صلاح الدين خليل - الوصية

كنا متحلقين حول سرير ابي وهو في النزع الأخير، انا وامي واخواتي، وكان ابي ينظر الى نقطة في السقف لا يحيد ببصره عنها وهو يتنفس تنفسا قويا متحشرجا، وكأن الذي يخرج من صدره ليس هواء بل نشارة خشب تخشخش في صدره مصدقة ببعضها اثناء خروجها، وكان صدره يعلو ويهبط بقوة رهيبة، وكان يحرك يده اليمنى بايماءة من يطلب التريث من شخص غير مرئي بالنسبة لنا، كمن كانت لديه كلمة أخيرة يريد ان يقولها، وها هو يمسك بيدي ويقول: ولدي اوصيك بامر ولست اوصيك به لانك افضل من غيرك في هذه الاسرة، ولكني اختبرتك لانك الابن الأكبر ولانك الرجل الوحيد الباقي من ابنائي فيها وانا اعتقد بان الرجل وليس أي رجل هو افضل من أي امرأة وليس أي امرأة.

قلت وانا اقترب منه: نعم يا ابي ماذا تريد ان توصيني؟ ولكن لماذا تتعب نفسك في هذا الوقت المتأخر في حين انك لا يستطيع حتى الكلام..

قال: تمهل لدي الوقت الكافي لما اريد قوله.. اما واني قد تأخرت فيه، فربما لاني نسيته وربما لاني اردت ان اتأكد من إمكانية تحقيق هذا الامر الذي انا بصدده، ولكن قبل هنا يجب ان تخرج اهلك من الغرفة جميعا فسوف يكون الامر سرا بيني وبينك.

تلفت الجميع بعضهم الى بعض واتجهوا تباعا الى الباب مستغربين فقال: لقد كانت تصرفاتي مستغربة دائما فلا بأس.. اغلق الباب جيدا ها هو صوتي يعود لي وها هو عقلي يصفو.. الم اقل لك ان امامي متسع من الوقت؟ والان اقترب لافضي اليك ما بنفسي من شؤون وشجون تأكدت من اغلاق الباب بشكل جيد وعدت وانا لا اخلو من شيء من الخوف وحب الاستطلاع، فالامر غاية في الغرابة وقد ذهبت الحشرجة التي كان يعاني منها وها هو يعود ليتكلم بصوت واضح وهو يقول: ولدي بعد ان يؤذن لي بالرحيل.. لا اعتقد بان هناك امرا من الأمور الواقعية بقي معلقا، لذا سوف أتوجه بالكلام عن شأن اخر، ارجو ان لا يثير سخريتك واستغرابك، وقد نشدت اخلاء الغرفة من الباقين لامرين كي لا يثير كلامي فيهم العجب وهم في حضرة الموت وكي لا يتقولو عني لاقاويل فيما بعد باني قد جننت قبل موتي بساعة فأنا الان في عقلي الكامل.

قلت: حسنا يا ابي سوف اسمع منك أي كلام مهما كان غريبا.

– لا ادري كيف ابدأ لاني متردد بعض الشيء لغرابة الموضوع

– اهو سر من الاسرار لا تعرفه الاسرة وتريد ان تلقيه وتتخلص منه؟

– كلا انه ليس سرا من الاسرار.

– أرى يا ابي ان الحشرجة قد اختفت وان صوتك قد صفا..

– اجل لانه مازال في الوقت متسع

– اوجز يا ابي لانك متعب

– وما أهمية التعب مادمت صائرا الى الموت؟

– من يدري كم تستمر هذه الصحوة

– انا اعلم.. من يموت يعلم متى تحين ساعته

– اذن قل ما تريد مباشرة دون مقدمات

– انت تعلم بان لدي مخطوطات محفوظة في أكياس وضعتها في حقيبة هي مؤلفاتي.

– اجل اعلم

– وتعلم الظروف اللعينة التي منعتني من نشرها في حينها لضيق ذات اليد ولكثرة المشاكل اليومية التي كانت تغل يدي وتشلني عن الحركة.

– نعم

– ان هذه المخطوطات مبعثرة بشكل لا يستطيع ان ينسقها ويعيد ترتيبها وتسلسلها احد غيري، اما البعض الاخر منها فهو تام التنسيق جاهز للطبع في حالة وجود الفرصة الملائمة وتوفر الظرف المادي الجيد والمناسب مع توفر الدافع لهذا اوصيك ان تتولى امر الحفاظ على هذه المسودات وحراستها الى ان يحين الوقت المناسب والمال الكافي لطبعها، وهذه امانة في عنقك اما كيف ستوفر المال الكافي فهذا متروك للزمن، وان لم يتوفر المال لانجاز هذا العمل فان حظي بعد موتي لن يكون بأفضل منه وانا على قيد الحياة، ولن احقق ما صبوت اليه منذ طفولتي وهو ان يكون لي اسم بين الخالدين وهذا ما كان يؤلمني ويثير سخطي وحزني.. اما الأوراق الأخرى غير المرتبة فسوف أقول لك بشأنها كلاما ارجو ان تكون مستعدا له.

– انا اتقبل منك كل ما تقول

– حسنا انت ولد طيب ولكن هل انت مستعد ان تستمع الى كلام سيكون جديدا عليك وربما يقع عليك وقوع الصاعقة.

– انا مستعد لكل شيء

– اطلب منك ان تخلي غرفتك التي فوق وتنقل حوائجك واثاثك الى غرفة أخرى.

– متى؟.. الان

– كلا ليس الان بل بعد رحيلي عن هذا العالم

– ولكن ما هو الطلب الغريب الذي تطلبه؟

– انتظر تمهل.. انه حقا طلب غريب

– انت تعلم بان ليست لدينا غرف إضافية

– ستكون هناك غرفة إضافية بعد ذهابي الغرفة التي شغلناها انا ووالدتك دائما.. يمكن ان تأخذها وتأخذ هي واختاك الغرفة الأخرى فتكون هناك غرفة زائدة.

– ولماذا؟ هذا امر محير

– اجل هذا امر محير ولكنك لم تستمع الى ما هو اهم

– اني مصغي اليك

– ضع في هذه الغرفة مسوداتي المبعثرة والناقصة تلك.. ضعها على منضدة امام كرسي وضع بجانبها أوراقا واقلاما

– حسنا وماذا بعد

– عد بين حين واخر للغرفة

– كم بين حين واخر؟

– اتركها شهرا او شهرين او اكثر حسب الظروف وعد اليها بين حين واخر

– لماذا؟

– ستجد المسودات قد اعيدت كتابتها واعيد ترتيبها وتكملة الناقص منها ليس دفعة واحدة بل في كل مرة شيئا.

– مهلا كيف سيعاد ترتيبها؟ من سيفعل ذلك؟

– انا

– طبعا بعد ان تشفى ويكتب لك عمر جديد هذا تفاؤل عظيم اذ انت لم تفقد الامل ولكن مهلا لقد نسيت انك تقول ان اخلي لك الغرفة بعد رحيلك فكيف ستقوم بهذا العمل؟ اني لا افهم هل اصابتك لوثة؟ وهل تعي ما تقول؟

– هذا ما كنت اخشاه هذا ما كنت اخشاه.. انت تقول عني مثل هذا القول

– ولكن هذا جنون

– لا تتسرع انت لا تفهم كل اسرار الحياة

– ولكن هذا ضد قوانين الطبيعة

– وما ادراك بقوانين الطبيعة واسرارها؟ هل ان الانسان قادر على معرفة كل قوانين الطبيعة؟

– هل يحدث مثل هذا حقا؟

– ما هو رأيك بمعجزات الأنبياء؟ سوف تقول أيضا انها ضد قوانين الطبيعة، فاقول لك كلا ان قوانين الطبيعة لا يمكن ان تكسر فهي ثابتة ولكن عقل الانسان عاجز عن الفهم نحن نتصور اننا ندرك كل شيء بواسطة العلم

– وما رأيك بالعلم؟

– العلم لا يقدم لك الا خدمات فهو يحفظ لك اللحوم والأغذية من التلف فيخترع لك المجمدة وهو يحافظ على جسمك من الامراض فيصنع لك العلاجات وأساليب.الوقاية من الامراض ويخفف عنك الألم بواسطة المخدر حين تجرى لك عملية جراحية والعلم ينقلك من مكان الى اخر بعد ان قضية اجيالا تتنقل على ظهور الخيل والحمير والجمال والبغال فاخترع لك وسائل من الحديد اكثر سرعة، فبدأ بالعجلة فالقاطرة فالسيارة فالطيارة الى اخره، وهو ينقل صوتك بالهاتف الى اخر الدنيا وينقل صورتك بواسطة التلفاز. هذه هي مجالات العلم مجالات خدمية.. العلم مجاله الماديات ويخضع كل شيء في المختبر انه لا يعرف اية اسرار خفية يحفر الجبال بواسطة الذرة ويصهر المعادن ويحولها الى نوابض وعتلات واسلحة لقتل الانسان اين السر في كل هذا؟ ليس هناك الا الفيزياء والرياضيات والكيمياء وكلها محسوسات اين اسرار الكون؟ وان أي قدرة في مجال الروح لتسمو على كل هذه التوافه.

– انت تحتقر العلم

– انا اجل خدماته ولكني لا اجعله معبودي لانه محدود لا يتعدى مجاله.

– انك تتكلم بطلاقة كأي يوم اخر قبل مرضك وربما افضل

– انا أعيش الان في الوقت المسموح به

– لا افهم

– ولن تفهم

– كيف تريدني ان افهم؟ او ان اصدق انك لا تهجر او لا تكذب

– كيف يكذب رجل وهو يضع قدمه على حافة الأبدية؟

– دعنا من الجدال الان ولنفرض اني مؤمن بكل ما تقوله ماذا تريد مني شخصيا؟

– انا لا اريد كلام مجاملة بل اريد وعدا تقطعه على نفسك بان تؤمن بكلامي وتنفذه، واذا جاء يوم واكتشفت ان ما قلته لك باطل فيمكنك القول ان ابي كان يهذي او انه أصيب بلوثة.

– ولكن الا تعتقد بانك قد طالعت مثل هذا في بعض كتبك فأصبحت مؤمنا به؟

– انا حقا طالعته في الكتب وما العيب في ذلك؟

– ليس كل ما يكتب صحيح.. هناك تزوير وهناك أشياء تقال للتسلية كما ان هناك أشياء تقال للترويج

– ترويج ماذا؟

– الخرافة

– تحضير الأرواح ليس خرافة

– انك تريد بعد ان ترحل ان نستدعيك بواسطة تحضير الأرواح!

– اجل

– وكيف يتسنى لي هذا انا لا افهم في هذه الأمور

– هناك صديق لي سوف اعطيك اسمه وعنوانه.. سوف تذهب اليه وسوف يقوم بالواجب تأتي به الى البيت بين حين واخر ليقوم بالعملية

– كيف تريد مني التكتم على هذا الامر ومن ثم تطلب مني ان ادخل بيتنا رجلا غريبا ليقوم بمثل هذا العمل؟

– سوف تدعي انه يعطيك دروسا سوف نعطي أي تبرير لان امك واخواتك اذا اكتشفوا الامر لم يتركوك تستمر فيه وسوف تكون العرقلة مستمرة بعد موتي كما كانت في حياتي امنع هذا.. امنع هذا

– انك تحيرني

فتح الباب قليلا وتسرب صوت امي وهي تقول: نقاش على فراش الموت صوتاهما يصلان الى هنا ولكننا لا نفهم ما يدور بينهما من حديث

قال ابي: اغلق الباب.. اغلق الباب بالمفتاح لا تدع أحدا يدخل

قلت: ها اني اغلق الباب

قال: تجد تحت الوسادة عنوان هذا الرجل وان كنت مترددا في انجاز هذا الامر فما عليك الا ان تعطيه المسودات ليقوم هو بالعمل وحده في حالة تعذر قدومه الى البيت، ولكن هذا غير وارد في خطتي فما يدريني ان يخون الأمانة وينسب لنفسه كل ما كتبت فهو أيضا شخص طموح

– ما العمل اذن؟

– لكل أوان آذان كما يقال، والان الوصية الثانية توقف عن الكلام وهو ينظر الى وقع كلامه علي فقلت: استمر يا ابي استمر

– نظراتك فيها استرابة واسف وما لا ادري ما بها بعد من تعابير

– دعك من نظراتي اني استمع اليك كل ما هنالك ان ما تقوله جديد علي ما هي وصيتك الثانية؟

– ضع لوحاتي كلها في نفس الغرفة

– وهذه ما بها؟

– ربما تقول بنفسك ان الامر قد زاد عن حده وان هذا الرجل الذاهب الى حتفه لا يفتا متلفتا خلفه وعينه على الدنيا وكأنه لم يشبع منها.. لست اريد من الدنيا مالا ولا سلطانا كل ما اردته في حياتي ان احقق حلما راودني طوال حياتي الا وهو المجد الفني والادبي ولما لم استطع ان احقق ما كنت اصبو اليه وانا حي فلسوف ابذل محاولة أخيرة لتحقيقه وانا ميت

– اهذا ممكن؟

– اما زلت تسأل؟

– في نفسي شك من هذا

– لن تخسر شيئا من التجربة

– كلا لن اخسر

– ضع عددا من الفرش والألوان وما الى ذلك من حاجات الرسم كاللوحات فلدي مواضيع للرسم تراودني منذ زمان وقد اعددت لها سكيجات بقلم الرصاص.. ما بالك تبتسم؟ بل تكاد تضحك.. قد يبدو كلامي مضحكا لمن يجهل ولكنه حقيقة.. اني أرى هذه الأشياء كما اراك، لدي الكثير من النزوات والطموحات مما لا استطيع ان ابوح به ولكن ما ذكرته لك هو اقوى الأشياء وأكثرها معقولية، كم حلمت بتأجير غرفة كبيرة في شناشيل المناطق الشعبية، غرفة مضاءة من كل الجوانب في الطابق الفوقي لامارس فيها الرسم لاني لم اكن استطيع ان افعل هذا في البيت من كثرة الشجار والنقار والمشاكل، كم شاهدت لوحات لي منجزة لمواضيع مذهلة بالعشرات انها محبوسة هنا في مخيلتي لا استطيع إخراجها، اني ولو لم ارسمها فهي من رسوماتي المؤجلة الحبيئة داخل نفسي المعبأة بافكار متألقة كأنها الأسود المكبلة في اقفاص من حديد. ها انت ذا تبكي لاعتقادك باني قد جننت لانك من عالم اخر مادي من الرأس الى القدم

– لم اعد ابكي

– اعطني وعدا بالوفاء والكتمان ولا تجعلني اطيل الانتظار

– ما هي الا اشهر

– انا راض عنك وسوف اموت قريبا

– الا يمكن ان لا تموت اني اراك وقد عوفيت

– كلا.. لا مهرب من المكتوب

كان الاهل خارج الغرفة يتحدثون وينتظرون كانت امي تقول: اسرار.. لا اسرار في العائلة لماذا اخرجنا من الغرفة؟ لابد ان نعلم، اخر عمل له يطردنا من الغرفة بينما استأنفت انا أقول ولكن لماذا الان؟ وكان امامك من العمر عشرات السنين لماذا لم تنجز شيئا؟ ماذا كنت تنتظر؟ اما كان الاحرى بك ان تشرع في انجاز هذه المهام في حينها على الأقل لتشعر بشيء من الفخر واللذة في حينها؟!

لست ادري وهذه عقدتي.. لست ادري لماذا كنت اؤجل دائما الأشياء التي كنت احبها فمثلا كنت اكدس الكتب واكثر من اقتنائها ثم اضعها في صناديق كي اعود اليها فيما بعد ولكن عندما اشرع في المطالعة لا اختار افضل الكتب بل اؤجل مطالعة الكتب العظيمة الى ما بعد، وقد تطول هذه الفترة الى ما لا نهاية، فان اعظم واجمل كتبي مازال معظمها غير مقروء وينطبق هذا على مسوداتي ولوحاتي فأفضلها اما غير منشور او غير منجز للعرض، ارجو ان لا تفهم اني كنت لا اقرأ الكتب العظيمة بشكل قاطع ولكن التأجيل والتأخير كان من نصيبها دائما، وينطبق هذا على كثير من الأمور في حياتي لاني رجل تأملات وان الجانب العملي لدي ضعيف وعندما افكر في شيء وانا في حلم اليقظة اشعر بانه قد تحقق لهذا تراني حتى الان لم انجز الا أشياء قليلة قياسا الى المشاريع الكثيرة النائمة في الادراج والمسودات المشدودة بخيوط في اكياسها.

– ولكن لماذا هذا الحرص الذي استيقظ متأخرا؟

– لقد اجلت هذا الامر اكثر من خمسين عاما.. كان قسم من هذا كما بينت لك راجعا للأسباب التي تعلمها وهي طبيعة حياتي غير المناسبة، لا اريد ان اعود الى موضوع الزواج وما جره علي من مشاكل، ولم تكن انت تنصفني من كل النزاعات التي جرت سوف تجد إشارات الى هذا في كل المسودات وسوف تفهم مواقفي اكثر ولك بعد هذا ان تحكم ولكن ما جدوى هذا بعد فوات الأوان؟ اني افعل كل الأشياء بعد فوات اوانها وهذا احد أسباب الاتكال والتأجيل.

لقد كان ابي رجلا حالما.. صحيح اني بعيد جدا عن عالمه واختلف عنه في تكويني الشخصي الا ان هذا لا يمنع اذ ان دراستي الجامعية قد مدت بيني وبينه جسورا وفرصا للحوار لا بأس بها، لم نكن نتفق في بعض الأمور الا ان خلافاتنا لم تكن حادة او عميقة بل هي طفيفة وربما دارت بيننا نقاشات فكرية وسياسية لا تخلو من فائدة ولكنها لم تكن ذات شأن على الصعيد العملي كما هو شأن كل الأشياء النظرية التي لم تكن تثير اهتمامي كثيرا رغم انها كانت محطات استراحة واستجمام بالنسبة لي من عناء العمل، فاني قد ادركت مبكرا ان التطمين الاقتصادي يأتي في الصدارة بينما اعتقد ان المفكرين واضرابهم يتصرفون وكأنهم في حل من مشاكل الحياة وضروراتها، وكأن كل المشاكل قد حلت بالنسبة لهم فلم تبق الا الكلمات الجميلة والألوان والأفكار فهم لا يتوقون الى الأمور العملية نعم ادري ما هي معلومات ابي عن التعامل التجاري بحكم عملي في أمور البيع والشراء هذا العمل الذي يستنزف كل الوقت والجهد والتفكير هو كفاح مستميت من اجل تحقيق اكبر قدر ممكن من المال، فالمال أولا واخيرا في الوقت الحاضر وفي كل وقت، ابي كان يردد ان التمايز في ظل النظام الاشتراكي لا يكون فيما تحتويه الجيوب فهي متقاربة من حيث الدخول بل بالصفات الإنسانية والثقافية وما الى ذلك، في شبابه كان معتصما في غرفة صغيرة هي بالأحرى بيتونة واطئة السقف تخلو من ابسط وسائل الراحة في بيت اهله وكان يقرأ ويرسم ويكتب انه يريد ان يحقق ذاته ويتفوق في موهبته هذا هو هاجسه قبل اكثر من خمسين سنة، وبعد خمسين سنة او اكثر وعندما كنت استغرب حياته تلك والتي اعتبرها متعصبة ولم اكن آنذاك قد ولدت لانه لم يكن متزوجا في هذه الفترة كان هو يستشهد بقول برنارد شو الذي يقول، (ان الناس العاديين لا يرعبهم وجودهم في حضرة انسان ذكي فهم متصورون انهم بكثرة العمل والجد ممكن ان يعوضوا الذكاء، ولا يرعبهم ان يوجدوا في حضرة رجل غني، فكل انسان يقول لنفسه اني استطيع يوما ان أكون غنيا، اما الذي يرعبهم حقا فهو وجودهم في حضرة انسان موهوب ذلك ان الموهبة لا تخلق ولا تكتسب ولا تأتي بالجد والاجتهاد والعمل الشاق انها نفحة من عند الله اما ان تكون او لا تكون فان كانت فانك لا تستطيع قهرها الا بان تقتل صاحبها). وهذا ما فعلته الزوجة اذ قتلت الموهبة يقول مايكل انجلو (الفن والموت لا يتلاءمان) فانا ميت.. فانا ميت من زمان وان هذه الشذرات التي عندي من نتاج فترات الصحو والعودة بين اونة وأخرى الى حياة.

ولكن الحصيلة المأساوية هي لا شيء اذا عاش ابي حياة صعبة فاضطر الى هجر كتبه ولوحاته زهاء اكثر من خمسة عشر عاما عمل خلالها بمصالح شتى كانت تدر عليه ربحا لا بأس به ليسدد ما بذمته من ديون الدار التي ابتناها. كان الاهل خارج الغرفة يتحدثون وينتظرون وسمعت الوالدة وهي تكرر قائلة: اسرار.. لا اسرار في العائلة لماذا طردنا من الغرفة؟ لابد ان نعلم.. اخر عمل له يطردنا من الغرفة وكان ابي يردد نحن لسنا عائلة فعقد الزواج لا يؤسس عائلة.

قالت شذى: الا تهتمي يا امي سوف نعلم ما المسألة انا شخصيا لا اعبأ.

قالت الوسطى: لا اريد ان اعلم.. والدي الان على فراش الموت وهذا اكبر من كل الوقائع التي يمكن ان تظهر فيما بعد اما اختي الصغرى فكانت تبكي فيربتون على ظهرها مهدئين ويدفعها حب الاستطلاع الى النظر من ثقب الباب وهي تقول انهما مازالا يتناقشان.. لا استطيع ان اتبين الموضوع بجلاء اخذتها امي من يدها وذهبت بها الى مكان لا ادري اين وكل هذا كنت اراه واسمعه من كوة في الغرفة وبعد ساعة خرجت ذاهلا وانا ابلغ الاهل بان يعدوا الطعام للاب.

قالت والدتي بصوتها الحاد: هل تمزح يريد طعاما من اين اتى له بالطعام في هذه الساعة؟!

قلت: عليك تدبير امرك.. لقد استعاد عافيته فجأة ولكنه يقول ان هذا هو اخر ما سوف يفعله من أمور الدنيا وهو ان يأكل وان يرى ابنته الصغرى ادخلوها عليه اريد ان ارتاح قليلا.

قلت ذلك وتمددت على الاريكة ووضعت منشفة صغيرة على وجهي

قالت امي: ان اختك خائفة اجبتها من تحت المنشفة: ادخليها ان وضعه عاد طبيعيا لولا هذا ما وجدتيني مسترخيا هكذا على الاريكة ادخليها. وبعد ساعة من الطعام كان قد فارق الحياة وكانت اختي الصغرى غافية بجانبه دون ان تعلم بشيء، خرجت بالطعام عائدا به الى المطبخ امام النظرات المستفهمة وانا أقول: لم يعد بحاجة الى هذا لقد اسلَمَ الروح.. لم يكن هناك مزيد من البكاء والعويل ويمكن القول ان النبأ قد وقع على الاذان وقعا خفيفا فلا احد يستطيع البكاء على هذا الرجل الا الصبية امال.

خمن البعض ان ابي قد اباح لي بمكمن سري لثروته وهو في الحقيقة المخبأ الذي ابتناه لوضع مسوداته حيث خاف عليها من الضياع خلال فترة الحرب التي دارت رحاها بين العراق والاحلاف عام 1991 وهذا المخبأ عبارة عن مكعب كونكريتي صغير بني تحت الأرض وضع ابي فيه مسوداته ولم اشأ ان اباشر بالنبش عن تلك الأشياء، لاني كنت مشغولا لاني نسيت او تناسيت هذا الامر كعادتي فترة من الزمن وكانت الام تلح ببيع الكتب وكنت ارجئ هذا الامر بدل المرة مرات، وكانت حجة امي ان الكتب تشغل حيزا كبيرا من الفراغ وانها بحاجة الى تلك الحقائب لوضع الملابس بينما بعد سنة او اكثر كسرت المكعب الكونكريتي وكان الوقت شتاء وكان الموسم مطيرا بشكل غير مسبوق حيث عثرت على المسودات وقد ذابت حروفها على بعضها بحيث تعذر علي قراءتها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى