محمد حافظ رجب - مغامرات صغير الحجم والدرويش.. قصة قصيرة

محمد حافظ رجب.jpg

جلس (الدرويش) بجوار (النصف بغلة) كركر ضاحكا: شيشة عجمي تكركر.. انغرس بضحكاته في بلاهة صيفية..
ضاقت به الأنفاس .. تكلم دهرا.. واستدار (الدرويش) بجناحيه .. وعاد إليه فجأة.. لمحه يخرج له لسانه ساخراً معبرا عن حيرته في أمره أمام واجهة النافذة: لا فائدة جيله لا يعرف له كبيرا يوزنه بالميزان الدقيق.. يبصق علي حذائه.. من كان منكم كبيرا فليتقدم منه...
من باب قلعة سوق (عمر باشا) دخل (الدرويش) ومعه فتي جاء من (الفيوم) ويقيم (بالدخيلة).. اشتري (الدرويش) فاصوليا خضرة وقلقاسا ولوبيا وبلحا أحمر ورفع يده يلقي بالتحية للباشا في قلعته حيث يقيم.. وكاد يمضغ آذان الباعة وهو يبتاع منهم قوته وقوت أحفاده.. قال الفتي القادم من الفيوم.. «واضح إنك تستسيغ لحم البشر» قال (الدرويش) : «كثرة الحرائق في داخلي أشعلت جيوش السوس خليها علي الله ولا تعلق علي ما يحدث داخل قلعة الباشا» وركب (الفيومي) عربة مشروع ذاهبة إلي (الدخيلة) وركب (الدرويش) عربة أخري إلي (المتراس) والحمل ثقيل : برك البعير من ثقل ما يحمله.. ولم يقل أحد ارفعوا الحمل من فوقه حتي ينهض ويحمل الهودج.. إلي مقصده عند (الصينية).. فجأة تمزق الكيس الذي يحمل مأكولاته التي يحملها (هولاكو) أثناء حروبه الدموية في أنحاء الدنيا.. وتبعثرت الفاصوليا من فوق الموقد واشتعلت الحرائق في كثير من بلدان العالم المتحضر واللامتحضر.. وقلب (الدرويش) الكيس فاهتزت جيوش القائد هولاكو الملعون لم تجد ما تأكله.. حبيبتي (لولا) أحضنك بقرارة كي لا تلوميني علي فشلي في حمل أثقال الزاد والزواد» وزفر (الدرويش) زفرة حارة من تحته «غفر الله لي ذنبي» وهو يري الفاصوليا طرحت زرعا أخضر ترويه الأمطار الموسمية الغزيرة في بلاد حوض نهر النيل الطويل.
(نرجس) قطع لسانه عنها صار أخرس لا يسمع ولا يري: تعاني من حالة ثقيلة من الإحباط لم تجد ما تفعله سوي أن تدرك النوم علي شاهد مقبرتها في مقابر المسيحيين بالشاطبي.. ظن (الدرويش) بحمق أنه إن أهملها تعود بكيانها كله إلي زوجها مستغفرة.. وحضر رجلها الأخير الذي انتقته بعناية من نوباتشية يوم الاثنين.. جلس (مدحت) بجانب (الدرويش) : أراد أن يجر عجلات لسان (الدرويش) فوق بلاط الحجرة كي يلعق السائل الذي يخر من فمه...
انصرفوا إلي بيوتهم..
انتخابات المجالس المحلية.. (بوش) (وكلينتون) في أمريكا.. أمريكا ترقص التانجو.. مرشح ثالث مليونير مستقل.. عشاء الدرويش والجدة شريحة خبز وشريحة جبن أبيض وتجرع كوب حلبة..
(شارك إيمان) (الدرويش) والجدة في شرب الحلبة و(سهام) كان لها نصف كوب.. تعاكس (الدرويش) أثناء مشاهدته نشرة أخبار التاسعة في التليفزيون. (نرجس) الشيطان، يجرها من سروالها الطويل.. ألاعيبه الفاجرة معها.. لف الطوق حول وسطها وراح يدغدغها أحضرت معها بعض ثمار اليوسفي من شجرة حديقتها وترمس به قهوة آلية.. أعدت (للدرويش) كوبا فخما.. قاطعها (الدرويش).. قال الذي يقول في داخله: «لا تحدثها».. حول كشافيه عنها.. يزهد فيها وهي تلتقط نظراته بلهفة أفريقية حارة...
في خارج (مصلحة المظاليم) يذل (الدرويش) إبليس قائد سلاح الأبالسة.. يتبول عليه كل لحظة وهو مستغرق في إخراج قصلاته في المرحاض حيث يحترق زعيم الأبالسة في اليوم ألف مرة.
اليوم عاد (إبليس) إلي القلعة.. صافح الباشا عمر واشتري (الدرويش) باذنجانا ضخما دقق النظر في الباذنجان طالع فيه رؤوس شياطين .. طماطم كيلو ونصف بجنيه .. عمر باشا صار صديقا حميما (للدرويش) يمنحه مأكولاته مقابل عملاته الغالية.. أمسك (ايمان) ساق (الدرويش) غرس فيها أنيابه أسقطه علي الأرض: عقور هذا الكلب الصغير متهيج يريد التهام لحم (الدرويش).
الجدة مع الله ...
ذهبت (الجارة) إلي مستشفي الحميات تعمل تحاليل (لإيمان) و(سهام) هناك الشك في عودة (الصفراء) إلي صحراء (إيمان) حيث قوافل الجمال تتهادي فوق بساط الريح.. ومرت الجارة علي مكتب التموين هناك.. يريد (مهني) البقال من (غربال) باشا خاتم المكتب علي بطاقة تموين (الجدة) ليثبتوا أنها مازالت حية ترزق تتعاطي حبات الترمس والحلبة ساعة العصرية...
دخلت الجارة المكتب.. الموظفات بلا عمل.. داعبن (سهام). داعبن (إيمان).. ثرثرن مع الجارة شرحت لهن عجز الجدة عن الحضور.. تخوفن من وضع الختم علي البطاقة.. الله في ملكوته تدخل.. وضعت موظفة ختم المكتب علي البطاقة: «يوم تبيض وجوه وتسود وجوه».
قالت جريدة (الوفد) مأتم الديمقراطية .. أذاع التليفزيون نتائج انتخابات المحليات.. نجح مرشحو الحكومة.. سقط (بوش) في أمريكا.. نجح (كلينتون)... أرسل (حسني مبارك) برقيتين واحدة للرئيس الجديد وواحدة للرئيس القديم.. مات الرجال.. قطعت أرجلهم.. اغتصبت النساء .. تيتم الأولاد في البوسنة والهرسك بكي الدرويش ألما.. قال: (ولكن الله حي لا يموت) رأي (الدرويش) حلما. رأي فيه آلاف النساء يزدحمن حوله في أرض مساحتها آلاف الكيلو مترات
صاح فيهن: كفي كفي .. كفي عني يا سيدتي أنت وهي.. إنني استغيث بالله من طول حبالكن.
جلست (سلوي) في (مصلحة المظاليم) تضع ساقا فوق ساق وسيارتها مربوطة بحبل في الحجرة وأمامها حزمة برسيم تقتات منها علي مهل بلذة وتذوق وهي تتحدث مع (نرجس).. (نرجس) ذهبت إلي (كوم الدكة) اشترت خبزا طازجا وعادت مغتبطة ودار الحديث بين (سلوي) (وبخيتة) القبطية عن عم (بشيري) والد (بخيتة) التهم الترام ساقه ويعيش الآن بدون ألم أو خجل يبيع الخضراوات الطازجة.. (الرجل صغير الحجم) يلعب بالجيتار في قلوب ساكنات الجحور..
(أماني) التي قيل إنها ستتزوجه توصي (الدرويش) أن يرعاه وياخد باله منه.. الشاب (الحائط) يدخل ينظر إلي (الدرويش) ملياً : «إيه يا ريس» أيعود إلي مأواه.. تمتم (الدرويش) : «الحزن وأنا قرينان.. سيطول عناقنا لبعض» (سهام) الصغيرة تجلس في البيت تتصفح كتابا : سنة أولي ابتدائي.. (والجدة) تركت (الدرويش) ودخلت سريرها.. قالت (الجارة).. تنازل لي عن حجرتك .. إني أطمع في تنازلك عن مأواك المندثر تحت الأغطية» قال (الدرويش): «تأكلون السلام تحت المائدة ما أشقاكم بشرا» قالت: «غضبت بسرعة» قال: «أرفض أنا (الدرويش) أن تتناولوني في عشائكم».. ذهب إلي المأوي القديم في جحر (غربال باشا).. إلي (مهني) البقال.. أبوابه مغلقة الوجه.. جلس بجوار بائع الكسكسي القديم هز بنيانه الشلل: «يا بائع الكسكسي القديم بجوار (الكراكة) أنت .. أين أجد من يسمونه (مهني).. عنده تمويننا: زيتنا وسكرنا والشاي» قال بائع (الكسكسي) القديم: «ربما تجده عند البقال الفلاني بشارع محسن باشا» ركب (الدرويش) عجلات قبقابه المنزلق فوق مياه ترعة المحمودية.. لم يجد رجل السكر والشاي والزيت هناك..
جلس فوق دكة العرش في قهوة هناك وطلب شايا.. وعاد إلي (مهني) لم يجده ظل الدكان عابسا في وجهه.. رجع إلي مثواه خائب الرجا من رحلة العذاب المستعر.. طوال جلسته في القهوة عينه مزروعة في الأرض الحرام.. آثم جسده وروحه ماتت فيها الرغبات.. سندوتش بيض بالبسطرمة أكلته المفضلة.. تذوقه علي مهل وبلذة ملحوظة.. صقيع برد الشتاء أحسوا به اليوم.. أغلق (الدرويش) نصف حاجز النافذة المطلة علي حوض ترعة (النوبارية) عواصف اليوم هزت ثباته في داخله هزاً موجعاً..
نزل (الدرويش) فوق دقات قلبه فوق درجات السلم المرتعش يأتي بماء آسن يشربه .. رآها قادمة : (نرجس) وخلفها (مدحت) ذكرها الجديد.. بديل (الدرويش).. نظراته وضعها في كوب الماء.. هبط فوق جدران الكوب.. إلي أسفل... إلي أسفل لا يجيد السباحة.. غرق في قعر كوب الماء.. غرق في شبر ميه.. لم يعد يقدر علي اجتياز حاجز الصوت الرهيب والسفن تعبر القناة تتمطي فوق جثمانه تشيعه بصفيرها المدوي إلي مقره الأخير.. ألقت نرجس تحية الصباح المبكر علي (الدرويش) رد عليها بصوت مجروح.. خرج صوته مشيعا في جنازة حارة إلي مقابر العلمين ورأي القائد الألماني (روميل) يجلس في الهواء الطلق يشوي كيزان الذرة لجنود الحلفاء الذين انتصروا علي فيلقه الحربي أيام معركة العلمين .
صعدا درجات السلم.. ظهر عليها التعب الثقيل.. مد (مدحت) .. يده إليها.. رفعها إلي طول قامته.. انتقته من بين رجال نوباتشية يوم الاثنين.. صعد بها درجات السلم.. ضحكت في سعادة.. لم يذهب انتقامها عن (الدرويش) عبثا ثم رفعها فوق فراشه الملتهب أدرك (الدرويش) قسوة التدبير الشيطاني حوله.. تهزه الشياطين هزا شديدا وحرساً.. أدركت أنه سيغرق إن ظل حبيس جدرانها: (الدرويش) كلمته وهي تتثاءب فوق الفراش.. رفض التحدث معها:
خائنة هي في نظره.. لم ترجع إلي زوجها كما ظن «مالك ومالها.. اتركها في حالها».. لكن الشيطان الوغد يلاحقه يرقص في خلاياه.. يفتته.. ظل محطما طوال اليوم.. وذهبت هي إلي بيت أمها المشلولة لترعاها.
(الدرويش) اليوم يقاوم بكل عنفوان قوته مذبحة (ديوان المظاليم.. يقهقه.. عفريتا محترقا يناوله أكواب الشاي يقهقه.. يقهقه عاليا حتي لا يضيع.. تجاوبت معه (الثرثارة) عزم عليها (الدرويش) بالشاي.. سارعت (بخيتة) القبطية وعملت لها شايا: مباركة بنت بائع الخضار المقطوعة ساقه.. منحته (الثرثارة) قرصة أعدتها في بيتها.. وجدها رديئة الصنع.. فوجئت (نرجس) بضحكاته المدوية : جرس عربات مطافئ ذاهبة إلي حريق في الورديان.. ظهر عليها الامتقاع.. راحت تثرثر وتضحك هي الأخري.. همس الدرويش لأحشائه: تظنني سأدخل كفني أتواري في قبري.. تترحم علي بالقرص للفقراء هي وعشيقها..».
تجمد (الرجل صغير الحجم).. اقتربت (نرجس) من (الدرويش) تتمسح فيه.. قطة لطيفة بلا مخالب.. خائفة ترتعش من بحر الشتاء..
وظل ممتقع الروح حتي آخر النهار.. ومشي معه (خاطر) حتي (محطة مصر) وعرج (الدرويش) علي باب قلعة (راتب باشا واشتري 3 كيلو طماطم بجنيه وكيلو وربع بطاطس بجنيه آخر وجاء حاملا حمله وتركه ينزلق فوق سطح (النوبارية) وسار القطار الذاهب إلي (الغرب) متعطشا إلي وجبة البطاطس التي ستعدها (الجدة) رفيعة المذاق.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى