه ثلاثة – أو أربعة – أطفال إلى بائعة الجاز – في آخر الشارع – ممسكين بأيديهم زجاجات وبيضاً أو أكواز ذرة، وأغلقت زوجة أصيل شوال الملح طالبة من أحد العابرين أن ينقله من خارج الدار لداخل الدار رافضة أن تبيع الملح بالأجل متعللة بأن العتمة قادمة، ودار علي حافظ حول بيت عبد المعطي دورتين رانيا للمدخل في تثعلب متحاشياً أن يراه الآخرون فيكدرون عليه رغبته؛ وأغلق الشيخ موسى مصحفه ومسح بكفه على وجه ابن عدوي الراقد تحت الحرام الصوف مستنزلاً له الشفاء من السماء ومتسولاً له البركة من الملائكة وجذبت أم محمد عقدة حطب من خلف البيت ووضعتها أمام الكانون تمهيداً لتقمير العيش إيذاناً بالعشاء ووقفت صبية على عتبة بيت الشيخ محمود علي شناوي طالبة قطعة خميرة يضيفونها على العجين واستمر قصّاص شعر الحمير منهمكاً في عمله وسط الميدان، ونادى الشيخ إِبراهيم على الشيخ غزلي طالباً منه النزول للذهاب معاً إلى مجلس صلح سيقام بحري البلد ووضع ضبع أبو سامي فص الأفيون أسفل لسانه وهرع إلى المقهى ليحتسي فنجان بن سادة وظل صلاح إبراهيم واقفاً أمام منزله (الذي باعه لمحمد عبد المنعم ويقيم فيه بالإيجار) مرتدياً جلبابه المكوي النظيف مستمتعاً باحترام العابرين له، ووقفت بديعة أم صابر باكية منتحبة بين يدي الشيخ غالب شاكية ابنها الوحيد (ذاك الذي يدخل إلى زوجته من باب آخربعيداً عن طريق أمه وفي جيبه الحلاوة والطعمية) وتحرك عبد اللاه من عتبة البيت وصعد السلم للرواق فوجد امرأته جالسة على الأرض عارية الساقين تغربل ذرة رفيعة فبدأ يحتك بها وعيناه تبرقان، ووقفت شفيقة على السطح لتنشر الملابس دون اهتمام بإقبال الليل وجلس صالح ياسين وأحمد عبد العزيز على الدكة ينهشان في عرض إحدى الأسر ويرتشفان الشاي. ومر الخواجة يني عائداً من الطاحون مضمخاً باللون الأبيض وقال للجالسين في الشوارع : السلام عليكم، وشال محمد عبد التواب أحد صغاره فوق رقبته وخرج به من البيت متوجهاً للدكان ليشتري للطفل حلاوة.
ازداد اختناق الشمس فاسود بطن الغمامتين. ظل الثعلب في المجرى مستأنساً الأمن متدحلباً كي يقفز على الضفدع المشرئبة رأسه فوق صفحة الماء، أغلق الذئب العين المفتوحة وفتح العين المغلقة، حلق غراب ولف في الجو ناعباً، رفع (الحاج) وجه طفله بكف يده ليريه الغراب؛ كركع الطفل ضاحكاً، مست قدم النمس
أرضاً مروية فخشى الوحل وتراجع، قلد (الحاج) صوت الغراب ليزيد من إمتاع وحيده؛ ثم رفع الولد وأوقفه أمامه على ظهر الحمارة وعضه في خده فاستمرالولد يضحك، أحست الحمارة بما يجري فوقها فأبطأت كثيراً لكن (الحاج) هشها بساقيه، والبقرة هادئة تسحب عجلها في الخلف، أدخلت عمتي نفيسة أولى صحاف السمك في الفرن وانتهرت الكلب ليبتعد فنهض وتراجع خطوتين وعاد فأقعى مرة أخرى، وألقت يامنة بحزمة برسيم للأرانب، وكّبر الشيخ حسني مفتتحاً صلاة المغرب وحمل عبد اللاه زوجته بين أحضانه وأرقدها فوق السرير فاهتزت الفرشة، وقفزالذئب داخل القصب، وترك الثعلب رأس الضفدع وانسل وسط الساسابان، ثم غمرالدنيا السكون.
بقايا ضوء في آخر غرب الدنيا، السكون، تلاشت كل أصوات القرية، قالت عمتي نفيسة : اللهم اجعله خيراً، وارتجف الشيخ حسني وارتبك في الفاتحة فاندهش المصلون، وعوى الكلب وظل واقفاً، وانفلتت الأرانب إلى جحورها تاركة حزمة البرسيم، وانخبطت الغمامتان كلٌ في الأخرى فتساقط السواد فوق النخيل والقصب والذرة وصحاف السمك وصحون الملوخية والقلقاس وصفوف المصلين والعيش المقمر، وكاكت الفراخ منزعجة، وعوى الكلب مرة أخرى، وتراجع عبد اللاه للخلف وأنزل ملابسه فظلت زوجته متمعنة في وجهه. وترك عبد الحميد المِزين رأس صادق ونظرإلى الأفق، واهتز بدن الحاجة شفاء وأحست بوخز في عنقها، وأسقط محمد عبدالتواب طفله من فوق رقبته، وتوقف محمود عبد الجابر عن دهان مؤخرة جمله،ووضع ضيوف محمود عبد الرجال اللقمة في أفواههم وأنصتوا، وسقطت زجاجة الجازمن يد طفلة وانكسرت البيضة في يد الطفلة الثانية.سكن جسد القرية كله وانتصبت آذانها متنسمة أي صوت في آفاق السكون. وهمست أم محمد : اللهم اجعله خيراً .. استر يا رب … ودوى عيار ناري، وخبطت عمتي نفيسة على صدرها وصرخت منزعجة منتفضة : هذا العيار قاتل …!!
بعدها بثوان انداح صراخ القرية ملتاعاً :
- الحاج وطفله انضربا بالرصاص.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى