عبد الرحيم جيران - الهوية السردية ومقولة التثمين المصنفة

إذا كانت مقولتا التحديد والتوجه المصنفتان تتصلان بالإرادة بوصفها مستوى أعلى يضمهما، فإن مقولة التثمين المصنفة لا تتضمن فيها؛ وهي تالية عليها في الصيرورة السردية؛ ومن ثمة فهي لا ترتبط بالعمل (القوة الداخلية الدافعة) بقدر ما تُعَد متعلقة بالفعل، وهي من طبيعة ذهنية بدرورها، وتدخل في باب النتاج الذي ينجم عن الممارسة الفعلية للذات الساردة الفاعلة.
وسميناها بمقولة التثمين لأنها تتصل بما هو قيمي مرتبط بالموضوع من حيث كونه مفيدًا مطابقًا لتصوره، أو ملائمًا للتطلع، ومن جهة ثانية بما هو قيمي يتخذ هيئة أثر نفسي مرتبط بالذات الساردة الفاعلة؛ أي مدى إحداث تحقق الموضوع في الذات الساردة الفاعلة من رضا عن نفسها.
والتثمين إما أن يكُون إيجابيا أو سلبيا، ويمكن الحكم على تمظهر الهوية السردية حسب إيجابية التثمين أو سلبيته؛ إذ تعثر الذات على نفسها في تقويم فعلها في علاقته بموضوعها على نحو إيجابي، وكل رضا عن النفس يترجم تماهيَ الذات مع فعلها وموضوعها المحصل عليه. هذا بخلاف التثمين السلبي للفعل في علاقته بالموضوع الذي يُفضي إلى عدم عثور الذات على نفسها في ما تنجزه؛ الشيء الذي يولد نوعًا من عدم التماهي مع الفعل والموضوع من جهة، وعدم التماهي مع العالم من جهة ثانية. وتُثار- هنا- مسألة درجة التناسب بين الفعل والوسائل المنتهَجة لتحقيقه، وبينه والنتائج المحصل عليها. كما تتصل مقولة التثمين المصنفة بدرجة الوعي والإدراك اللذين تحوزهما الذات السردية الفاعلة تجاه طبيعة الموضوع والفعل؛ أي مدى طواعية الموضوع للتحقق أو استعصائه، ومدى صلاحيته أو لا، ومدى نجاعة الفعل أو عدمها، ومدى تكلفته على مستوى التبعات العقابية أو الأخلاق الاستنكارية.
تُثار مشكلة بالنسبة إلى مقولة التثمين المصنفة على المستوى القيمي، خاصة حين نجعلها مرتبطة بالفعل؛ أي بالممارسة المفضية إلى إنجاز المهام، وتتمثل هذه المشكلة في معرفة ما إذا لم يكن البعد القيمي يطول تصور الموضوع السردي في مرحلة الهوية المتصورة؛ أي مرحلة تولد الإرادة والعمل. وحين يُثار هذا الأمر ينشأ السؤال الآتي: ألا يكُون التثمين واردًا قبل الفعل؟ وحتى تُحل هذه المشكلة ينبغي افتراض نوعين من التثمين: تثمين قبْلي، وتثمين بعدي. يتصف الأول بكونه ذهنيا من طبيعة مجردة ملتصقة بالهيئة التصورية للموضوع، من حيث هو ماهية (و/ أو استمهاء وفق التوجه الظاهراتي: هوسرل).
وهو يُقوِّم في الغالب الموضوع على نحو مثالي، ويضعه في خانة التصنيف الإيجابي للعالم. ويتصف التثمين الثاني (البعدي) بكونه واقعيا من طبيعة استنتاجية؛ حيث يُستخلص مما انتهى إليه الجهد من نتائج ملموسة؛ ولهذا فهو تالٍ على الفعل، ومن طبيعة هوياتية تتصل بالمشخص. وغالبا ما يكُون التثمين البعدي مفحوصًا في ضوء تطلبات التثمين القبْلي؛ ويتخذ هذا الفحص طابع المقارنة، كما ينتج الرضا عن النفس وفق هذه المقارنة؛ فكلما اقترب التثمين البعدي من التثمين القبلي كانت درجة الرضا عن النفس أعلى وأقوى، وكلما ابتعد عنه ابتعادًا كبيرًا حدث الارتكاس، وضياع الذات بعدم تجلي التثمين القبلي تجليَا مرضيَا. وربما كان القبض على سردية اليوتوبي ماثلة في هذا الفحص للتثمين البعدي في ضوء التثمين القبْلي بوساطة المقارنة بينهما؛ أي المقارنة بين الهيئة التصورية للأول والهيئة الملموسة للثاني. ولا يُمْكِن فهم الهوية الكلية إلا بفعل هذا التماهي بين التثمينين أو التفاوت بينهما؛ إذ هي في نهاية المطاف تعرِّف الذات إلى نفسها في التقويم النهائي للرضا عن النفس؛ ولا يحدث الحكم على هذا الأخير إلا في ضوء النتائج المترتبة على الفعل.
ولا يقوم التثمين المصاحب للصيرورة السردية على تقويم الموضوع من حيث الحكم على قيمته فحسب: أهو إيجابي أم سلبي؟ بل يتعدى هذا الأمر إلى فحص سريانه أيضًا؛ أي فحص ما إذا كان الفعل المنتهَج في إنجاز المهام يراعي التصور كما حُدد في أثناء انبثاق السرد أم يخالفه أو يزيغ عنه، وفحص مدى نجاعته، بما يعنيه هذا من صيغ التأكد والتثبت والتصويب في حالة الخلل في الأداء. ويُمْكِن الحديث على العموم عن نوعين من التثمين البعدي: التثمين البعدي الجزئي، والتثمين البعدي الكلي؛ فالأول يرتبط بتقويم علاقة الفعل بالموضوع في أثناء الصيرورة السردية قبل انغلاقها؛ أي أنه يتصل بالتحققات الجزئية خلال الإنجاز، بينما يرتبط التقويم الثاني بالنتيجة النهائية المحصل عليها، التي تفضي إليها التحققات الجزئية. وليس بالضرورة أن يكُون هذا التثمين مصوغًا بوساطة التعبير اللساني؛ إذ غالبا ما يترك لاستنتاج القراء. ويُعَد التثمين الجزئي ذا أهمية بالغة في صيرورة تكون الهوية السردية وتمظهرها؛ إذ هو الذي يسمح بمراجعة الاختيارات في ضوء تجلي سلبية الموضوع المختار، أو سلبية الوسائل والطرائق المعتمدة في تحقيقه. كما أنه يسمح بالإدراك الهوياتي للموضوعات (حقيقي/وهمي، أصلي/ غير أصلي، واقعي/ مثالي، مرضٍ/ غير مرضٍ…الخ). ويَرِد هذا الصنف من التثمين في كل الأحكاء، العريق منها والحديث. كما أنه يسمح بانبثاق الجانب المعرفي في السرد في هيئة ملفوظات واصفة تسمح بتسلل الحكم والأمثال، والسرد المضاعف الذي يتمثل في الحكايات- الحجج الدالة على العبرة، كما هو الأمر في «ألف ليلة وليلة». وتصير الهوية السردية بموجب التثمين الجزئي منفتحة على غيرها من هويات تتصل بالآخر أو الغير، لا بغاية الذوبان فيها، وإنما بغاية الإدراك الإضافي (باختين) من أجل فحص صلاحية الهوية الذاتية في ضوء ما يغايرها.
وهذا التفاعل الهوياتي الناجم عن التثمين الجزئي مرده إلى مصدره؛ أهو منعكس أم متعد؟ وحتى نبين هذا الأمر ينبغي توضيح المقصود بمصدري التثمين المذكورين؛ فالتثمين المنعكس هو ما يصدر عن الذات السردية الفاعلة نفسها من حكم قيمي في صدد موضوعها أو فحصه؛ أي أنه إدراك شخصي للفعل، ناتجٌ عن التجربة الخاصة، بينما يُعَد التثمين المتعدي صادرَا عن الآخر أو الغير تجاه فعل الذات السردية الفاعلة وموضوعها. وهذا التثمين الثاني إما أنه مُدعم مطور لفعل الذات السردية الفاعلة (النصح- الإرشاد- التوجيه…الخ)، وإما أنه مُحْبِط له (الشجب- السخرية- الإنكار…الخ). ويرد التفاعل الهوياتي بقوة على مستوى التثمين المتعدي في صنفيه معًا: الأول ينير الهوية ويتيح إمكان الاعتراف بالذات السردية الفاعلة، والثاني ينظر بعين الريبة إلى فعل الذات السردية ويأبى الاعتراف بها بوصفها ذاتا لها الحق في الفعل.

٭ أكاديمي وأديب مغربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى