حـمــد صـالــح - الأنفاس.. قـصــة

( إلى صديقي اذعار محمد ظاهر شهيد أحداث لبنان والشاهد عليها)


حَبَكَ جويبر العبدالله معطفه العسكري حول جسده وخرج صافقاً باب الحوش وراءه. كان المساء بارداً, والسماء مجدورة بالنجوم المتوامضة, والظلام مُطبقاً لا يستطيع فيه الإنسان أن يرى راحة يده. وفي جيبه الأيسر, فوق القلب تماماً, أنفاس مكبوتة تشهق ساخنة تنبض بالحياة والتحدي الصامت. حينما ترتطم بصدره المُضطرب يحسها شفافة كوهج إنساني مُضيء ينبعث من عالم آخر.. لا محدود.
أجال بصره في الظلام فلم يُشاهد سوى الوميض الحاد للنجوم وهي تلهث في هذه الكثافة السوداء ونزر ضئيل باهت من أضواء الفوانيس المُنسلة من فتحات النوافذ التي لم يُحكم إيصادُها, أو من صدوع الحيطان الطينية. وعبر ظلام الحقول كانت توافيه أصوات هائمة تغتصب صمت الليل, تبين منها نباح كلاب ونقيق ضفادع وجلجلة صراصر ثاقبة, وثمة غراب بلون الظلام ينعق ثاقباً فوق رأسه, لا يلبث نقيقه ألمأتمي أن يذوب في الظلمة الشاسعة فيحل صمت مُتشنج عميق, فيتحسس صدره المُضطرب ويتابع مسيره.
كانت الأنفاس تخفق هادئة في جيبه الأيسر. ضغط على زر المصباح اليدوي فأنفرد الضوء الأصفر على سطح من الحقول المُنتشرة. رُسم في الضوء نصف دائرة أمامه فمرت سريعاً على حقول مُتجاورة زاهية الخُضرة, تنفرش كبساط من الصوف الملون على امتداد الضوء المنتشر, تتخللها أشجار سامقة من الصفصاف والتوت واليوكالبتس, وثمة بساتين مُنتشرة قد لا تستوعبها مساحة الضوء إلا أنها تبدو في الظلمة كأشباح ليلية غارقة في الصمت. وبين الحقول, مُخترقاً تشابُك الأشجار الشجية, يبدو الطريق الترابي مُتلوياً أكثر وضوحاً من عتمة الحقول والأدغال التي تحف به من كِلا الجانبين.
حين لوى مُقدمة المصباح إلى الأعلى لم يرى الغراب في الجو مع أن نقيقه ألمأتمي ظل يخترق السكون بين لحظة وأخرى وبإصرار عنيد.
أنصرف إلى تأمل عمود الضوء وهو يمتد عالياً في كنف الظلام الحالك. أنهدم العمود الضوئي بحركة سريعة من يده فعاد إلى الانتشار في الحقول. وحين أنعطف معقباً الطريق الضيق أنفرش الضوء على الباب المعدني المُثبت بمسامير على ألواح من الخشب مُتناسقة.
قرع الباب برؤوس أصابعه, وقبل أن يتلقى جواباً دخل الحوش. هر الكلب الرابض عند باب الغرفة الطينية الواطئة والذي على ما يبدو قد بهره الضوء, ضارباً ذيله الوافر بالشعر المبقع على الأرض, ومُثبتاً أذنيه بإصغائه لا تخلو من استغراب دون أن يُفارق مكانه. أنفرج باب الغرفة بتأن فأطل منه وجه فتاة يغمره الظل, مع أن تقاطيعه كانت واضحة المعالم إلى حدٍ ما. خمن أنها في حدود العشرين إن لم تكن أقل. كانت تُعصب رأسها بوشاح أسود مُطرز بالشناشيل المُذهبة والأصداف الفضية وخرز النمنم, وعلى صدرها الثري ينسدل ملفع أبيض منقوش على شكل دوائر ومربعات مُتناسقة الأبعاد بالحرير الملون. كانت تلف جسدها الذي بدأ مُتماثلاً إلى الامتلاء بمعطف نسائي من قماش القطيفة.
فتحت الباب على أتساعه فولج الغرفة مُصارعاً ارتباكه, وفي أنفه تنحشر رائحة الدُخان المُنبعث من جوف الموقد. تساءلت العجوز بوجه مُقطب, رافعة رأسها دون أن تُغير من وضع جلستها المكبوبة عللا الموقد, فيما توقفت أصابعها عن إسقاط خرزات المسبحة الحجازية الطويلة.
- من ؟ ! ...
أجاب بصوت مُرتفع :
- مساء الخير يا أم فارس . أنا جويبر .
بدأ السرور جلياً على الوجه الأثري القميء وهي تُجيب :
- أهلاً ومرحباً . خطوة عزيزة . يا فاطمة , هاتي فراشاً من فراش فارس . فراش نظيف لجويبر .
- الجودلية تكفي .
أصرت بإلحاح :
- يا فاطمة أسرعي .
فرشت فاطمة البساط الصوفي وفوقه رمت الوسائد النظيفة, ثم قابلته واقفة وفي نظراتها المُستفسرة شيء من الذعر المُبهم, أو الخجل الريفي المذعور أبداً في حضرة كل غريب.
وحين خلع حذائه وجلس, جلست على الأرض إلى جانب الموقد الذي بدت ناره الحمراء باهتة إلى جانب ضوء الفانوس المُعلق في الوتد الخشبي القائم في مُنتصف الغرفة. أستطاع أن يتفرس بإمعان في وجه فاطمة على ضوء الفانوس المُقابل. جميلة, تحمل سمرة نساء الحقول الضاربة إلى حمرة شفافة كئيبة. حادة الملامح. خداها طريان. دقيقة الأنف. في نظراتها الهادئة شيء من التوجس والريبة. أما الفم فأقرب ما يكون إلى المُنبسط, مُتناسق الشفتين, في حين اختبأ الحنك تحت طرف الملفع الذي حصر الوجه ضمن حدود دائرية, بيضاء من الأسفل وسوداء من الأعلى, فبدأ أكثر تألقاً وإضاءة.
- أعملي لنا شاياً يا فاطمة . الضيف عزيز .
لم يعترض على الشاي, مع أنه لم يكن يرغب فيه. كان يبحث عن بداية مُناسبة للدخول على نحو مقبول وغير مُباشر إلى ما يريد أن يقول, فلم يفلح. الغرفة الطينية المسقوفة بحصران البردي المُجردة من الألياف, وأغصان الأشجار وسعف النخيل, وإلى الجدران المملوجة بالوحل الحري, وإلى نضد الملابس المرتفع قليلاً عن الأرض, وإلى الأرجوحة الصوفية المثبت أحد طرفيها بنافذة صغيرة, فيما ثُبت الطرف الثاني في الوتد الخشبي القائم في مُنتصف الغرفة, حيث تدلى من ذات المسمار ألفانوسي الزيتي الذي يبعث ضوءاً برتقالياً قاتماً, لا يكاد يُضيء الغرفة بأكملها على الرغم من صغر حجمها. في حين تُقابل الفانوس إلى زاوية الجدار المُتعرج صورة شمسية مُكبرة لرجل غاضب في زي عسكري يعتمر بيرية سوداء في مُقدمتها لطخة نُحاسية مُفلطحة وعلى صدره ثُبت وسام مُنفرد: وجه ريفي صارم, مُغبر, لم تخفي رتوشات الصورة سمرته الفاحمة وملامحه القاسية الناضجة بأتعاب خفية, وعينان ضيقتان تلتمعان بنفاذ عدائي لهما بريق صافٍ, يبدو أكثر صفاء وهو ينعكس على ضوء الفانوس الخافت, وأنف يميل إلى الضخامة, يجثم هادئاً على شارب غزير. ينام الشارب بدوره على الشفة العُليا ويرتمي من كِلا الجانبين حتى يكاد يلامس طرفي الحنك المُستقيم. ينظر مُباشرةً إلى الأمام كما لو أنه يريد أن يقول شيئاً ما.. يفضح سراً ما. وكانت الصورة موشاة بإطار من القماش الكتان المُتهرئ وقد تصدعت الزجاجة بخطوط مُتعرجة, كجروح عميقة, تمتد على الوجه الصارم, بيد أنها ظلت مُتماسكة بفعل قماش الكتان الذي رجح أنه قد يكون مُلصقاً بالعجين الجاف, وما برحت وراء جروح الزجاج العميقة تلك النظرات الواخزة المُتحدية تنظر إلى الأمام مُباشرةً. وكما لو أن العجوز لاحظت هذا الصمت المشحون فهمست باعتزاز :
- ألم تعلم أن فارساً جاءهُ ولد ؟
أنتبه جويبر إلى نفسه فدمدم بين أسنانه :
- سمعت بذلك . سيكن كأبيه رجلاً حقيقياً يستحق الاحترام .
نظر خفية إلى فاطمة التي ارتسمت على وجهها القمحي ابتسامة نصفية مُنحرفة . قالت العجوز :
- لا أعتقد أني سأراه وقد أكتمل ..
- الأعمار بيد الله يا عمة .
قالت وقد أضفى طابع الحزن التقليدي على صوتها الأجش :
- المرض يا جويبر . المرض في آخر العمر شيء لا يُطاق . يتمنى الإنسان أن يموت على أن يظل عالة على الآخرين . يستجدي رحمة لناس . لم أعد أقوى على الوضوء إلا بصعوبة, فكيف الحال بعد خمس أو ست سنوات ؟ الحالة تسوء . أمثالنا ليس أمامهم سوى الموت .
كان جويبر مُقتنعاً بهذا تمام الاقتناع, إلا أنه قال مواسياً :
- الأمل موجود يا أم فارس .
وكأنها لم تسمعه فمضت تقول :
- وفوق هذا لم أعد أرى كما يجب , لو لم تقترب مني لما عرفتك . بعد سنتين على الأكثر سأكف تماماً عن الرؤية . العمى شيء مؤلم لامرأة مريضة مثلي . الموت أحسن .
قال مُتذمراً :
- لا تُفكري هكذا يا أم فارس . الأمل موجود . المُهم أن لا تُفكري هكذا .
غيرت مجرى الحديث بتعمد وقد اختلقت ابتسامة باهتة أضفت على جبينها المُحزز وخديها الذابلين الكثير من الأخاديد العميقة :
- بعثنا رسالة إلى فارس أخبرناه فيها بالمولود .
اتسعت ابتسامتها وهي تُكمل :
- قلنا له بالرسالة أنه يُشبهك إلى أبعد الحدود . غاضب دائماً لا يكف عن الصراخ . أسميناه صلاح الدين . هو الذي أوصى بهذا الاسم قبل أن يُسافر .
تساءلت بسرور صبياني :
هل ستصل الرسالة يا جويبر ؟
- طبعاً ستصل وسيفرح بذلك كثيراً .
اتسعت ابتسامتها التي أصبحت الآن طبيعية حتى تجعد الوجه القميء, غير أنها لم تلبث أن عادت إلى حالة الاكتئاب وقد تشنجت أصابعها على خرزات المسبحة الحجازية الطويلة هامسة كما لو أنها تحدث نفسها :
- منذ فترة طويلة لم يبعث لنا رسالة . لم تنقطع رسائله من قبل .
قال مُغتصباً من تجهم وجهه ابتسامة مُتكلفة :
- لا شك أنها ظروف الحرب .
قالت مُكتئبة :
- قلبي يا جويبر يحدثني سوءاً .. أيه , لا تلمني . ليس لي سواه .
حاول أن يقول شيئاً. تململ في مكانه بإحراج. زاغ ببصره مُبتعداً عن وجه فاطمة المُحاط بهالة الملفع والكيش. تعثر وهو يجوس بلا اتجاه مُعين على الأرض المُتربة الممسوحة بالضوء القاتم, وعلى رماد الموقد المُنبعث من جوفه خيط من الدخان الفسفوري قبل أن ينطفئ على الدوائر الملونة المنقوشة على بساط فارس النظيف, في حين مضت هي تهمس وقد أكفهر وجهها المدور النحيل, وذات الغضون المُتعرجة على ضوء الفانوس الذي راح يُتكتك خابطاً وهجه القاتم على الوجوه الثلاثة المُتقابلة بتصلب:
- البارحة حلمت . رأيت فارساً . كان شاحباً , ومقهوراً .استقبلته بلهفة . احتضنته باكية . قلت له يا ولدي العزيز هل تبخل على أمك المريضة التي تنتظرك برسالة , أو مُجرد توصية تطمئنها عليك . ليتك لم تذهب يا ولدي . أتدري بماذا أجابني يا جويبر ؟
تنحنح بضيق وهبط ببصره مرة أخرى إلى الأسفل. كان الكتلي يغلي وفاطمة تُهيئ الإستكانات, وكان رماد الموقد باهتاً..
- قال لي , ليتني لم أعد يا أمي ..
أنتبه جويبر بذعر. رفعت فاطمة بصرها فبدأ بريق عينيها الواسعتين لامعاً, وبهدوء لا متوقع تناولت الكتلي ومضت تملأ الإستكانات بالسائل الأحمر, واحدة تلو الأخرى. أضافت بصوت واهن :
- ثم رمى رأسه على كتفي وبكى. لا أدري لماذا بكى فارس ؟ سألته فلم يجب .
تناول الاستكانة من يد فاطمة وأذاب السكر بداخلها مُستمعاً إلى رنين الزجاج الصقيل حين ترتطم به ملعقة الألمنيوم الصغيرة, فيبدو عبر السائل مكتوماً كنواح امرأة ثُكلى أتعبها الانتظار. ضائعة في ذعرها الأبدي, مدفونة في ظلمة الحقول الموحشة.
أرتشف قليلاً ثم أعاد الاستكانة إلى مكانها مُتصنعاً الهدوء. هَمَ أن يقول شيئاً لكنه لم يجد ما يقوله, أو بالأحرى ليس هناك ما يقال. لقد قال فارس الكثير. بل قال كل شيء من غير أن يلتفت وراءه. كانت فاطمة تسترق النظر المُتفحص نحوه خفية, والعجوز بأكملها كعاهة شاذة في هذا الوجود القلق, مكومة بإهمال خرقة بالية إلى جانب الموقد. منظر وجهها الأثري المُجعد مُهيأ لاستيعاب هموم العالم بأسره بما فيه من كآبة استلاب.
- هل ستنتهي الحرب عما قريب يا جويبر ؟
كرع ما تبقى من الاستكانة دُفعةً واحدة, وامتنع برغم إلحاح فاطمة عن قبول الثانية. كانت ببصرها الحاد, المُندهش تُلاحظ ارتباكه, وربما تقرأ على وجهه كل ما يدور بذهنه فيود من أعماقه لو أنه لم يأت, لو كلف غيره بالمجيء إلى هنا, لو أنه لا يعرف هذه القرية على الإطلاق, أو على الأقل لا يعرف هذه العجوز الهرمة, نصف الميتة. أحس بألم ساخن يرتفع كتصاعد السُحب الشتائية لتمسح وجه السماء الراكد. تنهض من أعماقه المُظلمة.
- متى يعود فارس برأيك يا جويبر ؟
تأمل وجه فاطمة ذا السمرة المُشربة بحُمرة خفيفة. غاص في دفء عينيها المذعورتين. تبلد العالم برأسه. التصق اللسان باللثة حاول انتزاعه فلم يقوَ على ذلك. تساءل من أين يبدأ ؟ ولم تكن في هذا الصمت الكئيب بداية. سمعها تتساءل باستغراب:
- لماذا لا تُجيب يا جويبر ؟
أحس بثقل جيبه الأيسر يرجح على كل جسده. ذاب بحرارة الأنفاس المؤنسة النابضة بحس الحياة. حمل بصره على الاختباء في غضب الصورة الشمسية المُكبرة مُحملقاً بذهول بليد مُستغيث في الوجه الأليف الصامت, الغارق في صمته.
دوت في السكون الراكد صرخة ثاقبة مُفزعة ملأت فضاء الغرفة المخنوقة بدخان الموقد وضوء الفانوس المُعتم والأنفاس الساخنة.
تركت فاطمة كل شيء في مكانه ونهضت بقلق, كما لو أنها فوجئت بطعنة خنجر غادر من الخلف. رآها تنحني على الأرجوحة. تركع بتلعثم لا يخطو من سخط إلى جانبها العاج بدوي الصرخة الممطوطة, غير المتوقعة, وتزيح الملفع الأبيض, طارحة زاويته المُستطيلة على كتفيها فينسدل متموجاً على ردفيها المكتنزين المُختبئين تحت المعطف القطيفي محاذرة قدر الإمكان أن لا يكون صدرها المنقوش بالوشم الأزرق مرئياً.
استحال الصراخ العنيف إلى نحيب مُحشرج مُتقطع, ثم إلى نقنقة مكتومة كاستغاثات مُبهمة إنساني يذوب ذعراً في ظلمة الخارج الحالكة.
وكانت فاطمة مُرتبكة وهي تحاول جاثية أن تحشر الثدي حشراً في فم الصغير صلاح الدين الذي صمت الآن, وصمتت العجوز المكبوبة إلى جانب الموقد أيضاً. صمت كل شيء في الداخل المُعتم المخنوق بكثافة الدُخان.
آثر أن يستكين لائذاً في هذا الصمت المُريح. وافاه من الخارج نعيق غراب ضال يرتحل في الظلام الذي توقعه أكثر سواداً من أن يخترقه ضوء المصباح اليدوي, وفكر بأن العودة لا بد أن تكون صعبة. تلاشى الصوت الناعق وعاد الصمت المُثقل بالأنفاس الساخنة إلى الهيمنة الثقيلة على الغرفة الطينية المُعتمة من جديد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى