بقادى الحاج أحمد - شجرة اللبخ تحاكى النحل.. قصة قصيرة

(1)

يا نيل طامح وعالي ، فوق الصفحات شمسه تلالي .

النيل في رحلته المقدسة، قادما من أرض الـنبـع من جنوب الخير، قوافـل الموج في تدافع، متجهه شمالا نحو المصب.

طائر يمارس الطيران المنخفض ليختلس قبلة من سطح ماء سبقه شعاع الشمس إليه وترك أثاره واضحة عليه، في زمن الفيضان ؛ في مثل هذا الوقت من العام يزيد الماء ويعلو فوق الضفاف ، يتحول لون ماء النيل الأزرق إلي طيني غامق ، وماء النيل الأبيض يظل لونه ابيض رملي فاتح، عندما يلتقي الماءان – الأزرق والأبيض- عند المقرن ، يحتفظ كل بلونه .

أمام مسجد النيلين وبشهادته يتم العناق، وتتشابك الايدى ومن تحت كبرى شمبات يمران، هناك من فوق ومن على الكبرى يرى الناظر حميمة المقابلة والخاصرة الضاحكة، واختلاف الماءان،هذا ازرق طيني غامق، وهذا ابيض رملي فاتح.

يخت كبير يمر متجها مع الأمواج نحو المقرن. في تقدمه نحو الغرب يمر تحت كوبري بحري أمام قصر الحاكم العام الانجليزي سابقا، وقصر الشعب والقصر الجمهوري في مرات أخرى، مع ملاحظة غير مسموح للشعب أو الجماهير بالاقتراب من القصر أو أخذ صورة بابتسامة عريضة معه..

نسوا أن يسموه باسم من أعطاه كل هذا الإجلال والبهاء .. النيل الأزرق، لو سموه قصر النيل الأزرق لأخذ القصر منه ،العطاء كله والعمق وكله والانتماء ليطعمه لسكانه كانوا خضر أو صفر العيون!!

يمر يخت السواح بين ضفة توتي بمزارعها وضفة شارع النيل بالخرطوم بعماراتها وأشجارها البواسق. عند اقتراب اليخت يوقف العمال غسيل الخضروات في الماء ، ليحيوا الخواجات بالتلويح و بابتسامات عريضة..

ويقف جمهور المنظرين للمعدية العتيق لتنقلهم في رحلة العودة من العمل، السوق والمدارس إلي ديارهم في الجزيرة. يواصل اليخت تقدمه مارا بجزيرة التمساح والمقرن متجه نحو الشلالات على ذات اتجاه قوافل أمواج الماء المتدافعة قادمة من أبو الخيرات نحو الشمال.

شارع الجامعة هو الشارع الموازى لشارع النيل، كانت شجرة اللبخ تقف هناك ناشرة الخضرة عبر فروعها الطويلة والازمنه البعيدة. شجرة اللبخ واحدة من شجر اللبخ الذي يصطف على جانبي شارع الجامعة، لتقديم التحية يوميا وفى كل الأوقات طوعيا لطلاب وطالبات العلم وللجميع.

لا فروع شجرة اللبخ الطويلة ، ولا قامتها المديدة ، ولا جزعها الضخم ، ولا جزوها الضاربة في أعماق الانتماء لهذه الأرض الطيبة تميزها عن بقية شجر اللبخ ،ما يميزها هو المعهد الذي تقف ببابه لتمارس وجودها الدائم بتقديم واجبها المقدس؛ تحية الداخلين والخارجين ينشرا الخضرة والصفقات والنوار أمامهم وما تكتمه في جوفها !!

(2)

يا وطن مثل عسل النحل ، ريحك طيب ، وطعمك عذب ، وحلاوتك صادقه ، بين الأوطان اخضر، طويل وقيافة .

في شارع الجامعة، الشارع الموازى لشارع النيل من ناحية الجنوب، خلف القصر- قصر النيل الأزرق، يقع المعهد العالي للدراسات المصرفية. جامعة الخرطوم فئ أعلى الشارع ، منها أخذ الاسم.

المعهد دوما ممتلئ بالطلبة والطالبات والأساتذة والأستاذات ، في الفترتين الصباحية والمسائية، مثله مثل خلية النحل الكل يعمل بجد واجتهاد من اجل التحصيل العلمي العالي.

شجرة اللبخ هي الرمز لهذا المعهد العتيق، على مر السنين واقفة ببابه ناشرة للخضرة والصفقات والنوار..

مثلها مثل النيل في العمق، في الانتماء، في العطاء وفى الصمت، لم تبوح يوما عن ما بداخلها، أو لعلها فعلت لكن لم يسمعها احد.. وان كان للنيل في زمن الفيضان شان آخر..

شجرة اللبخ تشبه الوطن، الذي يستظل تحت ظلاله الوفيرة الجميع.

ذات يوم اتكأ احد الطلاب على جزع شجرة اللبخ منتظرا زميلته لتلحق به بعد انتهاء المحاضرات، طال انتظاره ، تأخرت هي في اللحاق به،لاحظ وهو يتأمل الشجرة من تحت ، أن أعلى الجزع به شرخ كبير فيه حركه ملفته لمن اقترب منه .. اقترب أكثر للتأكد من هوية زوار أو سكان جزع شجرة اللبخ.. كان الاستقبال حارا وداميا من النحل.. بدون تحية ، بدون ابتسامات عريض ، وبدون تلويح..

(3)

الأسمر ذو البسمة البيضاء كبياض العاج.

قبل اربعمائه سنة ، كان الأفريقي ذلك الأسمر ذو البسمة البيضاء كبياض العاج ، آمنا في سربه مع قطعان ماشيته، يتجول معها في غابته ، حاملا حرابه، لا يخشى عليها إلا من العيون الصفـرـ عيون المتربصين من اللصوص والسباع الضواري ، وأيضا يخشى الاختفاء المفاجئ الذي انتشر آنذاك في بلاد الغابات والأنهار والرهود والشجيرات شديدة الخضرة، كثيفة العتمة، كثيرة الثمار.

لم يكن يعلم الأسمر ذو البسمة البيضاء كبياض العاج ، بان هناك عيون أخرى في تلك الأثناء تتربص به؛ عيون خضر تختبئ خلف البنادق، لا تريد أن تخطف ما تيسر من الماشية ، كما يفعل اللصوص و تفعل السباع ، كانوا يريدون أن يسرقوا الابتسامة البياض كبياض العاج من الأسمر؛ كانوا يريدون أن يختطفوا الأسمر من عالمه الوديع الحاني.

وقف الأسمر متكأ على عصاته وضعا قدمه على ركبته في شكل مثلث، ليرتاح قليلا وهو يراقب قطيعه عن كثب. فجأة وجد نفسه محاصر بالعيون الصفر بالعيون الخضر، العيون الصفر العيون الخضر، العيون الخضر هي الغازية ؛ حاول القتال ، الفرار ، الاختباء ، ولاكنهم تمكنوا منه، ومن ابتسامته البيضاء كبياض العاج..

(4)

العيون الحمر..

طافت زمرة من الخواجات على شارع الجامعة، حيتهم شجرة اللبخ كما اعتادت أن تفعل؛ كالأسمر ذو البسمة البيضاء كبياض العاج ، ولكن العيون الخضر لم تأتى لترد التحية بأحسن منها !!

اختبئوا خلف الزى الواقي من لسعات النحل، وخلعوا الخلية من جذورها عن جزع شجرة اللبخ ، أخذوا الصفائح ممتلئة بعسل النحل وذهبوا ترافقهم تحيات ونظرات الإعجاب من خفراء المعهد!!

تساقطت أوراق شجرة اللبخ بكميات أكثر من المعتاد، واخذ غير المتساقط منها في الذبول والاصفرار، خلال أيام معدودة ، أمست جافة وتحول منظرها المهيب وهى تقف ناشرة للخضرة والصفقات والنوار إلى منظر شاحب كئيب يحاكى النحل عند ملاقاة العيون الصفر والعيون الخضر .. بالعيون الحمر.



بقادى الحاج أحمد
الخبر أغسطس2007م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى