مزهر جبر الساعدي - الصعود إلى الهاوية

كانت مفاجأة ، صورة الفتاة الجميلة ، جميلة جداً. عينان وسيعاتان وكحيلتان. لم تكن غريبة عني. سبق أن ألتقيت بها ، أين وفي أي مكان، لاأعلم. عثرت على الصورة بالصدفة.عندما كنت أقلب في ملفاتي وأوراقي وكتبي. وجدتها مع رزمة من الأوراق. حينما تصفحتها تذكرت أنها محاضرة كنت قبل سنوات ألقيتها في أحد قاعات كلية الأداب.بالتأكيد اللقاء بصاحبة الصورة، حدث قبل سنين .

أذ لم أقلب في أشياء مكتبتي منذ أكثر من عقدونصف.من اللحظة التى بها غادرت بلدي الى الآن.شيء في نفسي ينبئني بأن معرفتي بها أكثر من لقاء عابر. لكن ماهو، هو الأخرلم أتمكن من تحديد ما هيته. حاولت ان أعلم بالحالتين، أين ألتقيت بها ونوعية العلاقة التى تربطني بها من مخازن ذاكرتي،لكنها لم تفتح أبوابها أمامي. لم أياس قلت لنفسي لابد من الدخول الى زمن ومكان معرفتي بها. لأستريح قليلاً ومن ثم أعاود الضغط على أبواب ذاكرتي. نفضت الغبار عن الأوراق والتي هي محاضرة عن الشاعرأبو الطيب المتنبي.أخذت أقرء فيها، لا، على التعين.بعد أن فتحت ورقتين،قرأت في الثالثة :-

شهدت الفترة التي نشأ فيها أبو الطيب تفكك الدولة العباسية وتناثر الدويلات الإسلامية التي قامت على أنقاضها. فقد كانت فترة نضج حضاري وتصدعاً سياسياً وتوتراً وصراعاً عاشها العرب والمسلمون. فالخلافة في بغداد انحسرت هيبتها والسلطان الفعلي في أيدي الوزراء وقادة الجيش ومعظمهم من غير العرب. ثم ظهرت الدويلات والإمارات المتصارعة في بلاد الشام وتعرضت الحدود لغزوات الروم والصراع المستمر على الثغور الإسلامية، ثم ظهرت الحركات الدموية في العراق كحركة القرامطة وهجماتهم على الكوفة لقد كان لكل وزير ولكل أمير في الكيانات السياسية المتنافسة مجلس يجمع فيه الشعراء والعلماء يتخذ منهم وسيلة دعاية وتفاخر ووسيلة صلة بينه وبين الحكام والمجتمع، فمن انتظم في هذا المجلس أو ذاك من الشعراء أو العلماء يعني اتفق وإياهم على إكبار هذا الأمير الذي يدير هذا المجلس وذاك الوزير الذي يشـــــــرف على ذاك

. والشاعر الذي يختلف مع الوزير في بغداد مثلاً يرتحل إلى غيره فإذا كان شاعراً معروفاً استقبله المقصود الجديد، وأكبره لينافس به خصمه أو ليفخر بصوته. في هذا العالم المضطرب كانت نشأة أبي الطيب، وعى بذكائه الفطري وطاقته المتفتحة حقيقة ما يجري حوله، فأخذ بأسباب الثقافة مستغلاً شغفه في القراءة والحفظ، فكان له شأن في مستقبل الأيام أثمر عن عبقرية في الشعر العربي. كان في هذه الفترة يبحث عن شيء يلح عليه في ذهنه، أعلن عنه في شعره تلميحاً وتصريحاً حتى أشفق عليه بعض اصدقائه وحذره من مغبة أمره….).في هذه اللحظة أرسلت ذاكرتي من المطمورفيها، صور فلمية لبعض وجوه الحاضرين وهم من أصدقائي ومعارفي وأخرين وكانت هي من بينهم. لم أكن أعرفها أنذاك. لكنها جلبت أنتباهي إليها، بتحديقها الشديد نحوي. عينان عسليتان واسعتان، أخذتني إليها. وضعتني على منضدة الأرتباك والأضطراب. خشيت أن تضيع مني كلمات محاضرتي وخصوصاً وأنا دخلت في المفصل المهم منها.قمت بقوة عقلي على سحب عيوني من المجال المغناطيسي لقوة عيونها.على الرغم مني أدرت وجهي الى جهةالبعيده عنها. واصلت قراءتي……أخذتني ذاكرتي من لحظتي هذه وحطتني على سكاكين الألم.ثم سألت نفسي وأنا أضع أوراقي على المنضدة أمامي: - (أين هي الآن). لقد مرت في حياتي مثل حلم جميل ظهر أمامي ثم أختفى، بعد أن أستل كأبتي من روحي.هل الصدفه تلعب دورها وتجعلني أجدها في مكان ما من هذا الوطن،مثلما أدت معي دورها الآن ووجدت صورتها بين أوراقي وكتبي.كلا، أنا على يقين من أني لن أجدها أبداً مهما حاولت.سبب قوي في داخلي يجعلني متأكداً من ذلك.عادت ذاكرتي تعمل بنشاط، رفعتني وحطتني على منضدة الفرح، الهارب مني. نزلت من المنصة . أنشغالي بأستقبال الأشادات من الحاضرين في القاعة، منعني من متابعتها. ضاعت مني. لمت عيوني على تكاسلها في مهمة الأمساك بحركتها، الى اي أتجاه ذهبت.هل لاتزال في القاعة أم خرجت منها.

مشيت في الممر الى الباب. أتلفت الى جميع جهات القاعة، علني أبصرها. لم أفلح.أخفاقي هذا دفعني الى منطقة الأرتباك وعدم التركيز. واصلت خطواتي بتؤده. خلف الباب، عندما خرجت، أمشي في الممر بين اشجار الآس، من وراءي صوت رقيق مثل موسيقى قادمة من مكان بعيد:-أستاذ من فضلك لحظة، أنها هي. خرج قلبي من صدري بوجيب سريع، أخافني…..

في كافتريا الكلية، وقفت وهمست :- نجلس في الركن البعيد، أحب الهدوء.أحب السكون والمكان الذي لا ضجيج فيه. لم أستفهم منها عن السبب. خصوصاً والكافتريا ليس فيها غير خمسة طلاب لاأكثر. ثلاث منهم على مقربة من الباب، خرجوا الآن. لم يبق غير أثنين في الزاوية البعيده…………

تملكتني رغم فرحي بالأشادات، حالة من الأضطراب والقلق.جعلتني من غيرأرادة مني،أتأخر في أخذ مكاني أمام فاطمة التي أخذت مكانها قبلي ، ظللت واقفاً.أتأمل ما في الكافتريا. .فقط خمسة طلاب لاغير.أثنان خرجا في التو.

أستاذ الى أين رحلت عني.
أنا قلق، قلق جداً. أستاذة فاطمة، ما جرى ويجري،وما سوف ينتج عن ما هو كائن من تغييرات في الحال.المشهد على الرغم مما فيه من ضبابية، لكنه أخذ في التكون،يلوح في الأفق،مع أنه بعيد،لكنه مرئي.
لا شيء يستحق القلق.لن يحدث أي شىء، أطمئن، أنها زوبعة في فنجان. عش اللحظه. أستاذ ضمير،أنا أيضاً لم أنس أسمك.
لا تهولي من قوة ذاكرتينا، تعارفنا قبل دقائق لا أكثر.
أستاذ،المحاضرة كانت أكثر من ممتازة.أتدري كان خيالي خارج القاعة وعقلي داخلها.هذه الحالة تلازمني بأستمرار.أعّي كل كلمة قلتها. كل كلمة كنت تنطقها على المنصة ، لا تدخل الى مسمعي وحدها، تدخل معها أشعار الحلاج مرة ومن ثم في لحظة أخرى، يدخل صوت قاضي بغداد وهو ينطق بالحكم على الحلاج .الحلاج موضوع دراستي.

بالمناسبة ،غداً الساعة العاشرة في هذه القاعة، نفس القاعة، أناقش فيها رسالتي عن الحلاج، الحسين بن منصور الحلاج.أدعوك لحظور المناقشة. سوف تحـــــــــــظر أليس كذلك .

بألتأكيد أحظر، حتماً أحظر، ربما قبل أن تحظري أنت
ثم أخرجت من حقيبتها ورقتين ،وضعتها على المنضدة أمامي، لم أمد يدي إليها، أنتظرت ماذا تقول.قالت:
هذه قصة قصيرة كتبتها من وحي دراستي عن الحلاج. من الأفضل قراءتها في البيت . نتناقش فيها معاً. بعد أنتهاء مناقشة رسالتي.هنا في هذا المكان. عندما أفترقنا من أمام باب الكلية، أرادت أن توصلني بسيارتها فرفضت. بعد وداعي لها،وأنافي الطريق، أمشي فيه،أخذتني كلماتهاوصورتها التي دستها بين الورقتين،عن ما أنا فيه،أفقدتني أحساسي بالموجودات من حولي،أمتلأت روحي بالفرح والأمل في بداية طريق جديد لحياتي..
في الليل قبل أن أنام وضعت أوراق فاطمة بين صفحات رواية الأخوة الأعداء لنيكوس كازنتزاكي.أجلت قراءتها الى الصبح قبل ذهابي الى الكلية.

كنت في حالة من التعب والأرهاق، لا يمكنني التركيز. أما صورتها فقدأدخلتها في ظرف ووضعته بين أوراق المحاضرة. غيرت ملابسي وتهيأت للنوم بأنتظار صبح جديد. قبل أن أضع قدمي على سرير نومي، رنّ هاتفي ، مكالمة بعد منتصف الليل، تثير الريبة والقلق.

نعم، أنا عمر، ضمير موالدينا مطلوبة للسوق غداً، غداً أخر موعد، 3/9/1990
عمر، أنا سمعت الدعوه من أيام. هي ليست مواليدنا.
أنا أيضاً، سمعت بالدعوة، لم نسمع الكلمة الأخير، والتي هي والمساقون معهم…..

في اليوم الثاني بعد أن أنهينا كل شيء، كانت الساعة الواحدة ظهراً،علينا السفر في قطار المساء المغادر الى البصرة….رجعت لأحظر نفسي وأودع أمي فهي الوحيدة لي في الحياة. ندمت أشد الندم لأني لم أخذ رقم هاتف فاطمة.




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ظلت فاطمة لاتفارقني حتى وأنا في الواجب أمام شاشة الرادار الخاص بمنصة أطلاق الصوارخ على طائرات الأمريكان.كنت أمني نفسي بأني في أول أجازة، أذهب الى الكلية وأسأل عنها. لم يحدث هذا لأني لم أعد الى بيتي أبداً..


* عن الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى