رينولد نيكلسون - تاريخ العرب الأدبي.. الجاهلية: شعرها وعاداتها ودياناتها ترجمة حسن حبشي

وقد وضع الإسلام حداً لهذه الوحشية واستهجنها القرآن ونهى عنها قوله (ولاَ تَقْتُلوا أولاَدَكُمْ خشيْة إمْلاَقٍ نحْنُ نَرْزُقهُمْ وإيَّاكم إنَّ قتْلَهُمْ كان خِطأً كبيراً) وربما كانت الأبيات التالية تفصح عن هذا تمام الإفصاح، وفيها نرى صراعا عنيفاً بين رجل وبين الفاقة، ويحمد الله أن كان مصرع ابنته قبل مصرعه حتى لا تكون تحت رحمة أقاربها:

لولا أُمَيْمَةُ لمْ أجزَع منَ الْعَدَمِ ... ولم أُقاسِ الدُّجَى في حِنْدِسِ الظلم
وَزَادَنِي رَغبْةً في الْعَيْشِ معْرِفتِي ... ذُلَّ اليتَيمةِ يَجفْوهَا ذَوُو الرَّحِم
أحاذِرُ الفَقْرَ يَوْماً أنْ يلمَّ بِهَا ... فيَهْتِكُ السِّتْرَ عن لَحْمٍ على وَضمِ
يهْوَى حَياتي وَأهوى مَوْتَها شغفاً ... والموتُ أكرمُ نزّالٍ على الحُرُمِ
أحشى فظَاظَةَ عَمٍّ أو جفاءٍ أخِ ... وكنتُ أُبقي عليها من أذى الكلِم

ويقول آخر في هذا الموضوع:

لولا بُنيَّاتٌ كزُغب القَطا ... رُدِدنَ منْ بَعضٍ إلى بَعضِ
لكانَ لي مضطرب واسعٌ ... في الأرض ذاتِ الطولِ والعرَضِ
وإنِّمَا أولادُنا بينَنَا ... أكبادُنا تمشي على الأرض
لو هبَّتِ الرِّيحُ على بعضِهِم ... لامتنَعَتْ عينِي مِنَ الغْمْضِ

الحب والبغض هاتان الكلمتان هما جماع الآداب البدوية؛ لأنه إذا كان العربي - كما رأينا - صديقاً حميما لخلانّه، فانه عدو لدود لا يهدأ له بال إذا عادى؛ تضطرم نفسه وتتأجج بنيران الحقد والبغضاء، وكانوا يعدون من لا يرد اللطمة التي أصابته جباناً، ويستحيل على الرجل الكريم المحتد منهم أن ينسى ضرراً لحقه حتى يثأر لنفسه وينتقم لها، وأنشد بعض الأعراب، - وقد آلمه أن يغتصب المغير إبله - أبياتاً يقول فيها عن عشيرته التي لم تساعده في استرجاعها: لكنَّ قومي وإن كانوا ذوِي عدَدٍ ... ليسُوا من الشَّرِّ في شيءٍ وإنْ هانا

يَجزونَ من ظُلِمِ أهلِ الظلمِ مَغفرِةَ ... ومن إساءةِ أهل السوُّء إحسانا

والبيت الثاني الذي قد يسرف في مدح من يتصف به الأخلاقيون المسيحيون والمسلمون ألحق بمن فيهم عاراً لا تمحي آثاره، وإن المنهج البَّين في معاملة الأعداء ليتضح على أتمه من الأبيات التالية:

إذا المرءُ أولاكَ الهوانَ فأولِهِ ... هوَاناً وإن كانتْ قَرِيباً أواصِرهُ
فانْ أنتَ لمْ تَقْدِرْ على أن تهينَهُ ... فَذرْهُ إلى اليَوْم الذي أنْتَ قادِرُه
وقارِبْ إذا مَا لمْ تَكنْ لكَ حِيلة ... وصَمِّمْ إذا أيقنْتَ أنَّك عَاقِرُهْ

وفوق كل هذا فان الدم يدعو الدم، وهذا الارغام يظل يلاحق ضمير العربي الوثني؛ وكان الانتقام عندهم ضرورة طبيعية إذا لم تجب حرمتهم النوم والشهية والصحة، كما كان ظمأ محرقاً لا يطفئ أواره أو يبل لهيبه سوى الدم، ومرضاً من أمراض الشرف يمكن تسميته بالجنون، وإن كان قليلا ما يمنع الرجل من أداء عمله في هدوء وتبصر. وكانوا يثأرون من القاتل إن أمكن أو أحد أقاربه وأبناء عشيرته. وإذا ذاك تستقر الأمور في نصابها ويندمل الجرح، إلا أن هناك حالات كان الانتقام فيها فاتحة قتال دموي دائم، تشتبك فيه القبيلة بأجمعها صغيرها وكبيرها، كما حدث ذلك في مقتل كليب الذي أدى إلى حرب زبون ظلت الرماح فيها مشتجرة زهاء أربعين عاما بين قبيلتي بكر وتغلب، ويقبل أقرب أقرباء القتيل الدية كفدية له وتدفع عادة جمالا وهي تعد مسكوكات الإقليم، وان قبولهم ذلك ليوحي إليهم دائماً أنهم فضلوا اللبن (النياق) وأثروه على الدم، وإن الشعور العربي الحق ليشرئب من خلال هذا البيت الذي يقول فيه الشاعر:

سأغسل عني العار بالسيف جالباً ... على قضاء الله ما كان جالبا

وكانوا يعتقدون أن روح القتيل تظل شاخصة على قبره وتسمى (الهامة) أو الصدى، تصيح: (اسقوني، اسقوني) حتى يؤخذ لها بالثأر ممن اعتدى على صاحبها، ولكن الأفكار الوثنية عن الانتقام كانت مرتبطة بالماضي أكثر من ارتباطها بالمستقبل ولم يكونوا يحسبون للحياة الأخرى قيمة كبرى أو لم يكونوا يعلقون عليها أية أهمية بجانب الذكريات المتأصلة عن الحب الأبوي، والشفقة البنوية وأخوة السلاح.

ومع أن النفس تستهجن هذه الطريقة المتعبة في الانتقام والأخذ بالثأر إلا أن مغبتها إيجابية في صد أولئك العابثين الذين لولا تلك الخطة - لأطلقوا لغرائزهم المجرمة العنان، ولم يكبحوا لها جماحا، إذ لا يخشون إذ ذاك رادعاً أو إلا، ولا يصدهم إرهاب، أما من وجهة نظرنا نحن فان قيمة هذا الأمر لا تهمنا من حيث هو أحد الأسس الأولية في إقامة دعائم صرح المجتمع العربي بقدر ما تهمنا من أنه يكون عنصرا من عناصر الحياة العربية والأدب العربي، ولذلك فقد اخترت من كتاب الأغاني قصة تنعكس فيها هذه الصور بأكملها، تلك هي قصة قيس بن الخطيم وكيف انتقم ممن اغتالوا أباه وجده.

والقصائد التي يرد فيها ذكر الانتقام والأخذ بالثأر للدم المهراق تكشف القناع عن كل ما هو مستحسن ومستهجن في العربي الوثني، منجده من ناحية يصور لنا شجاعته وعزمه واحتقاره للموت وخوفه من العار وتبجيله الموتى واحترامه إياهم وعطفه الجدّي على ذوي قرباه ومن كانوا من لحمه ودمه، ومن ناحية أخرى نجده يصور نفسه المضطغنة، وقسوته وغدره، وضراوته في تعقب القتلة، وإن القصيدة التي تجسم لنا هذه الصفات كلها هي القصيدة المنسوبة إلى (تأبط شرّاً) وإن كان البعض يزعم أن صاحبها (خلف الأحمر) المنشئ المعروف لقطعة الشنفري، والمقلد البارع الباهر للشعراء القدامى

(يتبع)

حسن حبشي



مجلة الرسالة - العدد 194
بتاريخ: 22 - 03 - 1937

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى