هلال زاهر الساداتي - السَخَتْ.. قصة قصيرة

كان البال افرغ من قلب الوليد من الضغن وكنا نلهو ونلعب ونحصي النجوم في صفحة السماء فوقنا ونرمي الاحجار علي صفحة الماء في النهر ونعد عدد الاقداح التي غنمناها في الرمية الواحدة فتلك كانت لعبة نقتني فيها حجارة ملساء مسطحة ونقذف الحجر مائلاً علي صفحة الماء فيتقافز فوق الماء عدة مرات ونسمي كل قفزة بقدح وكان الفائز هو من يحوز اكبر عدد من الاقداح في الرمية الواحدة , وعندما نستنفد لهونا بالاحجار نسبح ونغطس في الماء ونتقافذ بكرات الطين الاسود اللين من طرف الماء علي الشاطئ , وتتناثر الضحكات وتتوالي التعليقات كلها صافية من شغاف القلب المضمخ بالفرحة والبراءة , ونتشيطن حتي يبلغ الهزر واللعب المدي , فنخرج من الماء ونمسح ايدينا ووجوهنا وارجلنا بالرمل والتراب حتي لا ينكشف امرنا امام اهلنا ويعرفون بذهابنا الي البحر وخوضنا فيه والذي حذرونا منه خوفاً علينا من الغرق , ورغم الحيطة ينكشف امرنا وتكون النتيجة دائماً (علقة) نتحملها عن طيب خاطر ولا نرعوي ولا نقلع عن الذهاب للنهر كأننا قطع حديد منجزبة الي مغناطيس , فنسبح ونلهو ونضحك ونتمسح بالتراب ثم (نأكل العلقة) في البيت عند العودة , وكان اكبرنا سناً واضخمنا جسماً صبي اطلقنا عليه لقب السَخَتْ ولا ادري ماذا يعني الاسم ولكن يخيل الي ان بعض الاسماء تلائم حاملها من وجه ما دون تحديد , والسخت ذاك اسود اللون كالزفت , رأسه كبيرة وعيونه حمراء وشفتاه وانفه كبيرة غليظة , عوده متماسك وعضلات ذراعيه ورجليه ضخمة بارزة وكان يتباهي بقوته , وكنا ننظر اليه باعجاب مشوب بالخشية ولم يكن احد منا يجرؤ علي معارضته او اغضابه , واصبح بيننا زعيماً اوحداً لا ينازعه احد في زعامته . وفي يوم انتقلت الي الحلة عائلة كان من افرادها صبي يبدو عليه الهدوء في طبعه والقوة في بنيته . ولغير سبب مفهوم تحرش به السخت فتحاشاه الصبي الوافد ولكن السخت ازداد صلفاً ومضايقة واستفزازاً له , فانتفخت اوداج الصبي واحمرت عيناه من الغضب وقال له ( طالعني لو انت راجل ) وكانت هذه الجملة في زماننا تعني طلب المبارزة في العهود القديمة او ما نراه في افلام الكابوي في السينما من مقابلة الخصمين وجهاًً لوجه واطلاق الرصاص من مسدسيهما وتكون الغلبة لمن يصيب الاخر في مقتل ويجندله . اما لدينا فكانت تعني الذهاب الي مكان بعيد عن العمران وحبذا لو كان الخلاء وهناك يقتتل الخصمان حتي يفوز احدهما ولا يتركه خصمه حتي يأمره بأن يقول انا مَرَة (امرأة) , وحينذاك يتركه والمشاجرة من هذا النوع لها طقوس فكان الاولاد ينقسمون الي فريقين وكل فريق يشجع ويشد من ازر احد المتشاجرين وهنا يحدث ( الشراط) أي الرهان – بدون نقود – علي من تكون له الغلبة وتكون الاثارة في قمتها وربما اشد من الاثارة في مباريات كرة القدم اليوم بين فرق القمة . ويذهب الجميع في زفة الي مكان الصراع , ونختار احدنا ليكون حكماً وهذا عمله ان يخط علي الارض في التراب بقدمه خطاً بين المتصارعين ويقف كل منهما وراء الخط متقابلين , ثم يأخذ الحكم قبضة من التراب في كفه ويحركها وهو يقول (المديدة حرقتني) , وهنا يسرع كل من المتعاركين (لكشح) التراب في وجه الاخر ويبدأ العراك وسط تحميس وتحريض المتفرجين من الصبية او ربما تكون (الشكلة) بالعراك بالأيدي او بالعصي او عندما (ينزنق) احدهما يلجأ الي الرمي بالحجارة ليبعد عنه خصمه وتنتهي المعركة بهزيمة احدهما عندما تخور قواه وينهزم مستسلماً , وهنا يملي عليه المنتصر شرطه القاسي بأن يعلن المهزوم انه (مرة) وهذه سبة ومذلة ما بعدها مذلة ويصير قائلها بعد ذلك محتقراً ذليلا مجللا بالعار بيننا , ولكن في معظم الاحيان كان المهزوم لا يتفوه بهذه العبارة ولو (كَسّره) الاخر بالضرب , فقد كانت (الرجالة) تعني لدينا الرجولة والشجاعة والشرف واباء التحقير او (الحقارة) في عُرف السودانيين . وتشوفنا ومنينا انفسنا (بشكلة جامدة) بين السخت والصبي الوافد , وكان الكل في صف السخت المرهوب الجانب صاحب السطوة , وخرجنا نحن اولاد الحلة في مظاهرة صاخبة الي ميدان المعركة التي كانت في البقعة التي تقوم عليها الان مستشفي الولادة (الدايات) بأمدرمان وكانت هذه البقعة تملؤها اشجار اللالوب والحُمبك وبعيدة عن المساكن وفيها فسحة بين الاشجار , وكان الكل مشفقاً علي مصير الصبي الوافد المسكين الذي سيفتك به السخت .

وجاء الصبي متسلحاً بعكاز (مضبب) , وجاء السخت متسلحاً بماسورة , وقدرنا ان العراك سيكون دموياً وقررنا ان نتدخل ونحجز بين الخصمين في الوقت المناسب فقد كان العراك يتم بالايدي وحسب وهذه هي المرة الاولي التي يستعمل فيها ادوات للضرب . وقام الحكم بخط شريط بقدمه علي الارض ووقف الخصمان في مقابلة بعضهما وقبل ان يشرع الحكم في عمل (المديدة حرقتني) قذف السخت بماسورته تجاه الصبي فأصابت جبينه وفتحت فيه جرحاً تدفق منه الدم مدراراً علي وجهه , ومسح الصبي الدم بيده من وجهه وتقدم بثبات الي السخت وجرحه ما زال ينزف , وتسمر السخت في مكانه مأخوذاً ربما من منظر الدماء , ومسح الصبي وجهه المخضب بالدم في قميص السخت في صدره ثم اهوي بعكازه المضبب علي ظهره بضربة سمعنا لها دوياً , وصرخ السخت صرخة عظيمة واطلق ساقيه جارياً كالقذيفة والصبي يطارده ويطوله بضرباته الموجعة وكف عنه المطاردة بعد ان سبقه في الجري , ورجعنا الي الحلة غير مصدقين ولا مستوعبين الذي حدث . لقد سقط السخت . لقد سقط الصنم !

وفي الايام التالية لم يظهر السخت في الحلة ومرت ايام اخري ولم يبن له اثر وبسؤالنا عنه عرفنا انه ذهب يعيش مع عم له في الخرطوم بحري .


هلال زاهر الساداتي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى