16 -رينولد نيكلسون - تاريخ الأدب العربي .. الجاهلية: شعرها وعاداتها ودياناتها.. - 16 - ترجمة حسن حبشي

ومع ذلك فلا يجرؤ شيوخ العشيرة على فرض أوامرهم فرضاً، أو إنزال العقوبات برجالها، إذ كان كل منهم ولي نفسه وسيدها. وله الحق أن يقتص ممن يناله بسوء:

فإن كنْتَ سَيِّدَنَا سُدتنَا ... وإنْ كنْتَ للخَالِ فاذْهَبْ فَخَلْ

ولم يكن معنى الوفاء عند العربي الوثني الخضوع لرؤسائه، ولكن المساعدة الصادقة لمساويه وأنداده، وكان قوي الصلة بفكرة القرابة، وإن القبيلة أو العائلة التي تشتمل على غرباء عاشوا في ظلها، واستظلوا بحمايتها، فإن الذب عن هؤلاء أفراداً أو جماعات من أقدس الواجبات اللازم احترامها. كما كان الشرف يقضي على الرجل منهم أن يقف بجانب قومه فيما جل من أمرها أو حقر

وَهَلْ أنَا إلا مِنْ غزَيَّة إن غوَت ... غَوِيتُ وَإنْ تَرْشُدْ غزَيَّةُ أرْشُدِ؟

كما يقول دريد بن الصمة الذي تابع عشيرته بالرغم من رأيه المصيب في غزوة كلفته رأس أخيه (عبد الله) وإذا نشد رجال القبيلة العون من أقاربهم فسرعان ما يلبى نداؤهم دون اهتمام بقيمة الأمر الذي يقدّمون من أجله المعونة، فإذا أسيء التصرف فيها تحملوا مغبة ذلك طويلاً قبل أن يعودوا إلى مكانتهم السالفة وإن انتفاعهم بالصداقة ليتضح بجلاء من هذه الأبيات التالية:

فَآخِ لِحَالِ السَّلْمِ مَنْ شِئْتَ وَاعْلَمَنْ ... بأنَّ سِوَى مَوْلاكَ في الحرْبِ أجْنَبُ

وَمَوْلاكَ مَوْلاكَ الذِي إن دعوْته ... أجَابَكَ طَوْعاً وَالدِّمَاءُ تَصَبَّبُ

فلاَ تخذُلِ المَوْلى وإنْ كانَ ظالِماً ... فَإنَّ بِهِ تُثأى الأمورُ وترْأبُ

وبالرغم من ذوقهم الجاف، فليس ثمت ما هو أخص في العرب الجاهليين والمسلمين على السواء من روح الفروسية والتضحية بالنفس لنجدة الصديق حتى ولو لم تكن هناك أية فائدة شخصية من وراء هذه التضحية. ويقدم لنا الشعر القديم البراهين الجمة على أنهم كانوا يمقتون نكث العهد الذي اتفق عليه بين التاجر وعميله. أو الضيف ومضيفه، وأدب العرب زاخر بالشواهد الجمة على صدق هذا الفضل. وأقرب مثال إلى ذلك قصة السموأل الذي يضرب به المثل في الوفاء فيقال هو (أوفى من السموأل) أو (وفاء كوفاء السموأل) ويقال إنه كان صاحب الحصن المعروف بالأبلق، واحتفر فيه بئراً عذبة، وكانت العرب تنزل به فيضيفها، وتمتار من حصنه. ويقال إن امرأ القيس لما سار إلى الشام يريد قيصر نزل على السموأل ومعه أدراع كانت لأبيه ورحل إلى الشام فوجه ملك الحيرة جيشاً تحت إمرة الحرث بن ظالم ثم قال للسموأل (أتعرف هذا؟) قال نعم هذا بني. قال: (أفتسلم ما قبلك أم أقتله؟) قال: (شأنك. فلست أخفر ذمتي ولا أسلم مال جاري) فضرب الحرث وسط الغلام، فقطعه قطعتين، وانصرف عنه فقال السموأل:

وَفيتُ بأدرع الكندِي إني ... إذا ما ذُمَّ أقوام وَفيت

وأوصي عادياً يوماً بألا ... تهدُم يا سَموأل ما بَنيت

بنى لي عادياً حِصناً حصيناً ... وماء كلما شِئت استقيتُ

كما أن المثل البدوي الأعلى للكرم والسخاء هو حاتم طيء، الذي يروى عنه كثير من الأقاصيص المستطرفة، ويمكننا أن نعرف نظرة البدوي إلى هذا الموضوع مما ذكره الأغاني من أن أم حاتم وهي حبلى رأت في المنام من يقول لها: أغلام سمح يقال له حاتم أحب إليك أم عشرة أغلمة كالناس، ليوث ساعة البأس، ليسوا بأوغال ولا أنكاس؟ فقالت حاتم، فولدت حاتماً، فلما ترعرع جعل يخرج طعامه فإن وجد من يأكله معه أكله، وإن لم يجد طرحه، فلما رأى أبوه أنه يهلك طعامه قال له: إلحق بالإبل، ووهب له جارية وفرساً وفلوهاً، فلما أتى الإبل طفق يبغي الناس فلا يجدهم. ويأتي الطريق فلا يجد عليه أحداً، فبينا هو كذلك إذ بصر بركب على الطريق فأتاهم فقالوا: يا فتى هل من قرى؟ فقال تسألونني عن القرى وقد ترون الإبل؟ وكان الذين بهم عبيد بن الأبرص وبشر بن حازم والنابغة الذبياني، وكانوا يريدون النعمان فنحر لهم ثلاثة من الإبل فقال عبيد: (إنما أردنا بالقرى اللبن، وكانت تكفينا بكرة إذا كنت لابد متكلفاً لنا شيئاً) فقال حاتم (قد عرفت ولكنني رأيت وجوهاً مختلفة وألواناً متفرقة، فظننت أن البلدان غير واحدة، فأردت أن يذكر كل واحد منكم ما رأى إذا أتى قومه) فقالوا فيه أشعاراً امتدحوه بها وذكروا فضله فقال حاتم: (أردت أن أحسن إليكم فكان لكم علي الفضل، وأنا أعاهد الله أن أضرب عراقيب الإبل عن آخرها أو تقسموها) ففعلوا، فأصاب الرجل تسعة وتسعين بعيراً ومضوا على سفرهم إلى النعمان. وأن أبا حاتم سمع بما فعل فأتاه فقال له: يا أبت طوقتك بها طوق الحمامة مجد الدهر

كما نسمع أن ابنة حاتم قد اقتيدت أسيرة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت له: (يا محمد هلك الوالد، وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلي عني فلا تشمت بي أحياء العرب فإني بنت سيد قومي؛ كان أبي يفك العاني ويحمي الذمار ويقري الضعيف، ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط: أنا بنت حاتم طي) فأجابها الرسول (يا جارية هذه صفة المؤمن، لو كان أبوك إسلامياً لترحمنا عنه. خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق)

وكان حاتم شاعراً معروفاً، وفي أبياته التالية يخاطب زوجه ماوية:

أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد

إذَا مَا صَنَعْتِ الزَّادَ فَالتَمِسي لَه ... أكِيلاً فَإنِّي لَسْتُ آكلُهُ وَحْدِي

أخاً طارقاً أوْ جارَ بيت فإنني ... أخافُ مذَمَّات الأحاديث من بعدي

وإني لَعَبد الضيف ما دام نازلاً ... وما فيَّ إلا تلك مِن شِيمة العبدِ

(يتبع)

حسن حبشي


مجلة الرسالة - العدد 192
بتاريخ: 08 - 03 - 1937

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى