حسب الله يحيى - أصابع الست باسمة.. قصة قصيرة

(1)

لأول مرة في حياتي، أمني نفسي بامتلاك أصابع غيري !

وإمتلاك أصابع الآخرين، معناه التخلي عن أصابعي التي تنتمي اليّ .

هذا أمر غريب أن يفكر المرء بإمتلاك أصابع سواه.. وكنت أعرف عدداً من (الأصدقاء) باعوا حناجرهم لسواهم وصاروا يتكلمون بحناجر اولياء النعمة عليهم.. كما أعرف آخرين ألغوا ضحكاتهم الحقيقية التي تبدأ من القلب، ليستبدلوها بضحكات مسؤوليهم.. مستعيرين أفواهاً.. كل مجدها أنها تمتلك موقعاً وظيفياً أعلى من الآخرين.. وقد وصلوا الى هذا الموقع لا عن دراية او كفاءة او إخلاص وإنما على وفق سبل اخرى لاسبيل للحديث عنها هنا.. ولكنها مسألة ترد على الخاطر الغريب الذي أحمله وأمني نفسي بامتلاكه عن حق أو من دون حق .

وهذا التوجه غير مسبوق بالنسبة لحارس مدرسة بسيط، لا يفكر يومياً أن يكون بديلاً لسواه.. فأنا معتد بنفسي لا عن كبرياء زائف وإنما عن قناعة وحرص واحترام تام لشخصي.. فأنا أعرف حجمي واتعامل مع الآخرين على وفقه، مثلما أعرف حجوم سواي وأميز كل واحد منهم على وفق ماهو عليه بوصفه إنساناً له حضوره وشخصيته ودرايته ووعيه وموقفه .

لكن.. هذه المرة أختلف الأمر.. إختلف إختلافاً عجيباً.. فأنا لا أمني نفسي بامتلاك أصابع مهني ماهر ولا ساحر يعرف كيف يتعامل مع خفة اليد، وإنما.. الغريب في الأمر أنني بقيت أفكر بأصابع تلك المعلمة وأرغب رغبة عاتية في استبدال أصابعي بأصابعها .

سألت نفسي :

– لو تحقق الأمر.. لو.. من يضمن قبولها بأصابعي ؟

لم تكن أصابع الست باسمة.. أصابع ناعمة مطلية بكريمات الجمال، ولم تأخذ الأستطالة ولا الأظافر العنابية المثيرة ..

إنها أصابع عادية، مألوفة، سمراء.. لم تعرف ارتداء الكفوف النايلون الحافظة لبشرتها ..

فيما كانت أصابعي.. أصابع رجل في كامل شبابه واقدامه، ممتلئة قليلاً.. ونظيفة دائماً .

إذن.. ما الذي يحول دون موافقتها على هذا الاستبدال !

ضحكت من نفسي.. عليّ.. ضحكت.. كما لو كنت اغافل نفسي واخادعها واحتال عليها، وأزيف حقيقتها .

فأنا أعرف جيداً.. أن أصابع إمرأة مثل الست باسمة.. لها أصابع درّية قوية باسلة، تفوق أصابعي الجبانة المتخاذلة، الحمقاء.. فكيف يمكن لمثلها القبول بهذا الاستبدال.. وكيف لمثلها ان يقبل بأصابع كأصابعي، وكيف لمثلي أن يجرؤ حتى على مجرد التمني الحالم هذا؟

2))

قرعت جرس المدرسة واصطفت التلاميذات في ساحة المدرسة .

كانت الست باسمة تقف صباح الخميس أمام تلميذات مدرسة المنار الابتدائية وهي تنظم الصفوف وتقرأ مع تلميذاتها الأناشيد.. وتتقدم بنفسها لرفع العلم العراقي.. بثقة عالية ووطنية مخلصة تسري في كل كيانها ..

رفرف العلم فيما كانت شمس الخميس بهية، وهو الأمر الذي جعل الطبيعة تغازل العلم وتضيء ألوانه وحروفه النورانية ..

وفجأة اندفع ثلاثة رجال مسلحين ملتحين.. واتجهوا الى الساحة مباشرةً ..

لم يكن بمقدوري منعهم حين اجتازوا باب المدرسة واهملوا حتى سؤالي وانا اجلس عند الباب..

تقدموا وعمد أحدهم الى سارية العلم وأسدله، ورماه بعيداً.. فيما ناوله صاحبه خامة سوداء دونت عليها كلمات مقدسة لا تتلاءم مع طبيعة حاملي تلك الخامة.. ورفعوها عالياً .

قال ثالثهم :

– هذا علمكم.. هل تفهمون.. نحن نحذركم ؟!

ساد صمت رهيب، فيما كانت عيون التلميذات تعطي بريقاً غريباً مملوءاً بالخوف والرهبة ..

كانت الست باسمة تقف.. كما لو انها قد تحولت الى قطعة من جماد.. يبس الدم في أوردتها وشرايينها ولم تعد بها حركة الشباب التي عرفت بها.. وسالت الدموع على خديها وبدت أصابعها في حالة ذهول وهي ترتجف وهي تجفف تلك الدموع المدرارة .

وراحت اقدامهم الثقيلة.. تخدش وتحفر نعومة تراب الساحة .

حدقت المعلمة في الخرقة السوداء المرتفعة.. وانتقلت تحدق في تلميذاتها وفي عيون مديرة المدرسة وزميلاتها المعلمات.. مثلما حدقت في وجهي الذي بدا منكسراً جبياً أمامها ..

إمتحنت الصمت الحذر الذي كان يتجسد صائتاً أمامها.. ويدفعها الى التحدي والاصرار ..

تقدمت الى السارية.. وامسكت بالعلم الذي بدا مثل شهيد في انفاسه الاخيرة مرمياً على الارض تعتمل في حركته نسائم الصباح..

لم يكن أمامها الا انقاذه والسهر على مدّه بالحياة وانقاذه من موت يحدق به ويحاصره من كل جانب.

أمسكت بالعلم.. قبلته، ووضعته فوق كتفها وراحت تنزل تلك الخرقة السوداء.. رمتها بعيداً ووضعت بدلها علم بلادها .

راح العلم يرفرف من جديد .

صفقت المديرة والمعلمات والتلميذات.. اعتلت الوجوه.. الضحكات والاناشيد والأفراح ..

بدت الوجوه مشرقة.. كاملة البهاء ..

كنت أكثر الجميع نشوة وفخراً واعتزازاً بالست باسمة وأنا أرى أصابعها ثابتة، أبية، نشوانة .

وفيما كان الجميع يعيش نشوته وفرحته وابتسامته.. عاد الرجال الثلاثة بعيونهم التي كانت تشتعل شرراً ووجوه كالحة غاضبة ولحى كثة عفنة.. ثم أمسكوا بالست باسمة التي كانت حائرة وجروها الى حجر منسي كان في ركن الساحة.. وامام التلميذات والمعلمات والمديرة.. شهروا عن يدها اليمين وبسطوها فوق الحجر.. سحب أحد الثلاثة سيفاً كان يحمله وثرثر بعدة كلمات و.. فجأة قطع اليد من الرسخ.. راحت اليد تقفز والأصابع تتحرك بسرعة.. فيما الدماء تندفع بحرارة وقوة ..

ضاع صراخ الست باسمة بصراخ المديرة والملعمات.. كانت التلميذات قد أصبن برعب لم يألفنه من قبل ولم يجدن له مثيلاً لا في افلام الكارتون ولا برامج الاطفال التي كانوا يشاهدونها كل مساء، أغمي على بعضهن.. وسقطت ثلاثة معلمات مغشياً عليهن.. كان الموقف مرعباً والمشهد دامياً .فيما كنت مصاباً بالجنون والرعب والذل والمهانة وأنا أبحث عن يد الست باسمة واصابعها التي لم اكتشفها إكتشافاً جوهرياً الا في تلك اللحظة الدامية الرهيبة ..كان يصعب عليّ أن احتضن اصابع مقطوعة الجذر تتحرك بين اصابعي.. كنت ارتجف رعباً وانا امسك بها، واخشى عليها من الاذى كما لو كنت امسك بطائر نادر أخاف عليه من ضغط أصابعي، مثلما أخشى ان يفلت من بين تلك الاصابع التي تحتضن وجوده .إمتلأت اصابعي بالدماء، فيما كانت الاصابع تتلون.. تارة صفراء، وتارة زرقاء، وتارة سوداء.. وأنا حائر بها، رافضاً التخلي عنها.. قبّلت تلك الاصابع، توجهت لغسلها والدعاء لها.. كنت اود ان اعطرها، وانا استعين بعطر أحدى المعلمات لأبعث نشوة العطر في تلميذاتها ..

غير أنني خشيت ان تصاب بالرعب، وهي تشاهده، وهي تقفز بين اصابعي بدماء حارة ..

توجهت الى حديقة المدرسة.. وعند نخلة باسقة زرعتها هناك.. صليت عليها وذهبت حاملاً أصابعي التي بت أخجل من وجودها.. أخجل مني وأنا احملها.. أحملها من دون أن احمي علماً.. يعد رمز الوطن الذي انتمي اليه وأعد نفسي فداءّ له..!!

كان مصابي يفوق احتمالي.. كانت جملة نكبات تحاصرني.. فأنا الرجل الوحيد في المدرسة.. وانا مؤتمن على حراسة التلميذات والملاك التدريسي والمبنى و.. والعلم.. العلم وها أنا.. أنا الرجل الوحيد قد إنكسر حضوره ..

ولم يعد لوجوده وجود ..

جررت اصابع اقدامي التي لم تعد تقوى على حملي، مطاطيء الرأس.. خجل مني ومن كل من في مدرسة المنار الابتدائية ..

وكلما كنت اقترب من بيتي.. أحس أنني أتراجع وأن بي رغبة للعودة من حيث أتيت ..

كانت أصابع الست باسمة تثقل عليّ.. والرعب يحاصرني.. حتى وجدتني أسقط في مكان لا أدرية.. ولا يدري أحد مكان هذا الذي سقط رعباً وانكساراً ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى