صفوت فوزي - هروب

قتلتها ... قتلتها ... صاح أبونا توما وهو يعدو خارج قلايته المنعزلة في بطن الجبل ... متعثراً في جلبابه الأسود ، والعرق يتصبب من وجهه الممصوص .

***

من بذار عرق الصوم ينبت سنبل العفة ، ومن الشبع يتولد الفسق ... هكذا علمنا من سبقونا في الدرب ... اقمعوا البطن عن كل مأكول يبعث داخلنا أشكالاً مرذولة ، وصوراً مثيرة تتشكل منه فتخرج وتظهر لنا في بلد عقلنا الخفي ... من أجل هذا ... ها أنا – في عزلتي الصامتة – أقمع جسدي واستعبده ... صلوات وتراتيل ... سجود وقيام ... كسرات من خبز جاف مع قليل من ماء وملح ... لباس خشن ... فراش غير مريح ... وعينان أذوبهما في ضوء القناديل وصفحات الكتب ... وقلب أريقه زخات زخات أمام مذبح الإله .

*****************

غابت الشمس خلف تلال الغرب ... ليل كفيف أسقط خيمته السوداء الثقيلة ،وثبت أوتادها في الأرض ... آلاف من ذرات الرمل تصدم جدار القلاية ... تنحر في حوائطها ... إنها الريح الهوجاء - فكت قيودها – قادمة من محبسها البعيد ... يتماوج شريط المصباح الزيتي الواهن ... يرسم أشباحاً غريبة علي الجدران ... رائحة الهواء المندي بالرطوبة تتسلل إليّ ... ومن مكان ما ... لم أتبينه ... كانت هناك أنفاس تتردد ... إرتجافة باردة رشت ظهري بمائها ... همست : من ؟ .

يتكسر صوتي علي الجدران ... يتشظي ... وهمس الأنفاس يعلو ... ويعلو .

من قلب الجدار الذي يتساقط طلاؤه الأن ... تتشكل ملامحها أمامي ... هي ... بشرتها الحنطية ... شعرها الأسود منسدلاً علي الظهر ... والعينان اللوزيتان نافذتان يطل منهما العتب ...

" كانت الشمس تولد من كفيها كل صباح ، وفي عينيها يغفو القمر ... تصعد درجات السلم الضيق في تؤدة وأناة ... يتناهي إليّ هسيس أنفاسها ... تصلني رائحة عطرها ... قبل أن تهمس بإسمي أكون بين يديها ... تدخل غرفتي ... لوحة لجبران ، وصورة لفيروز الشامخة تنسال منها موسيقي كونية ، والصوت المسكون بالحنين يشدو " ردني إلي بلادي " ... بلوزتها البيضاء ... الزرار العلوي المفتوح كاشفاً المثلث الأبيض الوردي الممتد من الرقبة حتي هضبة الصدر ... نهداها متكوران تامين الإستدارة ... شفتاها قطعتا مخمل دافئ ... وابتسامة تنير الوجه المدور ... نتعانق في صمت صلاة ... تلمس يداي لحم الخصر النحيل ... يصطبغ الكون بالوان قوس قزح ، ويستحيل الجسد إلي سبيكة دافئة من النحاس المصفي " .

احاول فتح شفتي فيغلقهما الجفاف ... أطبقتهما فتعثرتا في الجفاف ... الداخل قرضته اسراب الجراد ، لا أخضر ولا يابس ... سنين وأنا هنا ... كالنبات الشوكي ... جذر قصير ولا ثمر ... لا زرع ... لا ماء ... فقط هو اللون الأصفر سيد الكون الأجرد يمسح بكفيه الجهمتين وجه الكون..أين الرفاق الأن ... إنهم هناك يقتسمون لحم الإله ، ويفرغون كؤوس دمه في جوفهم ... وأنا هنا ... أقتات الخبز المقدد ، وتقتاتني الوحدة والضجر .

يتواري الشبح المراوغ خلف استار العتمة ... لكنه أبداً لا يغيب ... أعود إلي صلواتي وتراتيلي ... تصعد أناتي في جوف الليل ... ياجامع السحب ... يا منزل المطر ... تشتاق إليك نفسي في أرض يابسة بلا ماء ... ألوذ بك ... أحتمي في ظلك من هجير الصحراء الضاربة في جوفي .

" علي أعتابها كنت أخلع همومي ... آتيها متدثراً بقصائدي ولوحاتي ... وتأتيني بألوان البهجة الطافحة من جسدها الفتي ... واليوم ... عش الحمام فارغ في سقيفة دارنا ...أشعر بالبرد ولا اراه ... وصوت علي الحجار ... شجياً أسياناً يهدر " انكسر جوانا شئ " ... شفتان مزمومتان تتقلصان ... عينان مزرورتان احمرتا حتي غاب لونهما اللوزي ... يدان مضمومتان في توتر ... ارتعاشة تمسح الوجه الممعن في الغياب ، ودمعة محبوسة تأبي أن تسقط ... تأخذ أنفاسها وتزفرها في عمق ... الصدر المتكور مشرئب ... فنجاني فارغ وعصيرها لم يمس ... وصورة لزورق وحيد تتجمع فوقه سحابات داكنة ... تقطعت بنا السبل ، وبان لحم الحقيقة عارياً ... انشق حجاب الهيكل فبدا قدس الأقداس طافياً فوق ماء آسن يتوسطه صنم من طين زلق ... وشيش الورق الأصفر المتساقط من الشجر العتيق يجرح أذني ... يلمس عصباً عارياً ... والقمر نصف رغيف فضي يلقي بضوئه علي مياه ساكنة ...

طال الصمت وعلا وجيب القلب ... قالت في حسم محاولة إنهاء الموقف : إحنا مش لبعض .

*****************

ريح عفية تضرب الباب بعنف ... تلطم الجدران الكابية وتهيل عليها الرمال ... مصاريع الباب تئز ... ينتصب الشبح المراوغ فتياً ... عنيداً ... خيول جامحة تصهل في المدي البعيد ... رائحة الأنثي المشتهاة تغمر المكان ... تلهبني الشهوة ...تخز الجلد بأبر حادة مسنونة ... يفور الدم في العروق ... تنتصب الرغبة عارمة عاتية ... يلسعني فحيحها ، وصوت شيخي الجليل يرن : من مات عن الدنيا ماتت الدنيا عنه ...اشدد حقويك كرجل ... أطفئ لهيب الشهوة بندي صلواتك ودموع تراتيلك ... استدعي كلماتك يا شيخي ... استنجد بصلواتي وتراتيلي ... تهزمني انكساراتي ... وكزيت صدأ تطفو علي سطح الذاكرة ... أخور ... أنتصب ... أعدو ... الهث ... اتعثر ... اسقط ... اقوم ... اليدان تطبقان علي العنق ... اضغط ... استنفر كل ما فيّ من قوة ومرارة ... اضغط ... اضغط ... حتي أسمع صوت العظام ... خلتها تصرخ ... تطلب النجدة ... تستجدي الرحمة ... تقبل يداي ... شفتاي ...قدماي ... لا شئ ... لا شئ سوي صوت طقطقة العظام ... والعينان مغمضتان كأنما تبتهل ... تقدم نفسها قرباناً لإله وثني عجوز ... والجسد المرمري يتهاوي بين يديّ ... يتكوم علي الأرض ... والريح تعوي بالخارج .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى