مبارك وساط - خمس قصائد من مجموعة “عيون طالما سافرَتْ”

يَغمسون رأس المهرّج
نعم، تمّ الأمر كما فكَّرْتِ فيه
فقد ذهبتُ إلى المصبنة
وجلبتُ ثيابنا
وفي طريق العودة، رأيتهم يغمِسون رأس المهرّج
في رغوة الضّحك التي كانوا
قد ملؤوا منها جردلا كبيرا
وها أنا هنا، أُهْدِيكِ – فيما أنتِ تهيّئين
الغداء–
البَارثينون وقوسَ آخيل ومُبرهَنةَ أقليدس
وجبلَ البارناس ومخطوطةً لإسخيلوس
حتّى تكونَ لكِ آثارُ خُطى
على ترابِ حدائقِ
اليونان القديمة
– أنا، حديقتي قَدَمِي وأظفارُها
أزهارُها–
وبعد هذا سأُردفُكِ خَلْفي على
درّاجتنا المُطهَّمة
ونمضي نحو بيتنا القديم الذي كنّا
قد سكنّاهُ زمناً ثمّ تركناه
وكنتُ، كلّما سكِرْتُ تحت سقفه،
تُشعشع عظامي من تحت الجلد واللحم، بوميضٍ
منتظم أصفر وأخضر وأحمر
وذاك كان يُضْحِكُنا كثيراً إذْ يُذَكِّرُنا
بلعبة البلياردو الكهربائيّ!
الآن، بعد أن ندخلَ مُجدّداً إلى ذلك البيت
فهو قدْ يُباغَتُ كما
تقولين، لكنْ كُونِي
متيقّنةً مِنْ أنّنا سنشعر في غُرفه بنفس
الإعجاب بِـهَـيْـنَـمَـة النّمال التي
خَلْف أحد جدرانه
كانتْ دائماً تتشكّى من الأرق!
بل إنّه سيحتضن بحنوّ حتّى درّاجَتَنَا
ويُعامِلُها ككائنةٍ حلَّتْ فيها رُوحُ
إلهةٍ قديمة
كائنةٍ جِسْمُها من معدن
ولِمِقْوَدِهَا
بَرِيقْ!
………………….
أسلاف
في هذا البيت، في زمن قديم، تطايَرَ شَرَارٌ كثير
من جَسَد جدّ، بعد أن ارتطمَ رأسُه
بسقف قبّعته
سكّانُ هذا البيت، من أجدادٍ أكثر قِدَماً
كانُوا شديدِي التّديّن
واتّخذوا إِلَهاً البُركانَ المقدَّسَ الذي
أصبح في مكانه الآن
فُرْنٌ كبير
أنا، خلال هذه الليلة، في هَذا البيْت نفسِه
أستمرُّ في كتابةِ تاريخ السُّلالة
فَيَدْلِفُ إلى غرفتي ناطقونَ باسْمِها من كلّ
العُصور
يتجمّعون في جانب من الغرفة، فتميلُ تحت ثِقَلهمْ
يركضون إلى الجانب الآخر، فيشعرون
أنّه يَمِيدُ بهم
وهكذا، أنا أُؤَرِّخ لهمْ
وَهُمْ يُمَرْجِحُونَنِي
………………….
لا يُخِيفُنِي إِلَّا شيْءٌ واحِد
زُرْقَةُ هذا النَّجْم – وقد كان
صديقَ طفولتي
ولطالَما حرص على إضاءَة طريقي
أثْناءَ عودتي ليلاً من السّينما –
هِيَ بالتّأكيدِ مَرَضِيَّة
لقد سَاءَتْ حالتُه كثيرا
هذا ما أكَّده لي
طبيبٌ مُخْتَصّ في الجهاز التنفُّسِيّ
وعالِمُ فَلَك
وما هَمَسَتْ لي بِه امرأةٌ في بُسْتان
تبيّنَ لاحقا للشُّرطة السّرّية أنَّها
إمّا زرقاءُ اليمَامَة شخصيّاً
أو من سُلالتِها…
الشُّرْطة السِّرِّية!
يحدثُ أن يَحْدِجَنِي أفرادٌ منها
فَأَحْدِجُهُمْ
أنا لا آبه بهمْ
وفي هذه اللحْظَةِ، لا يُخِيفُنِي إِلَّا شيْءٌ واحِد:
أنْ يَهْوِيَ النَّجْم صديقي منذ الطُّفُولة
واهنَ القوَى على هذه الأرضِ الحزينة
فيما أبقى أنا واقفاً هنا
غَيْر قادرٍ على أنْ أفْعَلَ مِنْ أجله
شيئاً
………………….
نُنزِل قِرْميداً من العربة
نُنزِل قِرْميداً من العربة فيما
على كُومَةِ الرَّمل القريبة
نَحلةٌ عَطُوف تُزْجِي لنا نصائحَ بالأزيز
إنْ نُطبِّقْها تَتقوَّ عضلاتُنا بالتّأكيد
فنحنُ نريدُ أنْ نبنيَ مأوىً للعجوز
الَّتِي مرَّتْ بنا مترنّحةً في الشّتاء الماضي
واختفتْ في حَقْل العَدَس
مرّتْ بنا آهِ مرْرْرْ…رَتْ
مرّت بنا مرْرْرر…رَتْ
هكذا غَنّينا لكِ يا من ترنّحْتِ في الشّتاء الماضي
وأنتَ أيّها الماضي، يا مُقَوَّسَ الظَّهْرِ، يا أَدْرَدُ
لقدْ أَتْرعْنا جيوبُكَ
صُوَراً وأسْنانَ حليب
وأنتِ يا مُدَرِّسةً كان رأسُها
يُؤلِمُها في الأصباح خاصَّةً واسْمُها
كان يبدأ بالجيم
تَرَكْنا لكِ ما تيسّر من هَأْهآت
ونَمَشاً كثيراً
كلُّ نمشة لها مفعولُ حبّة أسبرين
كِرامٌ نحن وأطفال وسعداء
ولم نعد مغروسين بين نباتات الحُرَّيقة
كما كُنَّا عليهِ في واحدٍ من أوائل
أحلامي
نمدحكِ يا مُترنّحة وكم ودِدْنا
لو دغدغنا إبطك الأيمن
فقد عَرَفْنا أنَّكِ جدّتُنا بعد أن سمعناك ذاتَ ليلة
تُعلّمين رُضّعاً كيف يصطادون شُهباً بالشِّباك
وقيل إنّكِ ذاتَ سهرة كنت تُربّتين
على حدبة الرّاقصة
فيما كنّا نَنفخُ في الهَرْمونيكات
نَنفخُ ونَنْفخ
نَنفخ فيها لتبقى مُعزّزةً ولا تَصْدأ
فَيُلْقَى بها في غياهب السّجون
ننفخ ونُغَنّي: مرّتْ بنا آه مرْرْرْ…رَتْ
مرّتْ بنا مرْرْرْ…رَتْ
وهكذا إلى أنْ ننتهي من البناء وَوَقْتَها
سنُقيم حَفْلا
يحضره الباعة المتجوّلون والمساكين
وراقصة حدباء
وابنُ السّبيل والمُدَرّسة بِصُداعها
النّصفيّ
وكذلك الوجودُ والعدم
والتّلميذات اللطيفات اللواتي فتحنَ قلوبهنّ
لِلسَّيَّارات الصّغيرة الحزينة
التي وُلِدتْ
بلا عجلات
………………….
أنا الآن…
أنا الآن في قرية جدّي
أقتعد كرسيّاً صغيراً تحت حائط الجامع القديم الذي
يتدلّى حواليه صبّار كثير
وثمّة كلاب تقضي قيلولتها في ظلّ كومة تبن
فيما تتحادث جماعة المقامرين تحت شجرة
خلف الجامع
بأصوات خافتة ومتوتّرة
عن عبد السّلام بائع الكَيف
وكيف اعتقله الدّرك في الصّباح
وكيف كانت الومضات تنثالُ من شَيب رأسِه
قويّةً
وتتناثر في الجوّ متأجِّجةً
أتُرَى كان ذلك من خوفٍ شديد
أمْ من حِقْدٍ عنيف
أمّا أنا فكنتُ أيضاً قدْ قامرتُ ذات صباح
بحصان صغير
وسَاعَتَها كانتْ أنغامُ جازٍ تتنامى
في أذني اليمنى
وفي اليُسْرى كان يُسْمَعُ حدّادون
وهم ينهالون بمطارقهم على
حَدَواتٍ وخسرتُ حصاني
الصّغير
وها أنا تحت حائط هذا الجامع القديم
أتابع قراءة رواية
روايةٍ رهيبةٍ عجيبٍ أَمْرُهَا
ياه!
ما أكثر قتلاها!




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
۞ “عيون طالما سافرتْ“، صدرتْ عن “منشورات بيت الشّعر في المغرب“، في اواخر يناير 2017، في 88 صفحة، وتتضمّن 48 قصيدة، وهي مجموعته السّادسة. آخر مجموعة كانت قد صدرتْ له قبلها : “رجلُ يبتسم للعصافير” (منشورات الجمل، 2010).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى