فيصل عبد الحسن - فتاة‮ ‬يتخفّى بها الأخ الأكبر

عندما التقيت الفتاة التي صارت زوجك فيما بعد، أوهمتك أنها تقرأ كل ما تكتب، ولها محاولات في القصة والخاطرة والشعر بل ولها محاولات في كتابة اليوميات، وهي في الحقيقة تلقي بالطعم للمبدع لتستدرجه للزواج، ولم تنس أن تقول له أنها تهيم بأبطال قصصه، وهي في سرها تضحك منه، ومن أبطاله، ومن القراءة قاطبة بل هي كانت في حقيقة الأمر، كما صارحته بعد سنوات من الزواج متشفية به وبحمقه: تدوخ حين تضع عيناها على عنوان كتاب أو مانشيت في جريدة.

معتقدة أنها حين توهمه بهذه الأكاذيب، أنما هي تُمرِّضُ مريضاً، وعليها أن تكسب قلبه، وأن مريضها مرضه غير معد، ويمكن إذا صبرت عليه، وعالجته بأساليبها الأنثوية تستطيع أن تصنع منه ما تريد، فهي ستعده رجلاً مطيعاً باحثاً لها في الأسواق عن حليب الطير، وعن آخر صرعة للتنورات، وقصات الشعر، وتعده خبيراً بحمل النساء وولادتهن، حتى يصيرصاحبنا المبدع في نهاية عمره حمالاً يحمل فوق ظهره ما ثقل وزنه وارتفع سعره.

وبعدما صار ذلك المبدع زوجاً وأباً سيكتشف أن القصص التي كتبتها الزوجة، كانت مجرد خدعة، والقصائد التي دبجتها أيام الخطوبة كانت مسروقة من كتابات غير مشهورة لنزار قباني، والخواطر منحولة من مجلات قديمة، وبعدما اكتشف اسرارها في الإيقاع به، صارت الزوجة تناصب الكتابة العداء معتبرة أن كل عاهات المجتمع تنبع من عادة الكتابة وقراءة الكتب والجرائد. وان من أسباب بؤسها أن زوجها كاتب من الكتاب .. وبينها وبين نفسها تلوم نفسها أنها كانت تظن نفسها صياداً ماهراً قبل الزواج سيصطاد، فاكتشفت أنها كانت طريدة، وأن الزوج الذي كانت تظن أنها وقعت عليه في مسابقة للحظ نصيب قادها إليه سوء طالعها، وانها بزواجها منه شربت اكبر مقلب في حياتها، وخسرت كل ما تملك من شباب وأنوثة وراحة بال كانت تعيشها في بيت أهلها.

ولو كانت محظوظة لوقعت على زوج تاجر، كزوج أختها، فهو كل يوم في بلاد، ومن كل قطر يجلب لأختها هدية، وفي كل مناسبة يعطيها عطية، وليس كزوجها الهائم بعالم الورق المطبوع والباحث عن المجد الكاذب.

العقيد بوندينا

زوجها المبدع لا يجد فرصة إلا وذكرها بامرأة، اسمها مرسيدس هي زوج ماركيز صاحب رواية مئة عام من العزلة، وكيف كانت تلك الزوجة الحانية تقضي مع زوجها ليالي باريس الباردة، وهما يحرقان أوراق الجرائد لتدفئتهما، فهما لا يملكان قطع النقود اللازمة لوضعها في عداد فرن المدفئة لتدفىء شقتهما الباردة. وماركيز وقتها لا يزال يكتب الفصول الأولى من روايته مئة عام من العزلة، التي ستفوز فيما بعد بجائزة نوبل، تقول مارسيدس في مذكراتها في الأيام الأخيرة التي كان فيها ماركيز يوشك على أكمال مئة عام من العزلة، كنت اقرأ كل ما يكتبه ماركيز فصلاً فصلاً واعده على الطابعة وعرفت أنه يعاني كثيراً لأنه يوشك على إنهاء حياة العقيد بوندينا أحد أبطال القصة، وعندما رأيت في إحدى الليالي عينيه حمراوتين خمنت أنهما كذلك بسبب البكاء، وأن العقيد بوندينا قد مات …. هكذا تكون زوجة الكاتب وإلا فلا.. وربما بسبب أن مارسيدس ومثيلاتها قليلات في وطننا، فإن كتابنا سيبقون يؤرخون لكتاباتهم، كتابة قبل الزواج وكتابة بعده، ولن ينسى الكاتب الحر في وقت قريب، والذي اقترن بامرأة: جميلة أو قبيحة شاطرة أو غير شاطرة ، مثقفة أو أمية، وهو معارض لنظام حكومة بلاده، أنه محظوظ حقاً، إذ أن العراقي كائن من كان لا يمكنه أن يعثر دائماً على الزوجة المختارة إلا نادراً.

إذ في دول تحكمها دكتاتوريات، فالحديث سيطول، فهذه الحكومات تتدخل في حياة الإنسان منذ الولادة، وحتى الموت، فهي التي تختار له نوع الحياة التي يحياها، وطولها وعرضها أيضاً، وهي تختار حتى نوعية الميتة التي ينبغي عليك أن تمتها، لتكن مواطناً صالحاً.

ذبح الخروف

أتذكر ما كان يعلنه التلفزيون العراقي في العقود الأربعة الماضية عن أرقى الميتات: الموت في حب الرئيس، الموت في الخطوط الأمامية في حروب عبثية مع هذه الدولة الجارة أو تلك، الموت دعساً بالسيارات، وأنت تركض أمام سيارته لتسلم له عريضة تظلم، وأرقى انواع الميتات، كما كنت اعتقد هي أن تموت عاشقاً ولهاناً، بعيداً عمن أحببتها اعتزازاً، وتخليداً لقوانين البلاد وأمنه السري، فقد كانت الدولة تفرض الورقة الأمنية “العذرية السياسية لها ولأهلها ” والتي يجب أن تتوفر لمن تنوي الزواج بها إذا كنت عسكرياً، وما أقل المدنيين في ذلك الزمن، الذي تمت فيه عسكرة البلاد، وكانت هذه الورقة تمر عبر الممر الأمني، والأستخباراتي ابتداء من المحلة، وحتى القصبة والمدينة والمحافظة، وصولاً إلى مكان الخدمة الذي تعمل فيه. أنت مواطن صالح، ملتزم بقضايا الحزب الحاكم، مخلص للوطن، وينبغي لمن تريد الزواج منها أن تشبهك في الولاء، مواطنة صالحة ليس لها علاقة باحزاب اليمين أو اليسار غير حزب الدولة، وأن لا يكون لأبيها أو لأخيها، وعمها وخالها وخالتها علاقة من قريب أو بعيد بأي سياسي معارض للنظام. فإذا كان ما يثبت تلك العلاقة رد طلبك مذيلاً بالرفض طالبين منك أن تبحث عن غيرها، وان تبدل صواميل قلبك ومحركه وشغافه ليتجه باتجاه آخر بحثاً عن فتاة أخرى عسى ولعل ينبض القلب بحب جديد، وتعاود الكرة من جديد، وتكرر تمرير طلبك بالزواج من الفتاة الجديدة، وهكذا حتى تحصل على موافقة أمن الحكومة على الفتاة المختارة، وعندها تعلن الجواب وتنقر الطبول وتهز الدفوف، وتذبح الخروف !

الأخ الأكبر

لكنك في الصباح ستلتفت لتجد قريباً منك بعد ليلة العرس، وعلى وسادة الفراش، حيزبون، تنقصها الشوارب لتصير رجلاً ! وقد لطخت وجهها الأصباغ، تخاف أن تتأفف قربها لئلا تدخلك السجن بتقرير منها، وتهرش رأسك ولا تعرف كيف وافقت على الاقتران بهكذا مصيبة، ومن قادك إليها، وأنت لم يجبرك على هذا الفعل غير الاستعجال في اكمال نصف الدين، واتباع المبدأ السيء الصيت: طير في اليد خيراً من عشرة فوق الشجرة. والمشكلة الحقيقية عندما تكون صاحب رأي وموقف، ولا يهمك رأي الأخ الأكبر – حسب رواية الروائي جورج أورويل في روايته المشهورة 1984 – الذي يراقب كل شيء تقوم به، ويحاسب على كل شيء لا يروقه، ويدير الدولة بيد من حديد، ولا تأخذه بالناس شفقة ولا رحمة..

المشكلة الحقيقية كانت في العراق عندما تكون كاتباً مستقلاً في بلاد الأخ الكبير، ماذا ستصنع في أخص خصوصياتك: الحب والزواج، وقد شاء حظ صديقك المبدع أن يقع في حب واحدة في السنة الثانية من كلية الآداب، وكان وقتها في السنة الأولى في كلية الحقوق، فبادلته الفتاة حباً بحب، وعاطفة مشبوبة بمثلها حتى ظن أنه أمسك بنجوم السماء.

وذات يوم جاءته الفتاة مستنفرة، وقد تحولت إلى لبوة، ولم يدهش حين اخبرته أن مبادئ حزبها، الذي تنتمي إليه لا يجيز لها علاقة حب مع من كان مستقلاً مثله، وغير مضمون الولاء والوطنية لأفكار حزبها، ولم تفد كل دعاويه في الحرية وأفكار التحرر التي طرحها على تلك اللبوة الشرسة، فعرضت عليه عرضها الأخير، أما الأنتماء للحزب نفسه أو الفراق، وفي النهاية افترقا خصمين.

وما أشد ألم الفراق على طالب صغير في السنة الأولى من حياته الجامعية، مرهف القلب والمشاعر يرقص لحفيف فراشة، ويذرف الدموع عندما يسمع تغريد بلبل، ويبدو أن وشايات الرقيب الأمني وصلت إلى تلك الحبيبة، فتم المقسوم وصار المقدر، ومن أغرب الأمور أن تلك المناضلة ارتضت بعد فترة قصيرة أن تقترن بخليجي يكبرها بالسن كثيراً، ولم يكن مناضلاً في حزبها ولا رفيقاً، إنما أخذها إلى بلاده لتنعم في الرخاء وفي فراش النعام، كما يقولون وليس النعيم، لأنه كان متزوجاً غيرها، ولم يكن لذلك الكاتب إلا القول بالرفاء والبنين يا حبيبتي، ومرحباً بفتاة يتخفى بها الأخ الأكبر! ويدخل من خلالها البيوت من أوسع أبوابها، فتصير هي عين الأخ الأكبر ولسانه، وسلطته الخفية، وهذه قصة من قصص كثيرة عن زيجات مبدعين في بلادنا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى