ناصر الريماوي - أنتيكا.. قصة قصيرة

حركة وئيدة تدب باكرا، سرعان ما تمتصها المنحدرات الزلقة على جانبي الطريق، بقايا ابتهالات مشتعلة لم تزل تتصاعد لكاتب أو شاعر، وأوراق متناثرة طواها الصباح على طاولة صغيرة تحت أشجار الكينا، غواية التلصص تفقدني نفسي… تماما كفقداني لأشيائي القديمة، فوضاي العارمة يعكسها زجاج المحال وأنا أحث الخطى في البحث عن شيء قديم لم يزل يعنيني، فلا أقلّ من ذلك… “أنتيكا” معمرة، أطباق نحاسية وأخرى من الخزف، تحف عديدة مهملة ملقاة بعشوائية مبرمجة، أرفف ومساند تنوء بقطع فخارية ومخطوطات تناثرت بلا ترتيب، يموج كعادته على كرسيه العريض حين يراني، يحرك شاربيه ويزوم في تأفف، الكهولة وكرشه المترامي يحولان دون انتصاب قامته ليكتفي بعينين فارغتين في تتبع لهذا الجسد، لفحني مرارا بجمر حرمانه، كنتُ أمتص انعكاس نظراته من خلال أفاريز المقتنيات المصقولة بلا مبالاة، والآن ربما ملّ النظر إلى جسدي أو أنه لم يعد يعجبه، فماذا عساي أن أفعل؟

الشمس تغمر الطرقات وتزحف نحو الميادين في ذلك الجبل، هذه المرة لم يشيعني بنظراته، تدحرج نحوي ببطء بعد أن غادر كرسيه بتثاقل، وعند بوابة المتجر خاطبني للمرة الأولى: أحظى بهذا الجمال في كل صباح ومنذ شهور… وددتُ لو أعرف عم تبحثين يا صغيرتي؟
– أفتقد لأشيائي القديمة وأيامي الغابرة، فقط…، أجبت بلا تردد وأنا أشير لتماثيل الأبنوس وأطباق الخزف.
– لم أفهم يا جميلتي…، ثم ضاقت حدقتا عينيه واهتز شاربه وهو يقترب مواصلاً حديثه في تغاض مفتعل عما أقول: هذه مقتنيات أصلية وباهظة، وهي للعرض فقط… نستنسخ منها حسب الطلب.
– ولهذا سوف تراني كثيرا، أشتاق لأشيائي القديمة، ولأيامي الغابرة أيها العجوز… هذا كل شيء.
على وقع كلماتي قرأتُ انكساراته كلها، عمره، وحرمانه، وأمام ترهل جفنيه وخلف شيخوخته البائسة لمحتُ نضارة جردته منها السنون… فندمت، أشاح عني في تأثر بالغ، أشار لواجهة المتجر وهو يقول: وحدها هذه الخردوات لا تشيخ…، ثم وضع كفه على صدره، ليختم حديثه: … وهذا القلب.
عروس مكبلة بالمواثيق، تذعن مرغمة لنداءات تصهل خلف النافذة، وحتى لا تتيه بين “الجبل” وبيت “الضاحية” راحت تتلمس طريقاً وحيدة تمتد مع الصباح إلى وقت الظهيرة، وقبل أنْ ترتخي على جانبيها أشجار الكينا وتقفل… تعود وجلة ومرغمة، قالوا لها بعد أن طفح الكيل: هذا بيتك منذ الآن… وحتى يختارك الموت، فلا تقربي “الضاحية”…ألا تفهمين؟ تلاشى غيظي، تحول في لحظة إلى شفقة حين تكومتْ في الركن تحاصرها عيوننا في حيرة ولوم، نظراتها لا تستقر، تتقافز في ذعر طفولي، نهضت لتحتمي بي في حنو وهي ترد علينا في مرارة: لم يكن في نيّتي الفرار، بيتي هنا أعلم، فقط أفتقد لأشيائي القديمة…
تميل لصمت موحش بعد أن تضج ضاحكة، ألن تنسى أبداً…؟ ثم تفر مني إلى أطراف النافذة لساعات، حتى يغلبها الصيف بطول لياليه، أتدري… وحده القادر، بذلك الصوت الملائكي والرخيم على إعادتي طفلة صغيرة، تحبو عند أقدام والدها، ليهدهد لها، حتى تنام…، وددتُ لو أعرف من تقصد بحديثها في حينه، مضى وقت طويل قبل أن أعرف، وحشة كئيبة لبيت عروس أثقلها الشرود أمامي تبددها الدمى وكتب الحكايات المصورة في لحظة، عرائس من خرق ودببة قطنية كثيرة، ملابس مدرسية وأقراط ملونة… نثرتها على السرير وصيوان الملابس وجدران الغرفة بفرحة غامرة، قالوا لها: لم يعد لكِ في حوزة الماضي ما يدعو للنزوح، أشياؤك كلها قد ردتْ إليكِ…، هذه المرة لم تضحك، ولم تشرد، فقط توافقت بمرار مع ابتهالات متصاعدة من قلب الجنائن المحيطة وبيوت الجبل بتنهيدة مماثلة وهي تردد في حسرة: أين تلك الدمى بعد هذه السنين، أم تراها شاخت مثلنا ورحلت؟ ولم تكف عن فرارها الصباحي، نحو بيت “الضاحية” في حينه… ولم يعرف أحد بما فيهم أنا، ما الذي تبقى، كذلك لم يتصاعد حنقي كسابق عهدنا، بل كنتُ ممتناً حين أخرجني من حيرتي في تلك العيادة بتبسيط حولها، كانت لا تزال ممدة تسترخي بصمت في الركن المضاء بأنوار خافته، قال هامساً: ليست معضلة، فقط هي الغوايات العارضة، ألستَ معي بأن مساحات شاسعة من نفوسنا لم ترتوِ بعد…
– بالتأكيد…
– لكن عليك الإسراع باستبدال الدمى بتذكارات حميمة… ولتبدأ بالسفر.
حين هجرتني إلى افتتاحيات الصور قبل هذا الزمن، توارى ذلك البيت القديم خلف أطلال “الضاحية”، فأسدل القدر من حوله ستراً ثقيلاً وموحشا، ولم ترث إلا “فونوغرافاً” عتيقاً بصندوق وردي وبوق من خشب “الأكاجو”، احتل غرفتنا، شاركنا السرير وأمسيات الصيف بصوته الرخيم، مع الليل يحتدم بموسيقى السهرات الغابرة، لتحبو على أصداءِه نحو أقدام أبٍ لم يعد يهدهد لها قبل النوم، تضج لحظة وصولها إلى مكاني، وحين تراني ساهماً، تثور ثم تشير إلى افتتاحية الصور على جدار الصالة الرحبة، وهي تردد في صخب: انظر، منذ أن غادرتَ إطارها النحاسي وأنتَ تشيخ عاما بعد آخر… لم تعد مثلي، تأمل ثوب العرس فيها، ألا ترى كيف احتفظتُ بعمري ونضارتي حين بقيتُ ولم أغادر…، ينقطع العزف ويغرق البيت في الصمت، فتزيغ وتنطفئ، تجرها سكينة النوم نحو قدميّ، لتهجع هناك، آخذها بين ذراعي في حيرة، تهمس في توسل: لم أكن أقصد…، أنا فقط أفتقد لأيامي الغابرة في تلك الصور ولكْ، هذا كل شيء.
– لكنها لم تعد تعرفني، وأنا فقدتها بين تذكارات التحف القديمة…، وأشرتُ للصالة الرحبة
تولته حيرة مماثلة فلم يحرك ساكناً أمامي، تأمل المكان ثم طالعني بصمت وتيه، راح يفكر بعمق، وعلى أضواء خافتة رشحت من حولنا ظلالا لمقتنيات نادرة، قال: هل كان استبدال الدمى بتذكارات كهذه غير كاف؟
– بلى… لكنه “الفونوغراف” ، هذا الدخيل على حياتنا، له تأثيره الخفي…
– هل كان آخر الأشياء المفتقدة لديها؟
– أظن ذلك…
تنسل إلى جحر كآبتها كعادة لا تتبدل، تكابد في اجترارها لذكريات قريبة ألم الرجوع بعد كل رحلة، أو سفر… تذوي أمامي وتتلاشى وأنا أنتظر، تستفيق فقط حين يعفيها الوقت من وطأة الأثر، لتخرج من جحرها، تأنس من جديد لصالة البيت الرحبة، يفتر ثغرها عن ابتسامة باهتة حين تبدأ بنثر تذكاراتها في المكان بهدوء حذر، تنظر إليها كشاهد أخير على تلك الوقائع… ضاق المكان بالدمى، تخلت عن بعضها لصالح تماثيل “الأبانوس” والساعات على مساند خشب الساج، وعن بعضها الآخر لعرض نحاسيات وأطباق عريقة من الخزف، لم يبق من تلك الدمى شيء، لكل تذكار نبذة، حكاية وأصل، بروناي، رواندى، التيبت…وغيرها، صالة البيت محض متجر أنيق، إطار نحاسي نافر أحاطت به افتتاحية الصور على الجدار، ومقعد عريض، قالت بأنه لخريف العمر بيننا، لكنها لم تدرك بسريرة عفوية مرور الوقت إلا بعد أن ودعت الطريق الوحيدة نحو بيت الضاحية لمرة أخيرة، لينبت بيننا “فونوغراف” بأمسيات غابرة، راح يعصف بأوقاتنا الرتيبة، فوضاها أرغمتني على التداعي فالتصقتُ بمقعدي العريض وأخذت أنتظر خريفي…
– عليكَ التخلص إما من “الفونوغراف” أو من افتتاحية الصور تلك… قالها بامتعاض وبإشارة خاطفة للجدار وهو يغادر…
وأنا لم أتوانَ فنفذت ما قاله، ولم أحسب حسابا للتجاعيد التي تسللت إلى وجهها، والتصقتُ بمقعدي العريض لأشهر طويلة، وانتظرت بكل ما أوتيتُ من صفاقة أن يتبدل شيء ما، أو أنْ تعود، لكن شيئاً لم يحدث، حبست نفسها لأشهر خلف باب الغرفة، ولم تعد تغادرها إلا مع الصباح وكلما لمحتني، أتدارك نفسي محاولاً استرضاء علتها بوعود كثيرة… عن استنساخ مماثل لما تفتقد من أشياء، فقط لتخبرني… لكنها تأبى ولا تفعل… فقط تكتفي برد غامض: لهذا سوف تراني كثيرا، أشتاق لأشيائي القديمة، ولأيامي الغابرة أيها العجوز…، بكيتُ للمرة الأولى أمامها وأنا أؤكد بأن الخردوات وحدها لا تشيخ، وقلبي أيضاً… كانت أقرب إلى باب الحديقة، عبرت منه إلى الشارع بعد أن شيعتني بازدراء… غادرتْ في ذلك الصباح ولم تعد لبيت الجبل… وكنتُ كلما هدني الليل أموج وحيداً بين خردوات باهظة بصمت ثقيل، يتسرب نحو مسامعي صوت ذلك البوق بألحانه المسائية، أرتدُّ للبحث عنها بين ما تبقى لنا… فلا أجد إلا الصدى.
____________
* من مجموعة “ميرميد” القصصية



* نقلا عن ثقافات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى