محمد علوان جبر - ذاكرة البرونز

* الى قاسم الساجت ... وفاء

ضوء خجول يخترق الافق الرصاصي ، وتغمر الشاطىء المقفر وحشة رطبة تلامس دبق الهواء ، كان البحر يحفر علامات على الصخور، الحفرة الصغيرة امامها وفي المدى المختنق برائحة البحر لمحت طيورا بيضا تقترب ، كانت مجموعة نوارس شكلت نقاطا بيضا على سجادة الرمل الفسيحة ، اصابعها في الرمل الطري المشبع بالماء ، يتطاير الماء المالح ويشكل ستارة عالية باطوال متفاوتة سرعان ماتهمد ويمتصها الرمل ، اخرجت من حقيبتها كرات من الطين الاحمر والشمع ، ودعكتها مع كرات من الرمل الندي ، شكل الخليط كتلة بنية لدنة ، استسلمت الكتلة الى السكين ... اناملها الدقيقة جعلت دفقة حياة واهنة تلوح من الطين ، كانت السكين تجوس في ثنايا الجسد ، جسد فتي برز وسط وحشة الشاطىء ثم تلاه ظهور تفاصيل الوجه والرأس ، الجبهة العريضة ، الانف الطويل ، الفم المحدد الزوايا

•- لم يبق سوى الدرع .....

رددتها مع نفسها.... اضفى الدرع على فتوة الفارس فتنة طاغية ، وبعد ان تفحصته لمرات عديدة ومن جميع الزوايا ، وضعته في اعلى الحفرة .....

•- انه يشبهه تماما .. التمثال البرونزي الصغير الذي كانت تملكه ،

فارس يمسح الافق بنظرة قاسية مجردة .. حركة اليد باتجاه السيف تؤكد انه يريد ان يشهره ، استمر الخليط المتجانس يصرخ فيها .. اناملها تدعك كرات الشمع والطين الاحمر والرمل الندي .. ومن اعماق الصمت والوحدة في الشاطىء المقفر برز جسد لانثى ، ازاحت ببطء الطين والرمل عن تفاصيل الجسد الانثوي الجميل الذي اقترب قليلا من الفارس ، الوجه انها تعرفه ، كانت لحظة سريعة ، قفز فيها الزمن بسرعة خرافية من المرآة الصغيرة ، حيث كانت تتسمر لساعات امامها ، اختفى جسد المرأة الفارسة خلف درع، كانت المرأة تتخذ وضعية التأهب ايضا وتمسح الافق الرصاصي بنظرة تائهة ، وبحركات رشيقة عجنت الكثير من الكرات الطينية الحمراء مع الرمل الندي و صنعت حول الجسدين اللذان يكادان ان يلتصقا بعد ان قربتهما من بعضهما البعض لمرات عديدة ، غابة من السيوف والفخاخ التي حاول الفارسان ان يعبراها باصرار عجيب ،حينها غمدت في صدر الفتاة سيفا ، لكنها حينما تعالى صراخ الناس في الغرفة الصغيرة ، عدلت عن موت الفارسة ، واستبعدت كذلك ان يموت الفتى ، اخرجت السيف من صدر الفتاة بهدوء ...

•- حتى لاتتألم ..

كانت الدائرة مزدحمة بعشرات المراجعين ، حينما دخل المحامي الشاب ، كان يرتدي سترة رمادية ، نظراته زائغة وسط الزحام ، فتحت ملفا بعد ان ارتدت نظاراتها ، يقترب الفارس قليلا من الفتاة ، يضع يده على الجرح ، ومن الفجوات الصغيرة التي تتيحها الرؤوس ، لمحت ابتسامته ، يقترب منها ، وتطيل النظر فيه قبل ان تشهق ..... ( هل من المعقول ان يكون هو .... فارس البرونز .. بلادرع ، يرتدي سترة رمادية ..؟ )

كانت متوحدة مع فارس البرونز ، لم تسمع صوت الموج وهو ينقر الصخور ، وتلاشت الاصوات في الغرفة ، قال لها وهو يقدم لها فارس البرونز ....

•- تفضلي ..... انه فارس لاينقصه الا حصان وزوجة !

قالت بعفوية جعلت جدها يختنق بضحكة طويلة .......

•- ساشتري له ياجدي حصانا وسأكون زوجته ...

ضحك جدها كثيرا ، كان هذا قبل ..... اه .. كم .. ؟ عشرين عاما او اكثر ، انها تتذكر دخول الفارس البرونزي الى فراشها لمرات كثيرة، كانا يتوحدان بعفوية ، تماما كالكتلة التي امامها اذ يتوحد الطين الاحمر اللدن مع الرمل الندي .



نزعت نظارتها وركنت مجموعة من الاوراق جانبا ... انفه .. انها تستطيع ان ترسمه وهي مغمضة العينين .. فمه .. استدارة الجبين العريض ، وتلك النظرة تعرفها جيدا ، كم رسمتها باشكال عديدة ، هاهما العينان ذاتهما تحدقان فيها مباشرة ، او تتطلعان بتيه في المدى ...

•- ارجوك تفحصي الاوراق لان المعاملة .........

لماذا لايناديها باسمها ، لااتذكر اننا افترقنا يوما منذ عشرين عاما ، ثم لماذا هذه الابتسامة ...؟

•- من اين انت ....؟

•- ....................

•- من تكون .. ؟

•- ....................

طمرت الحفرة بالملح ، ونزعت من الفارس سترة الرماد ، ارتدت نظارتها مرة اخرى وطلبت من المحامي الشاب الجلوس على الكرسي الفارغ بجوارها .....

•- كم بحثت عنك ايها البرونز الجميل ، وكم بحثت لك - دون جدوى - عن حصان ملائم ، وحينما يئست علقتك على صدري بدبوس من فضة .

كانت السترة الرمادية غامقة جدا ، هزت رأسها ، كانها توصلت الى قرار مهم ،ودون ان تستأذن المحامي الشاب ، دست تحت السترة الرمادية الدرع والسيف ، كانت حركة الفارسين تنبىء انهما كانا يحدقان في شيء محدد . استمر البحر يلامس الصخور على الشاطىء وكان الرذاذ ينتشر على مساحات اوسع موزعا الملح على رمل بدا يستحيل الى فرسان يلبسون دروعا تحت ستر غامقة .




محمد علوان جبر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى