سيد الوكيل - مستجابيات

يحق لى أن استخدم هذه الكلمة ..مستجابيات ..للتعبير عن حيرتى فى تصنيف سلسلة الكتابات الأخيرة التى أصدرها الراوائى الكبير محمد مستجاب ( رحمه الله ) ، مستفيدة فى هوامشها ومتنها من لقبه الذى خلعه على أبطاله فجللهم بالفخار والعار وجعل منهم حكماء وحمقى وأمراء وصعاليك على نحو ما نرى فى مستجاب الأول والثانى من آل مستجاب ..إلى آخر مستجابياته (الفاضل والبأف والكلب ).


يقول مستجاب الكاتب عن مستجاب المكتوب عنه فِِِِِِى البشارة ( .. ويكون لك ولد ذكر من صلبك، تضيع عينه اليمنى جهلاً واليسرى ثقافة ، يهلك أطناناً من التبغ والورق وأبيات الشعر والشاى ومكعبات الثلج وآيات التكوين والمبادئ والملوك والخفراء والثرثرة والشعارات والوزراء ..ويكون رؤماً قلقاً جامحاً ، جامعاً لصفات الكلاب والعصافير والحنظل والحشرات والأبقار ، يداهمكم بقصصه القصيرة حتى يقضى نحبه مجللاً بالفخار فى العراء على قارعة الوطن .. ).


بهذه الطريقة يتماهى مستجاب الكاتب فى المكتوب، ويلتبس كل منها بالآخر فى كل لحظة ، فلا تعرف حدوداً للشخصية عنده ، فجميع آل مستجاب (المكتوبون والذين على قائمة الانتظار) يبدون تمثيلاً لفكرة مجردة وتجسيداً لشخصية مفتوحة تجمع العديد والمتناقض من الصفات وقابلة للتشكيل والكتابة مرات ومرات فتكتسب قدراً من شرعية الوجود واستقلالية الحياة وتفرد الملامح ، على نحو ما يجعل والت ديزنى من ميكى ماوس أو دونالد دك شخصية لها تاريخ وحاضر ومستقبل .


وهو ما يعنى أن مستجاب يكتب نصاً ممتداً لاينتهى ، ولا تنغلق أبوابه بحبكة ولاتنفرد بتقنية ، وإنما تظل تتدفق معانيه وتتوالد لغته وتتكاثرأحداثه من داخل عالم خاص وشخصى هو عالم محمد مستجاب ذاته، وظنى أن مستجاب الكاتب اكتشف هذا العالم فى تلك اللحظة التى عثر فيها على نعمان عبد الحافظ فوق حماره، الذى يبدو لى أيضاً شخصية كارتونية .


أما ( الكارتونيزم ) فهو ذلك المصطلح الذى استخدمته فى حالة مشابهة لأشير به إلى طريقة كتابه،ونظرة إلى الواقع تجرده من أقنعته، وليس مجرد أسلوب ، وهو ملمح جديد يتخلق فى أجواء مابعد حداثية يرتبط بسمت ( الباروديا ) أو المحاكاة الساخرة ، ويظهر على استحياء عند كتاب شباب مثل إخلاص عطا الله وإيهاب عبد الحميد وأشرف الخمايسى وهدى النعيمى أما النموذج الأكثر دقة فى التعبير عن هذا الملمح فيقدمة القاص الشاب ( طارق إمام ) "1"،


فأسلوب مستجاب يتميز بطاقة من التخييل الملتبس بين المجازى والحقيقى والفانتازى والواقعى والشعرى والنثرى وهو شيئ مختلف عن واقعية ماركيز السحرية وكابوسية كافكا وهذا ـ فقط ـ تنويه وتنبيه لأن كل شيئ عند البعض ( صابون ).


مستجاب ضالع فى (الباروديا) ، كما أن جورج أورويل الأكثر مأساوية ومباشرة ضالع فيها أيضاً ، ومستجاب ضالع فى خلق شخصيات كاريكاتورية ، فيجعل من ذاته وصفاته ندوبا وعلامات فى ملامح شخصياته ، وهو يلعب بها ولكنه لايلعب معها كما يفعل والت ديزنى ، فمستجاب وإن بدا للبعض طفلاً فى إبداعه فهو طفل واعر وليس بريئاً بالمرة ، أما هو نفسه فكان يصف كتابته بإتها شريرة .


وفى ظنى أن مستجاب أقرب شبهاً بالمسرحى الشهير ( ألفريد جارى ) مخترع شخصية ( أوبو) الملك الأحمق ، وصاحب مسرح العبث ، ورائد فى تيار الاحتجاج والتناقض.ومؤسس لما بعد الحداثة وفق شهادة إيهاب حسن نفسه .


وبهذه الطريقة الفريدة فى الكتابة يبدو لى أن محمد مستجاب يمثل فى حد ذاته ظاهرة أدبية منفردة فى إبداعه المكتوب ، بل وفى إبداعه اللحظى المحير والمثير للدهشة ، والمؤثر فى الحياة اليومية لمجتمع الأدباء والمثقفين ، فتعليقاته وأسئلته ومداخلاته وطريقته فى التعامل ومظهره ، كل شيئ فيه يدفعك إلى الاعتقاد بأنك أمام إنسان استثنائى ، وهذه التركيبة المعقدة من خشونة المظهر، وحدة الذكاء ، وطلاقة اللسان ، وحمية الطباع ، وتلقائية التواصل ، وعمق المعانى ، كل هذا ليس فقط تمثيلاً لمحمد مستجاب الكاتب ، ولكنه يمثل ـ أيضاً ـ كتابات مستجاب نفسها ، بما يعنى أنه لاتوجد مسافة بين ذاته وكتاباته .


إن كتابات مستجاب تطرح نفسها كنموذج لتصورنا هذا ، بمعنى أن نصوص مستجاب تقدم التثميل الأكثر اكتمالاً عن القصة بوصفها ظاهرة ثقافية قادرة على إعادة إنتاج نفسها فى أشكال وأساليب وآفاق معرفية متعددة ومختلفة وربما متناقضة.


لهذا طالما كنت أعتقد أن النقد المدرسى المنظم المحدد الأهداف والوسائل لايمكنه أن يحيط إحاطة آمنة بكتابات مستجاب التى تتصعلك على القراء وتتعالى على النقاد وتتذاكى على الساسة والشرطيين ، وتتلاعب بالعقول والمشاعر والسياقات المعرفية فتدمج الواقع فى المتخيل والتاريخى فى المعاصر والمقدس فى العادى واليومى فى الاستثنائى والأسطورى فى المعاش والجد فى الهزل .. وأيضاً .. العلمى فى الخرافى .


ويكفيك أن تلقى نظرة على غلاف كتابه الأخير لتشعر بالحيرة والغيظ لأن أحدهم يسخر مما اعتدته فى غلاف رواية ، فالكتاب يحمل عناوين ثلاثة تبدو ألا علاقة بينها فى المعنى أو فى بنط الكتابة أو حتى فى اللون ، وأسفل العناوين الثلاثة صورة لمستجاب تغيظك بنصف ابتسامة ساخرة ، ونصف نظرة شريرة إذا نظرت لها بعين سينمائى وماكرة إذا كنت مهذباً كأديب ، ولكنها نظرة لعينين يقول عنهما فى إحدى رواياته ... ضاعت إحداهما جهلاً وضاعت الأخرى ثقافة ، ولاحظ المفارقة الساخرة من ذاته وشخصياته ومن تناقضات الواقع بضربة واحدة.


العنوان على الغلاف مكتوب هكذا .. ( مستجاب الفاضل ، ببنط كبير ناصع ) ، ( هذا ليس كتاب البأف ، ببنط متوسط منطفئ ) ،(كلب آل مستجاب ، ببنط صغير مموه ) ، يتشكل العنوان كسلم فى أعلاه الفاضل وفى أسفله الكلب والبأف بينهما، ويمكنك أن تخمن دلالة هذا السلم إن شئت ، ولاتنس أنه اعتاد فى عناوين كتبه السابقة أن يمنح أبطاله من آل مستجاب أرقاما على نحو ما يقول مستجاب (الخامس أو الثانى من آل مستجاب)، أما الآن وهو يكتب آخر مستجابياته ـ رحمه الله ـ يخبرنا إنه احتار وفكر وبحث عن رقم يناسب الأخير من آل مستجاب الذين خلدهم جميعاً وسطر سيرهم فجعل منهم وجهاء وصعاليك وحكماء وحمقى ، ولما أعيته السبل ولم تسعفه ذاكرة الديجتال أطلق عليه الفاضل ثم وضع فى عقبيه الكلب والبأف .


وكان قد اختبر الأرقام كلها ووجدها تضيق عن صفات بطله هذا الأخير من آل مستجاب، وهكذا خرج الفاضل بلا رقم يميزه عن الآخرين ، وهو بذلك يفلته من مصير مشئوم ، أو من ميتة مفضوحة كتلك التى أماتها للخامس من آل مستجاب فى محل للأدب .


ومع ذلك فالفاضل ـ أيضاً ـ ينتهى نهاية ابشع وأعنف وأكثر مدعاة للسخرية مثله مثل آل بيته السابقين ، إذ يموت الفاضل ولايجد أهله تكاليف الدفن والعزاء فيقترح أذكاهم وأحكمهم بيع جثمان الفقيد إلى طلبة كلية الطب الذين عملوا على تقطيعه وتثمين أعضائه فتفرق أشلاء بين العباد والبلاد والمعامل والثلاجات فيما مضى آل مستجاب رافعين النعش خاويا ووقفوا يتلقون العزاء بكبرياء وعظمة تليق بالفاضل ،هذا مشهد دال على مجتمع خاو من الفضيلة يصنع أبطالاً وهميين ثم يعود يمزقهم ويبيعهم أشلاء متى يشاء ، وهكذا فقصص مستجاب تضرب فى عمق ثقافة المجتمع.





وتأكيداً على معنى القصة عند مستجاب كفضاء ثقافي ، فإن كتابات مستجاب هى خليط بين السيرة الذاتية والسيرة الشعبية والقصة والرواية والمقامة والنقد والكوميديا والتراجيديا، أو التنكيت والتبكيت أو الحكمة والجنون ، ثم هى ليست سرداً خالصاً ، ولا إخباراً تاماً ، وإنما هى خليط بينهما ، بحيث تبدو الحكاية ظلاً فى وسيط أقرب إلى الكلام منه إلى اللغة ، تذكرنا بكتابات الجاحظ فى تنقله الحر بين المعانى والألفاظ ، واستخدامه لأساليب تشبه فى حركتها الكر والفر عندما تصرح أحياناً وتلمح فى أحيان أخرى ، أو تتداخل بين الجد والهزل ، وتأخذ من كل شيئ بطرف دونما ترهل أو امتلاء، لذلك فهى على قدر ما تحدثه لك من الإمتاع والمؤانسة ، تثير دهشتك وغيظك فى آن واحد ، لأنك ستدرك بعد وقت أن سخريته تتجاوز السخرية من أبطاله إلى قرائه ، ومن واقعه المتخيل إلى واقعنا المعاش.


لهذا فحين تقرأ مستجاب فأنت تمشى فى أرض مليئة بالأنصال والصخور والأشواك البرية ، تغطى تحتها ألغاماً يمكنها أن تنفجر فى أى وقت ، فأنت مع مستجاب تظل يقظاً متوتراً ومنتبها لكل حرف وكل إشارة ، فالغافل والمستكين والمهادن لامكان له على مائدة مستجاب الحافلة بالشر الجميل .


هكذا تتقافز اللغة من معنى إلى آخر فى تراكم هائل وتلاعب مثير ، ليزيد من استلابك وجرك إلى حقول ألغامه "2"، فالطمأنينة فى الموت كما يقول فى قصة ( كوبرى البغيلى ) من مجموعة ديروط الشريف ، والتسليم بالبديهيات والوثوق التام فى نواميس الطبيعة وأقانيم الأدب ، يخلو تماماً من الحكمة .


وقصص مستجاب لاتنحنى للأداء الآلى المتراتب المرتب ، ولا تستقيم مع التحريك النمطى للأحداث والحوارات والشخصيات وكل عناصر القص نصف المجهز كدجاج كنتاكى ، ولكنها تمثيل جيد لروح المغامرة ، وكسر السياقات واختراق المألوف ، ليس الحكائى فقط ، ولاحتى اللغوى كذلك، بل والتقنى أيضاً .


وإن بدا التحريك التقنى شاحباً فى قصص مستجاب ، فليس مردة انعدام الحيلة بقدر ماهو تجنب التحايل التقنى ، فمستجاب ليس بحاجة إلى حيل التقديم والتأخير أو الإفصاح والتعمية ولا ـ حتى ـ فى حاجة إلى توزيع الزمن، لأن لغته وتدفق أساليبه يعملان ـ طوال الوقت ـ على خلخلة مثل هذه المركزيات ، وتذويبها حتى تتماهى معالمها، وتنتهى إلى قوام ثقافى عام أكثر منه أدبى .


وظنى أن ثمة خاصية لايمكن دراسة كتابات مستجاب بمعزل عنها


وهى أن السرد عنده أقرب إلى الأداء منه إلى الحكى ، وحيث الحكى من المحاكاة ، وحيث الأداء كسر لها على نحو ما يمثله المسرح البريختى فى إسقاط الإيهام ، أو مسرح القسوة عند (ارتو) الذى يصدم متفرجية ويؤلمهم عندما يكشف عن أبعاد الشر الكامن فى الواقع ، فالناس فى قصصه تقتل أو تموت فى الشرفات أوعلى ظهور الحمير أو فى المساجد والترع والغيطان وعلى قارعة الطريق بلا سبب أو معنى .


ولعل روح الأداء المسرحى ، وروح المبالغة فى حمل شخصياتة إلى مرتبة البطولة الدون كيشوتية ، وقيام وانهيار هذه الشخصيات فى الواقع والتاريخ والنص ، وكل هذا يضفى سمتاً ملحمياً على عالم مستجاب وطبيعة الأداء السردى مما يجعله أقرب إلى راوى السيرة منه إلى الروائى أو القاص ، وهو ما أحب تسميته بالملمح الهومرى نسبة إلى هوميروس.


وهذا الملمح قد يفسر حيرتنا فى تصنيف بعض كتابات مستجاب ، من ذلك مثلاً كتابه الأخير فى سلسلة المستجابيات عن الفاضل والبأف والكلب ، فهل هو رواية واحدة من عدة فصول ، أم مجموعة قصص قصيرة ، أم هو مجموعة روايات قصيرة ، فإحالات الفصل والوصل بين كتابات مستجاب منذ ( الأول ) وحتى (الفاضل) ، تبدو شديدة التداخل والتركيب حتى لتبدو مجموعة المستجابيات كما قلنا من قبل ، نص واحد لم ينته بعد ..


كما يفسر سمت الأداء الملحمى ، تلك الإشارات الكثيرة التى ترد فى نصوص لاحقة عن أخرى سابقة ، بما يعنى أن عمليات التناص تتم على قدم وساق فى نصوص مستجاب ، ولكنه تناص داخلى ، يضمن للنصوص إيقاعاً هارمونيا خاصاً ، ومفعماً بكثير من تقنيات الترديد والتنغيم وربما التجويد الذى يقارب العزف المنفرد ، وعلى القارئ أن يكون منتبها لهذا الملمح ، فالقارئ الذى لا يعايش عالم مستجاب ولايقيم فيه منذ ـ البداية ـ ربما لايستطيع أن يتواصل معه ، وربما لهذا السبب فإن كتابات مستجاب محل خلاف كبير بين القراء ، وهو خلاف يتجاوز التقييم الشخصى إلى الإدراك الذهنى، فكتابات مستجاب مثل حلقات تتواتر وينبنى بعضها على البعض الآخر ولكنه ليس ـ فقط ـ بناءً موضوعياً يمكن إدراكه أو تخمينه على نحو ماتفعل بنا مسلسلات الدراما العربية ، بل هو بناء ذهنى وجمالى وإسلوبى بل وثقافى أيضاً.


ربما .. لأن مستجاب يدرك مدى صعوبة التواصل معه ، فهو يلجأ أحياناً إلى استدراكات من أعماله السابقة يضمنها أعماله اللاحقة ، وهى حيلة تجد مبررها الفنى فى طابع الأداء الملحمى الذى أشرنا إليه بقولنا إنه يكتب نصاً لاينهى.


يقول فى مستجاب الفاضل شاحذا ذهن القارئ بمستجابيات سابقة


( إلا أن الفاضل مستجاب اكتسب صفة الفضيلة ـ فى اسمه كما يشاع بين أهله ـ رفضا للترتيب الرقمى ، لأمر آخر غير ما يجرى فى المأكل والمشرب والتراحم ونفاذ البصيرة والنظافة والأناقة والرجولة وجودة الخط ـ أو حسن الحظ تهرباً من كبوات الحروف فى المطابع ـ لانتباه الفاضل إلى أن قومه فى حاجة قصوى إلى الإحساس العارم بالكبرياء ، الكبرياء المنيرة الهادئة التى حملتها الأشعار والمواويل والحكم والأمثال والطرائف ، دون الانتباه إلى ضآلتها وضعفها ـ بل وندرتها ـ فى الاحتكاك والتعامل والحركة والمصارعة ـ أو التصارع ـ والوقوف والجلوس والتلاعب والمساندة والإنصات والحوار والمرح ) .


هكذا تتدفق اللغة وتتداعى الخواطر وتزدحم الأفكار لتحقق الإمتاع والمؤانسة عندما تدل اللغة ولاتعنى فتفكك أربطة الوعى وتخلخل مفاصل الوجدان، عندما تتصادم بتناقضاتها وخروقاتها للسياقات الحكائية بجمل اعتراضيه ـ مثل تعليقه على الأخطاء الطباعية ـ التى تنطلق كرصاصات طائشة فلا تعرف متى ولا إلى أين تنطلق ، أما إذا كنت تمشى ـ أيضاً ـ على أرض ملغومة أصلاً ، فليس أمامك وأنت تقرأ مستجاب إلا الانسحاب السريع وإيثار السلامة، أو التسليم ورفع الراية البيضاء ليأخذك مستجاب أسيراً فى عالمه الذى يشبه المتاهة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى