ناصر سالم الجاسم - عُرس الجن.. قصة قصيرة

أمشي وجمر سجائري يثقب بُردة الليل المسبولة على كل الكائنات.. التبغ يدفئ صدري والبرد يعضّ أصابع قدميّ.. الهواء المرسل من خلفي يشدّ ذيل ثوبي إلى أعلى.. اصطدمتْ قدماي بحجر فسلخ بعض جلدها.. الجرح مؤلم جدا في الليل البارد.. ما بين المقبرة والمستنقع أمشي وبيني وبين العيون حجاب كثيف، قول شافي المرهق بالمشي كان الخدين: "وجود أنثى في قلبك يعني وجود نقطة ضوء في طريقك وعلاج النفس التي تعاني الوحشة، المشي في طرق موحشة" التبغ أنيس مؤذ لمن لا أنيس له والطريق نصف موحش فأوله مقبرة عتيقة وآخره مستنقع لا يسمع صوته إلا في الليل.. أخذتْ عيوني تتكيف مع الظلمة الطاغية فبدأتُ أرى حدود الأشياء المعتمة.. رأيتُ في البعيد بقعاً من الضوء تكبر باهتة البياض تدور حول نار تدخن وسمعتُ نهايات أصوات طرب تدعو لحضور الأجساد..
كانت تتحرك في ذهني صورة.. ما أشقى الذهن إذا تحركت به الصور.. حتى الصور الجميلة إذا تحركت فيه أتعبته.. رُمي عليّ حجر أخطأ رأسي.. لم يكن الرامي يريد قتلي.. ربما أراد إيذائي بمزاح ثقيل غير مؤدب.. كان الجن وراء المستنقع يحتفلون.. يغنون ويرقصون.. انجذبتُ بكل حواسي برغم الجرح الزاجر إلى عرس الجن.. جعل الجن يعيقون تقدمي في عبور المستنقع.. انقسموا إلى فئتين.. فئة تعيق، وفئة ترقص وتغني.. الجرح في ماء المستنقع البارد غاضب جداً.. لمن ترقص الجن؟! ولمن تغني؟! عبرتُ وصوت المستنقع يعلو.. حملتُ بجسدي إلى اليابسة جالون ماء.. كان بعض أفراد الفئة التي تعيق تقدمي يحركون ماء المستنقع تحتي وأمامي.. الجن يفوقون التبغ في الإيذاء، وإيذائهم لا يخلو من أنس.. وضعتُ قدميّ على اليابسة فاختفى عرسهم ونارهم.. انتقل الغناء والرقص والعرس كله عند المقبرة العتيقة.. عجباً لأمر الجن.. يحيون أعراسهم وراء المستنقعات وبين الأموات.. تمثل لي أحد أفراد الفئة المعيقة في صورة حمار واقف في المستنقع يغريني بركوبه، فقررتُ أن أركبه لألحق بعرس الجن قبل أن ينتهي.. ركضتُ في المستنقع والجرح بالركض ناقم جدا.. وضعتُ يداً على أذن الحمار وأخرى على رقبته ففرّ وتركني أقبل ماء المستنقع بلغدي وأمسح بعضه من علي شفتيّ.. قد يكون فرد آخر من الفئة المعيقة جر قدمي وسقطتُ أو قد تكون مجموعة منها.. كان مستسلماً إلى أن مددتُ يدي ورفعت رجلي اليسرى وفجأة فر كالملدوغ..
وأنا في المستنقع مبلول، صوت العرس يحلو ويتناغم.. لغة الجن لا تختلف عن لغتنا.. عبرتُ المستنقع ثانية وحملت إلى اليابسة بجسدي جالون ماء ثان.. حططتُ قدمي على اليابسة وانتقل العرس والنار وراء المستنقع وعاد الحمار إلى الماء.. رقصتُ على اليابسة والرقص بالجرح قاتل جداً..



* نقلا عن جريدة الرؤية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى