مشروع تقسيم فلسطين وأخطاره لباحث عربي كبير .. تتمة

الأماكن المقدسة

لم تكتف اللجنة الملكية بحرمان العرب من قسم فلسطين الطيب، مورد حياتهم، بل سلخت القدس وبيت لحم ومنطقة واسعة توصلهما بالبحر عن البلاد العربية، ووضعته مع غيره تحت انتداب بريطاني دائم، بحجة أن المحافظة على هاتين المدينتين (أمانة مقدسة في عنق المدنية)، كأن العرب لا يعرفون المدنية وكأنهم لا يدركون مقدار ما لهذين المكانين من قداسة

إن العرب هم أكثر الشعوب تقديساً للقدس وبيت لحم، والإنكليز يعرفون ذلك، غير أنهم اتخذوا مبدأ (المحافظة على قداسة القدس وبيت لحم) وسيلة لسلخهما عن البلاد العربية، وتسهيلا لتحقيق المآرب اليهودية في هذا الجزء من البلاد المقدسة

مهدت اللجنة الملكية في تقريرها السيطرة اليهودية على هذا القسم من فلسطين، فهي توحي بأن تكون لغته الرسمية الإنكليزية لتزول مع الزمن منه الثقافة العربية والروح القومية. ومهدت السبيل لأن تكون أكثرية موظفي الحكومة في هذه المنطقة من اليهود. إذ هي تقول (صفحة 138) بأنه لو لم يكن هناك الانتداب الحالي على فلسطين، لاعتبرت الحكومة اليهود والعرب جماعة واحدة، ولانتخبت من بينهم الموظفين حسب كفايتهم لا حسب جنسيتهم، كما هي الحال الآن، ولكان أكثرية هؤلاء الموظفين من اليهود لأنهم أكثرية كفاية وأكثر مقدرة. وتقول اللجنة بعد ذلك بأن الانتداب الجديد (صفحة 382) لن يجعل ثمة مجال للبحث في حفظ التوازن بين ادعاءات العرب إزاء اليهود أو بالعكس، لأن الحكومة ستنظر إلى جميع السكان نظرة واحدة. ومعنى هذا أنها سوف لا تراعي النسبة بين الموظفين، بل ستأخذ الأقدر والأفيد لها. والموظفون اليهود أقدر بكثير من الموظفين العرب في نظر لجنة اللورد بيل

ومتى أصبحت اللغة الرسمية الإنكليزية، ومتى أصبح الموظفون من الإنكليز واليهود، صعب جداً على العرب العيش في هذه المنطقة من بلادهم واضطروا إلى النزوح عنها، فتصبح الأكثرية الساحقة فيها من اليهود. وحتى لو فرضنا أن عرب هذه المنطقة سيظلون فيها، فإن اليهود سينسلون إليها وسيصبحون فيها أكثرية. وعندها يطلبون إجراء استفتاء سائلين سكان هذه المنطقة فيما إذا كانوا يريدون الانضمام إلى (المملكة اليهودية) أو إلى (المملكة العربية). وتكون النتيجة الانضمام إلى (المملكة اليهودية)، ووضع اليهود أيديهم على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، وإقامة هيكل سليمان مكان الصخرة الشريفة. . . وستجد الحكومة البريطانية عذرا لذلك تبرر به عملها قائلة بأنها تحب العدل ولا ترغب في حكم جماعة رغم مشيئتهم!. . .

ثم إن القدس مدينة كبير، يعيش أهلها على الوظائف والموظفين العديدين الذين فيها، وعلى التجارة مع القرى. فمشروع التقسيم يحرم أهل القدس من الوظائف ويقلل عدد موظفي المدينة، ويقطع القرى التي تتعامل مع القدس عنها. وسحل حينئذ أزمة اقتصادية شديدة يقاسي سكان المدينة العرب آلامها. . .

تقول اللجنة الملكية إنه (يجب أن يلقى على عاتق الدولة المنتدبة أيضا عبء المحافظة على الأوقاف الدينية وعلى الأبنية والمقامات والأماكن الواقعة في أراضي كل من الدولتين العربية واليهودية والمقدسة لدى العرب واليهود). وهي في هذا القول تريد إيهام الرأي العام بأن في المملكة العربية مقدسات يهودية! والحقيقة أن ليس لهم في القسم المنوي إبقاؤه عربياً شيء من هذا القبيل. أما العرب فلهم في مشروع (المملكة اليهودية) جوامع وكنائس وأوقاف وأبنية ومقامات وأماكن مقدسة عديدة، تتعهد الحكومة البريطانية بالمحافظة عليها! لقد رأينا قيمة تعهدات الحكومة البريطانية ومدى ما يمكن الاعتماد عليها. . .

ثم ما الفائدة للعرب من بقاء جوامع وكنائس ومقامات مقدسة في قسم من بلادهم يرغمون على الرحيل عنه؟ إن العرب يقدسون الجوامع والكنائس مادام فيها مصلون، أما إن قدر للشعب العربي أن يرحل عن وطنه (وهذا لن يكون) فخير له أن تنسف الجوامع والكنائس، وأن تمحى آثاره المقدسة، من أن تبقى أثراً يذكر الأجيال بأنه كان في هذه البلاد شعب عربي لم يعرف كيف يحتفظ بها. . .

دولة يهودية إن لمشروع تقسيم فلسطين فائدة واحدة، ذكرها اللورد بيل في تقريره، وهي تحقيق أحلام اليهود من تأسيس مملكة لهم في الأرض المقدسة.

لقد منح تصريح بلفور اليهود وطناً قومياً في فلسطين، يعطيهم الحق في القدوم إلى الأراضي المقدسة وسكناها دون أن يغير ذلك كيان العرب وحقوقهم. غير أن هذا التصريح لم يحقق آمال اليهود؛ على أنهم قبلوه ليكون وسيلة لتحقيق تلك الآمال. وجاء اللورد بيل وأوصى بإلغاء الانتداب القائم على تصريح بلفور، وإعطاء اليهود مملكة في أطيب قسم من فلسطين، مستقلة تمام الاستقلال، ولها ما لأكبر الدول من سيادة ومكانة. ومثل هذه الدولة لا تحقق آمال اليهود كلها، بل هي إلى إحياء الصهيونية، بعد أن كادت تفشل، ووسيلة لإيصال اليهود إلى غايتهم الرئيسية، وهي: إنشاء دولة يهودية ممتدة من النيل حتى الفرات، واستعمار الشرق الأدنى، لاسيما الشرق العربي، استعماراً اقتصادياً.

إن تأسيس مملكة يهودية في فلسطين أو في قسم منها، مهما كانت رقعته، خطر عظيم على الشرق العربي أجمع. لأن منح اليهود مملكة معناه تقوية نفوذهم في جميع أنحاء العالم، وسيطرتهم على الدوائر السياسية الدولية، سيطرة تجعل لدولتهم، مهما كانت صغيرة، أهمية دولية لا تقل عن أهمية عن كبار دول العالم. ويتلو ذلك تزلف الدول لهذه الدولة القوية، فتأخذ في عقد محالفات معها، تضمن للدولة اليهودية حرية العمل في الشرق الأدنى لاسيما في بلاد العرب منه.

وفي أثناء ذلك تكون (الحكومة اليهودية) آخذة في حشد اليهود في (القسم اليهودي) من فلسطين. وقد صرح رجالاتهم من الآن، بأنه سيبلغ عدد اليهود في هذا القسم عما قريب خمسة ملايين، جلهم من الشبان والشابات الصالحين للعمل. لهذا ستكون قوة التجنيد عندهم معادلة، إن لم تكن أقوى، لقوة تجنيد بلاد عادية يبلغ سكانها خمسة عشر مليوناً. وستدرب الحكومة اليهودية هذا العدد الكبير من الرجال والشبان والنساء على الأعمال الحربية. وسيكون لديها جيش قوي مجهز بأحدث عدد الحرب. وزيادة على الجيش المحلي فإن للدولة اليهودية جيوشاً احتياطية منتشرة في جميع أنحاء العالم. لأن كل يهودي خارج فلسطين سيعتبر نفسه جنديا في جيش (الدولة اليهودية) وسيلبي النداء مهما كان بعده عن الأراضي المقدسة. وليس في العالم قوة تحول بين ملايين اليهود وبين الانضمام إلى جيشهم في فلسطين. . . وإن حوادث أسبانيا الحالية خير برهان على ذلك.

وقسم المملكة اليهودية من فلسطين لا يتسع طبيعية لأكثر من مليون. فمتى وجد ثلاثة ملايين إن لم تقل خمسة أو أكثر، اضطروا بحكم الطبيعة إلى التوسع، ولا توسع لهم إلا في البلاد العربية. أما استيلاؤهم على بقية فلسطين وشرق الأردن فسهل متى كان لهم مملكة، لعوامل اقتصادية عرضناها فيما تقدم. ومتى استولوا على (المملكة العربية) المنوي خلقها زاد عددهم في فلسطين، حينئذ يوجهون وجههم شطر سوريا ولبنان. وعند ذلك، مهما كانت شجاعة العرب، ومهما كان صبرهم على القتال، لا يكون في مقدور جيش القطر السوري الشقيق، حتى وإن عاضده بقية البلاد العربية، الوقوف أمام جيش (المملكة اليهودية) العديد والمجهز أحسن تجهيز حربي حديث. . . ومتى زال استقلال سوريا، هدد العراق، ومصيره أن يجزأ بين الطامعين فيه، ويدخل قسم منه في المملكة اليهودية. أما مصر فستجابه خصما عنيداً يكون عونا لأعدائها عليها. . .

ولنفرض أن لا خوف على استقلال سوريا والعراق ومصر السياسي من (الدولة اليهودية)، فإن هذه البلاد سوف لا تنجو ولن تنجو من استعمار اليهود الاقتصادي لها. فوجود دولة يهودية في فلسطين أو في قسم منها معناه زوال كل ما لمصر من أمل في زعامة البلاد العربية ثقافياً واقتصادياً، إذ ستكون الدولة اليهودية حائلا بينها وبين هذه البلاد، وسوف لا تنجو هي من استعمار اليهود الاقتصادي. ومعناه أيضاً زوال كل ما للعراق من أمل في تقوية الرابطة بين البلاد العربية، وتوحيدها، ومن وصوله إلى البحر الأبيض المتوسط. أما سوريا، بما فيها لبنان، فإن لم يزل استقلالها زوالا نهائياً، فستكون تحت نفوذ الدولة اليهودية سياسياً واقتصادياً. . .

إن وجود (مملكة يهودية) في فلسطين أو في قسم منها، ضربة قاضية لآمال العرب (بما فيهم مصر)، وسبب لفقدان السلام والهدوء من الشرق العربي. لهذا يجب على كل عربي أن لا يرضى أبدا بتقسيم فلسطين، ولا يمكن الحكومة منه. ويجب على جميع البلاد العربية أن تتساند وتحول دون تأسيس مملكة يهودية في قسم من فلسطين، فتحول بذلك دون وقوع الأخطار العديدة التي ذكرنا بعضها.

اقتصادي



مجلة الرسالة - العدد 213
بتاريخ: 02 - 08 - 1937

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى