عبد الله محمود إسماعيل - في تاريخ الأدب العربي.. كليلة ودمنة

لست أزعم أن أدلة هذا البحث - على قوتها - مما لا يستطاع نقضه أو أضعافه. ولست أزعم أن موضوع البحث مما لم يسبق لبعض الأقلام تناوله. ولكن الذي أستطيع زعمه أن أكثر ما سأعتمد عليه في تدعيم وجهتي طريف مبتكر لا يشينه سطو ولا تعكره إغارة

وقد يكون مرجع الفضل في إثارة هذا البحث إلى رسالة صغيرة كتبها عن ابن المقفع الزميل (الأستاذ محمد قابيل) ذهب فيها مذهب بعض المستشرقين من القول بأن نسبة كتاب كليلة ودمنة إلى غير عبد الله بن المقفع يعوزها الدليل القوي، وأن الكتاب في مجموعه لا يخرج عن حكايات وضعها ابن المقفع أو نقلها عن الآداب الدخيلة. يريد بذلك ألا يجعل للكتاب أصلا في الفارسية أو الهندية بهذا الاسم، وهو يؤيد اختياره هذا بما يلمس في الكتاب من بلاغة عبارة، وقوة أداء، وخلو من المسحة الدخيلة، مما لا يتهيأ لكتاب مترجم حرص فيه على الأمانة؛ وبأن مؤرخي الهنود وعلماء أوربا يجهلون كتاباً بهذا العنوان والتبويب في الهندية، كما يجهلون شخصي (بيدبا) و (دبشليم) وكلا الدليلين ساقط، لأن هذه القوة البلاغية في الترجمة، وسبك الألفاظ وفق أرجح أساليب العربية ليس مما يستغرب من ابن المقفع وقد (كان في نهاية الفصاحة والبلاغة مضطلعاً باللغتين - العربية والفارسية - فصيحاً بهما)

وما لنا نذهب بعيداً وفي المكتبة العربية الآن كتب مترجمة عن الفرنسية والإنجليزية والألمانية أتت، على الرغم من سحر بيانها وشريف أسلوبها، أمينة على الأصل، حريصة على روح المؤلف، وهذه قصة البائسين لحافظ بك. ورفائيل وفرتر للأستاذ الزيات، فقد جاءت مع الأصل كالحسناء وخيالها في المرآة. وتلك حالة لا يجد فيها المترجم كبير عناء متى كان متمكناً من لغة المنقول عنه والمنقول إليه، خبيراً بآدابهما، وطرائق الحسن فيهما. كما كان الشأن مع ابن المقفع

على أنني لا أرى هناك ما يحمل على التمسك بالحرفية والأمانة في ترجمة مثل كتاب كليل ودمنة، فليس هو بالكتاب العلمي الخطير، ولا القصة الفنية التي يذهب التصرف فيها شيئاً من جمالها وروعتها، وهو في النهاية لا يعدو أن يكون كتاب تخريف وسمر للخواص وأرباب البيان على الرغم من هذه الطنطنة التي ملأت صدر الكتاب. ولاشك أن ابن المقفع كان يفهم هذا فأباح لنفسه بعض التصرف في الأصل فرفع بذلك عن قلمه كثيراً من الحرج والتهيب

أما ما يقال عن جهل مؤرخي الهنود وعلماء أوربا بدبشليم وبيدبا، وبكتاب له هذا الاسم والتبويب في اللسان الهندي، فلا يمكن أن يتخذ منه دليل قاطع على وضع ابن المقفع للكتاب، فإن صلاحيته للقول بهذا أضعف من صلاحيته للقول بأن الفرس هم وضعة الكتاب، فقد نقل هذا الرأي أحد مؤرخي القرن الرابع الهجري؛ قال محمد بن إسحاق النديم: (فأما كتاب كليلة ودمنة فقد أختلف في أمره، فقيل عملته الهند، وقيل عملته ملوك الإسكانية، ونحلته الهند، وقيل عملته الفرس ونحلته الهند، وقال قوم أن الذي عمله بزرجمهر الحكيم) الفارسي. على حين لم أعثر في الكثير الذي قرأته من المراجع القديمة على من يصرح بأن ابن المقفع هو واضع الكتاب

وإن هذا التأييد التاريخي للقول الثاني مع ما ذكروا من أن المراجع الهندية والأوربية تجهل وجود كتاب كليلة ودمنة في السنكسريتية، كما تجهل وجود ملك يسمى دبشليم ليجعلني أميل إلى الأخذ به وترجيحه على ما سواه. ولن يضعف منه تاريخ المسعودي لدبشليم الملك ضمن من ذكر من ملوك الهند الأقدمين وقوله أنه الواضع لكتاب كليل ودمنة، فإن جل ما كتبه عن هذه العصور القديمة لا يخرج عن دائرة الجمع الذي لا يقوم على أساس صحيح من التحقيق والتحري، ويكفي لصدك عن التعويل على ما كتب أن تعرف أنه جعل ملك (دستلم) أو (دبشليم) مائة وعشرين سنة؛ وأن ما ذكره بعد ذلك عنه وعن (فور) سابقه لا يتجاوز ما ذكر في مقدمات كليلة ودمنة؛ الأمر الذي يحملنا على الظن بأن المسعودي ما عرف هذين الاسمين إلا عن طريق هذا الكتاب

وليس ببعيد على الفرس وضع كتاب كليلة ودمنه وإلباسه هذا الثوب الهندي، فهم جيران الهنود وإخوانهم في جنسيتهم الآرية يشركونهم في ذكائهم وتعقلهم وخيالهم (وهم أول من صنف الخرافات وجعل لها كتاباً وأودعها الخزائن، وجعل بعض ذلك على ألسنة الحيوان)

ولا محل للاعتراض هنا بأن الكتاب ولو كان من عمل الفرس لتضمن شيئاً من المجوسية والمذاهب الفارسية الأخرى؛ لأنه لم يوضع لتدوين عقيدة أو إذاعة مذهب ديني خاص؛ وهذا كتاب (مزدك) الذي نقله عن الفارسية ابن المقفع وأبان بن عبد الحميد، (فإن أول ما يتبادر إلى الذهن أن الكتاب يبحث عن مذهب مزدك، ولكن الأستاذ (براون) ذكر في كتابه (تاريخ آداب الفرس) نقلا عن (نولدكي): أنه كتاب أدب وضع للتسلية، ويعد في مصاف كتاب كليلة ودمنة ولا تضر قراءته مسلماً)

على أننا لو سلمنا باحتواء الأصل على شيء من هذه المذاهب الفارسية، فإننا نرجع نقاء الترجمة العربية منها إلى ما ذكرنا من تصرف ابن المقفع، ولعل الذي حمله على هذه التصفية عقيدته الإسلامية الجديدة أو خوفه من تشكك المنصور فيه إن سمحنا لأنفسنا بالطعن في صدق إسلامه

وإن مما يكاد يحملنا على الجزم بأن ابن المقفع ناقل لكليلة ودمنة لا واضع له ما ذكره صاحب الفهرس من أن جماعة من النقلة عن اللسان الفارسي - وفيهم من عاصر ابن المقفع أو قارب وقته - قاموا بترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية. قال العلامة جورجي زيدان: (يظهر أن بعض الأدباء حسد ابن المقفع على شهرة الكتاب فأعادوا نقله، واشتغل بعضهم بنظمه، وتصدى آخرون لمعارضته). ولا غير هذا يفسر لنا سر الاختلاف الذي ذكره ابن النديم في عدد أبواب الكتاب، فقد قال: (هو سبعة عشر باباً، وقيل ثمانية عشر، ورأيت أنا في نسخة زيادة بابين)

وكان أقدم من نقل الكتاب إلى العربية نظماً أبو سهل الفضل بن نوبخت الفارسي من خدم المنصور ومن العاملين في خزانة الحكمة لهارون الرشيد (وقد كان معوله في علمه على كتب الفرس) ثم عبد الله بن هلال الأهوازي، نقله ليحيى بن خالد البرمكي في خلافة المهدي سنة 165 هجرية، ثم أبان بن عبد الحميد اللاحقي، قال محمد بن اسحق (وقد نقل من كتب الفرس وغيرها ما أنا ذاكره: كتاب كليلة ودمنة، كتاب السندباد، كتاب مزدك. . .) وقد كان أبان هذا (صديقاً للبراكمة، متصلا بهم اشد اتصال. . . وكان أديبهم الرسمي) ومن المختصين بالرشيد. ويظهر أن نقله الشعري - على جدته - كان على جانب من الجودة فقد (أعطاه يحيى بن خالد عشرة آلاف دينار وأعطاه الفضل خمسة آلاف دينار، ولم يعطه جعفر شيئاً وقال: ألا يكفيك أن أحفظه فأكون روايتك؟!) ولو قدرت الحياة لهذه التراجم الأخرى أو لبعضها لقطعت الشك باليقين، ولوضعت بين أيدينا الدليل المادي على أن موقف ابن المقفع من الكتاب لم يكن إلا موقف المترجم البليغ والمهذب البصير؛ أما وقد نالها من عوادي الزمان وتقلب الأحداث ما أودعها عالم الفناء فليس لنا إلا الاعتماد على دراسة ما بقى مما كتبه عنها الثقات من رجال الأدب والتاريخ، وما اقتبسته كتبهم عن بعض هذه التراجم، وفي هذا وذاك كثير من الغناء والعزاء

ولئن ذكرنا بالفضل صاحب الفهرس لما أفادنا في هذا المقام فلا يسعنا إلا أن نذكر بمزيد الإعجاب فضل إبراهيم الصولي، فقد نقل لنا في كتابه الأوراق ستة وسبعين بيتاً من ترجمة أبان النظمية، ولولاه ما بقي لنا منها إلا الأبيات الأربعة التي ذكرها أبو الفرج وهي لا تغني في البحث شيئاً

وفي هذه الطائفة التي ذكرها الصولي من المنظومة دليل آخر على أن أبان استقى من مصدر فارسي، وأنه لم يعتمد على نسخة ابن المقفع، إذ لم يقع له من عباراتها إلا ما جاء وليد المصادفة أو الاستعانة وهو نادر، كما يلاحظ على منظومته قلة تداخل حكاياتها والاقتصاد في سوق الحكم، وربما ذكر الشيء في غير الباب الذي وضعه فيه ابن المقفع

ابتدأأبن نظمه بالبيت المعروف: -

هذا كتاب كذب ومحنة ... وهو الذي يدعي كليله دمنة

ثم ذكر في الأبيات الأربعة التي تليه أن الكتاب من عمل الهند وصفوا فيه الآداب على ألسنة البهائم، ليشتهي السخفاء هزله وليعرف الحكماء فضله: -

وهو على ذاك يسيرُ الحفظِ ... لَذٌّ على اللسان عند اللفظ

ثم أتى الصولي بعد ذلك باثنين وعشرين بيتاً يبدو أنها ليست من هذا التمهيد الذي وضعه أبان؛ وإنما هي من باب برزويه تبدأ عند مناجاة هذا الحكيم نفسه بقوله: (يا نفس أما تعرفين نفعك من ضرك؟! ألا تنتهين عن تمني ما لا يناله أحد إلا قل انتفاعه. . .) وفيها يحدث نفسه بأن الدنيا بما لنا فيها من أحباء وأصدقاء كثيرة الآلام، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يعرض نفسه للهلاك في سبيل جمع ما يرضي به أهله ومحبيه؛ وأن في النسك وترك الدنيا لمن يشقى بها النجاة من الشرور. وختم أبان الأبيات بالإقرار الوجدانية وأنه مرتهن بعمله إن خيراً فخير وإن شر فشر؛ ثم اقتبس الصولي من باب الأسد والثور تسعة وأربعين بيتاً في مواطن مختلفة من الباب ذكر فيها طرفاً من الحديث الذي دار بين كليلة ودمنة حول التقرب من الملك ثم كيد دمنة للثور عند الأسد؛ ثم تحدث عن المال وما فيه من عز وجمال، وامتدح العقل ومشورة غير أهل التهمة

ولكي يتضح بعد المنظومة عن ترجمة ابن المقفع نلفت النظر إلى أن حديث المال الذي ذكره أبان في باب الأسد والثور جعله عبد الله في باب الحمامة المطوقة. وإليك الأبيات التي ذكرها في هذا الموضوع لتتحقق بعد الموازنة من صدق ما ارتأينا من المباينة بين الترجمتين:

الأهل والأخوان والأعوان ... عند ذوي الأموال حيث كانوا

والمال هادي الرأي والمروّه ... وهو على كل الأمور قوه

والمال فيه العز والجمال ... والذل حيث لا يكون المال

وربما دعا الفقيرَ فقرهُ ... إلى التي يُحبط فيها أجرهُ

فيخسر الدين كما كان خسر ... دنياه والخسران ما لا ينجبر

وليس من شيء يكون مدحا ... لذي الغنى إلا يكون بَرْحا

على الفقير ويكون ذما ... كذاك يدعى وبه يسمى

فإن يكن نجداً يقولوا أهوج ... كذاك عند الحرب لا يعرج

وهْو إذا كان جواداً سيّداً ... سُمي للفقر مُضيعاً مفسدا

أويك ذا حلم يُقل ضعيف ... أويك بساماً يُقل سخيف

وقد يظن كثير من الأدباء أن ابن المقفع عرف كيف يخلد اسمه باختياره ترجمة كتاب كليلة ودمنة أو ادعائه ذلك؛ ولكن الذي لا يتطرق إليه الاحتمال عندي أن كتاب كليلة ودمنة إنما كتب له الخلود، وبقي على توالي الأحداث والأيام لأن عبد الله ابن المقفع تصدى لترجمته فألبسه هذا الثوب الرائق من بلاغته وتهذيبه ومعرفته. ولقد يدهش أصحاب ذلك الظن إذا قلنا لهم إن الكتاب لم يكن له في الفارسية من الخطر ما صار له بعد نقله إلى العربية على يد ابن المقفع، ولكن دهشهم سيتبدد متى عرفوا أن الفرس أنفسهم حينما رأوا الكتاب في صورته الجديدة المنسجمة استولى عليهم الإعجاب، وأخذوا ببلاغته فنقلوه إلى الفارسية مرة أخرى، وأهملوا أصوله التي بين أيديهم فأذهبا النسيان؛ حتى لقد ذكر ابن النديم أنهم نقلوه (إلى اللغة الفارسية بالعربية) ليتمكن من يتكلم الفارسية ولا يكتبها من قراءته بالحروف العربية التي سرى استعمالها بينهم

وأني لأسأل نفسي الآن عن المصير الذي كان ينتهي إليه كليلة ودمنة لو لم يكن عبد الله بن المقفع ضمن من ترجموه!! إنه ول شك مصير مظلم؛ أو قل هو المصير الذي انتهت إليه التراجم والنقول الأخرى

(أسيوط)

عبد الله محمود إسماعيل



مجلة الرسالة - العدد 222
بتاريخ: 04 - 10 - 1937

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى