حسام المقدم - ذلك الذي مات في الظهيرة.. قصة قصيرة

صلاح عبد الصبور عجائز الرجال والنساء، ذوو الوجوه الموشومة بخطوط الزمن في الجباه والرقاب، قالوا إنه مات في أيام حلوة! وصبية المدارس كانوا في المسجد لحظة الصلاة عليه وهو مسجي بقلب النعش الفائح بعطر الموتي. مات يوم وقفة عرفات، في أول أيام الإجازة الممتدة لأسبوع كامل. هل لهذا السبب خرجت البلدة كلها تقريبا لتوديعه؟ مات في أيام صحوة خريفية تتراقص فيها درجات الحرارة حول منتصف العشرينيات، ودفن في ظهيرة يوم عرفة.. ذلك اليوم الذي يصومه أغلب الناس لما له من فضل عظيم. ما الذي جمع كل تلك الأشياء، بهذه الروعة القدرية، لتشهد وداع الحاج »مصطفي«؟
الحاج »مصطفي« واحد من مساتير الناس. ولد وعاش وربي أولاده وزوجهم وبني لهم بيتا ثم مات عن خمس وستين سنة. من الممكن أن يكون أبي أو أباك، خالي أو خالك.. إنه واحد من ملايين شعبنا الذين لم يسهموا بشيء في العلم الحديث، أو يحترقوا بشرارة الفن والتمرد والسؤال، كي يلهبوا فضاء العالم بإبداعهم في الأدب والفن. ما الداعي، إذا، للاحتفاء به عبر الكتابة، وعبر تضامن قدري لم أستطع تفسيره أبدا؟
معرفتي به دامت لست سنوات مكتملة، كان فيها صهري.. والد زوجتي وجد أولادي. يراني في الشارع فيفض تشبيكة يديه خلف ظهره المنحني للأمام، ويمد إحداهما قبل ان أصله بأمتار. يشد علي يدي بعافية مختزنة منذ القدم. علي رأسه طاقيته البنية الصغيرة. أبدا لم يمش برأس عار منها، شأنه شأن كل رجالنا الذين يلبسون الطواقي بمقاسات مختلفة. تبدو لي طاقيته دائما شبيهة بطربوش »عرابي« القصير. لماذا الحرص علي تغطية الرأس لدي الأجيال التي سبقتنا؟ هل هو ميراث عربي في العمامة؟ فرعوني؟ قبطي؟.. كنت إذا رأيته علي سريره بدونها أكاد أنكره برأسه الصغير ذي الشعر الخفيف غير المشذب. يقرأ ما بداخلي فيأتي بها من تحت المخدة شبه مكوية، ثم يكبسها برفق ويتحسس اعتدالها فوق الأذنين ومؤخرة الرأس. بها يكون الحاج »مصطفي« حقا.. الحاج »مصطفي« الذي غاب ثماني أعوام في الجيش منذ ما قبل النكسة وحتي ثلاثة وسبعين مرورا بالاستنزاف. كان دائما يبدو لخاطري واحدا من الذين حفروا القناة بالقهر تحت نظر حاكم مصر وقناصل أوروبا. لابد أنه خرج من جوف الرمال التي طمرته لأعوام بهذه الهيئة التي عرفته عليها من النحول والوجه الشبيه جدا بجلد شجرة جميز عتيقة. وجه فلاح عاش تحت الشمس، وعاشت عليه الشمس زمنا فجففته وطهرته وصفته من كل أشكال الدنيا. هذه وجوه لا تعرف التورد وجريان الدم والبشرة السمنية، إننا لا نكاد نراها تضحك.. الضحك إقلاق لهذه الصفحة الوقورة الجافة، معه يتحول الوجه إلي رصيف متكسر في إحدي طرق بلدنا. الأصل عند هذه الوجوه هو الابتسام الهادئ لا الضحك المقلق. في عز لحظات الفرح كان الحاج »مصطفي« يطلق قهقهة حادة قصيرة سرعان ما تنطفئ ليعود الوجود إلي ابتسامة أبدية شاحبة لا تزيد ولا تنقص. جدنا الأكبر، عارف أسرار الحياة المعتزلة، أبوالعلاء) شكا شحوبه للدهر غير المعني أصلا:(قد رضينا الشحوب لو كان صرف/ الدهر يرضي للأوجه الإشحابا). قبله وازن »المتنبي« الفذ بين الأرواح العظيمة وأوعيتها من الأجساد:(وإذا كانت النفوس كبارا/ تعبت في مرادها الأجسام). الحاج »مصطفي« كان، علي شحوبه، بوجهه نور. نور مزروع متوهج في العمق، ومرشح عبر المسام واللسان. هذا الشحوب النبيل لم ينافسه فيه سوي رجل جاهلي من نبلاء الصعاليك هو »عروة بن الورد«: (أقسم جسمي في جسوم كثيرة/ وأحسو قراح الماء والماء بارد). نعم.. لمثل هذه الوجوه جلال فارق، جلال ماء النيل، وزرع الغيطان، وصلاة الجمعة، ودخلة الأب علي عياله يوم العيد راجعا من الصلاة بيده مسبحته وعلي وجهه ضحكة طيبة مثل رغيف بلدي! وجوههم تنطق بالمسكوت عنه في كتب التاريخ، كل خط أو تجعيدة تحكي حدثا مهملا. لو كان الجد الطيب »يحيي حقي« معنا لقال وقال عنهم، لأنه لم يكن ينظر في دائرة الضوء علي المسرح، قدر ما يدقق علي الكومبارس الذي يدخل مهرولا مسروعا لينطق بكلمة أو كلمتين. لكن »يحيي حقي« مات، ومثله أبونا »صلاح عبد الصبور« العارف بالشعر وأحوال الناس في بلادنا. لا أحد عرف الحاج »مصطفي« مثلما عرفه الأب »صلاح«.. حتما راقبه بعين فنان مسترق، وهو يقيم الشعائر في مسجد مجاور لبيته طوال ثلاثين عاما، وهو يرفع يديه بالآذان قبل كل صلاة، وهو يمشي منحنيا بسكينة رائعة افتقدها الشاعر طوال حياته. بعد محادثة قصيرة بينهما رجع الأب »صلاح««وكتب قصيدته »موت فلاح« بعين رائية متنبئة: (لم يك مثلنا يستعجل الموتا/ لأنه كل صباح كان يصنع الحياة في التراب/ ولم يكن كدأبنا يلغط بالفلسفة الميتة/ لأنه لم يجد الوقتا). أية روعة لذلك الرائي الأكبر الذي عرف الرجل أكثر مني.. فما من مرة قابلت فيها الحاج »مصطفي« شاكيا غائصا تحت جبال الهم؛ إلا وأطلق ابتسامته في وجهي مع كلمتين عظيمتين: »سيبها لله«. حينها تهدأ نفسي، وأبرك مثل جمل المحامل علي الحصيرة بجواره في قعدتنا المفضلة علي سطح الدور الثالث لبيته. يمضي في إخراج مخزونه الديني بعد عشرة طويلة مع أئمة المساجد. يتكلم عن الدنيا متاع الغرور، عن النبي وأخلاقه، عن الهموم التي »تبات نار تصبح رماد«. يمد يده في سيالته ويخرج كومة أوراق مثنية هي تذاكر وروشتات ونتائج تحاليل تخص كبده الممروض. يرتبها جيدا، ويقرأ أسماء الأطباء بطلاقة هي من شيم ذلك الجيل الذي قرأ وكتب من الحياة نفسها لا من المدرسة. نسهر حتي الثانية عشرة في الصيف، وأتركه لأنني أعرف أنه يصحو في الفجر. كان دائما ما يردد علي مسمعي حين يراني أشتكي الصداع وقلة النوم: (يا أخي فما أطال النوم عمرا!). حقا كان قليل النوم بالليل ولا ينام في الظهيرة، دائما مشغول البال بما يفيده ويفيد أولاده والناس. أراه الآن بعين الأب »صلاح جاهين«: (النوم قيود والجسم مغلول بها/ غلاب غلب ع العين يا غلبها/ فيه ناس بتشكي قلة النوم وانا/ باشكي الدقايق اللي باغفل بها). الأب »جاهين« الذي رسم الحاج »مصطفي« في بورتريه عجيب: (مصر السما الفزدقي وعصافير معدية/ والقلة مملية ع الشباك مندية/ والجد قاعد مربع يقرا في الجورنال/ الكاتب المصري ذاته مندمج في مقال/ ومصر قدامه أكتر كلمة مقرية). هكذا تماما، كنت أراه قد جاء ب»الأهرام« يوم الجمعة وجلس يتعتع في المانشيتات ومكنون الكلام. أجلس بجانبه فيطلب مني المعاونة. أقرأ عناوين الصفحة الأولي فيزجرني: عدي الصفحة الأولي بالذات! يا للعار! أكتشف لحظتها، وربما يوافقني من جاوزوا الثلاثين ببضعة أعوام، وقطعوا شوطا في الوظيفة؛ أننا كنا موظفين بامتياز.. سرقت منا السنوات في الصفحات الأولي للجرائد الحكومية، والقيل والقال وعلاوة شهر يوليو والمكائد الصغيرة وتمشية الحال وصنوف الزوغان من المسئولية. كل هذا والرجل الذي مات في الظهيرة يحكي عن مجادلاته مع أئمة المساجد في أمور فقهية عويصة، وأن الإمام لم يحضر ذات مرة فغامر هو وخطب الجمعة بثقة.
جعلني هذا الاكتشاف لحالي عرضة لكابوس يلازمني حتي الآن، ويشدني نحو محل الدجاج الأبيض الذي تربض فيه الدجاجات الممتلئة الثقيلة في أقفاص صفراء مثقوبة. يبرز لي كرش كبيرمدلدل وأرجل قصيرة وأمشي علي ركبتي بالكاد. الكابوس الذي دفعني لأعاتب توأم الروح الخالد »أمل دنقل« وأصارحه بأنه السبب بالموازاة مع اكتشافي وتحليلي لقصة الصفحات الأولي: (والطيور التي أقعدتها مخالطة الناس/ مرت طمأنينة العيش فوق مناسرها../ فانتخت/ وبأعينها.. فارتخت/ وارتضت أن تقأقئ حول الطعام المتاح/ ما الذي يتبقي لها.. غير سكينة الذبح/ غير انتظار النهاية/ إن اليد الآدمية .. واهبة القمح/ تعرف كيف تسن السلاح). وحين أخرج من ذاتي وكابوسي، يطل الحاج »مصطفي« في الجهة الأخري لبحر سحري، وقد اصطاد سمكة حياته الكبيرة بعد طول معاندة. لم يحزن أبدا لأن القروش أكلتها منه في رحلة العودة.. ذلك أنه أدي مهمته تماما في المقاومة والجهاد. سينام ليصحو في الغد حالما بسمكة كبيرة أخري لم يصطدها أحد. أعود وأذكر نفسي بأن »هيمنجواي« بعد أن كتب »العجوز والبحر« انتحر، وأن بطله العجوز الطيب »انتياجو« لم يشفع له في إكمال رحلة الجهاد، لأن الروح عصف بها العطب ولا مفر. أصاب بالبلبلة فأمضي مع الذي مات في الظهيرة، مشيعا باحتفاء قدري تمثل في شمس عمودية تطمس ظلال الناس. كل الذين شيعوه عاشوا تلك اللحظة الكبري واستقبلوا استواء الشمس فوقهم بأجساد خبأت ظلالها داخلها لتستقبل الحقيقة العظمي. أما هو فقد ضحا ظله وغاب للأبد ليندرج في النور الكلي العظيم، تاركا للماشين وراءه مصمصة الشفاه وتمني الموت في الظهيرة.





* نشر في أخبار الأدب يوم 25 - 12 - 2011

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى