إيلاف القيسي - عيناك غابتا نخيل.. قصة قصيرة

مضى يوم تقريباً وجواد لم يتصل أو حتى يرسل رسالة ،حاولت الاتصال به مرات عديدة ،فلم يكن جوالهِ إلا مغلقاً!

حاولت أن تتذكر إذا ماحصل بينهما أي خلاف أو مشكلة ،فلم يكن سوى الخير بينهما،بل على العكس كانا في غاية الروعة حتى المكالمة الأخيرة لم يتوقف جواد عن المزاح والكلام الجميل !

قررت الاتصال بعائلتهِ وتسأل عنه؟

أخبرتها والدتهُ حينها ،بإنه سافر خارج البلاد ،ولا تعرف أين تحديداً !

صعقت أيهان بمجرد سـماعها الخبر!!

سافر؟ أين؟ ولماذ؟ وكيف؟ هل كل شيء على مايرام ؟ أجابت والدتهُ كل شيء على مايرام وكأنها تحاول أن تمنعها من السؤال مجددا”.. لم تسأل هي الأخرى تجنباً لاحراجها.، استغربت من عدم اخبارها خبر كهذا!!

ألتقتْ أخته الكبرى والتي كانت قريبة منه ،وسألتها عن سبب سفره المفاجئ،ولماذا لم يخبرها بالرغم من كونها خطيبته!!

فلم تضف أخته على كلام والدتهُ شيئاً، إلا أنه قد سافر من أجل عمل أو شيء كهذا .وكأنهما اتفقتا على الاجابة بنفس الطريقة.

عادت أيهان للبيت ،والريبة والقلق يستوطنها ،شعرت بالضعف والحيرة ، مازالت حائرة أمام دهشة الخبر!

من عادة جواد أن يتصل بها مرتين على الأقل يومياً،عدا الرسائل النصية التي يتبادلانها.

ومن عادتهما يخبران بعضهما بكل تفاصيل حياتهما ،لأنهم كما كان يقول ” واحد”.

مرة يوم ،يومان ،أسبوع وأسبوعان ،لم يتصل جواد ولم يرسل حتى أي رسالة يبين أسباب سفرهِ المفاجئ أو حتى يعتذر .بين يوم وآخر كانت حريصة على الاتصال بعائلته ،لتعلم هل من مستجدات ؟! لكن والدته لاتضف على كلامها جديد سوى أنه لم يتصل ولم يرسل شيئاً!

قررت ايهان بأن لاتعاود الاتصال مجدداً وإذا ماحصل شيء ،مؤكد سيخبرها بذلك ؛ رغم أنها على يقين بأنهم يعلمون الكثير عنهُ.

ذات مطر عزفت قطراته لحنٌ شجي على النوافذ،زاد من حزنها الصامت والمكبوت،وزاد من حنينها المتوهج كشمعة في ظلمة الليل ..

رفعت ستائر الغرفة ،نظرت من النافذة ،كانت الشوارع شبه مقفرة ،والباعة الجوالون يهمون بالرحيل وعلى وجوهم علامات حزن لامست قلبها المهجور كمدينة كانت معمورة بأهلها.أسدلت الستائر وعادت إلى عتمتها ،كما وعادت الأسئلة والأفكار تحوم حولها ،التي استحالت إلى سرب من الذكريات المهاجرة من الماضي لتحط في حاضرها ..

” فراشتي صاحبة الأجنحة السود المطعمة بالأزرق السماوي” كان يسميها ..كيف به أن يترك فراشته لتفترسها الأسئلة والأفكار والغموض المرافق لهما!!؟

لثوان خطت ابتسامة مكسورة على شفتيها ،حالما تذكرت كيف كان يكتب لها أبياتاً شعرية ،أحياناً تكون غير متناسقة في المعنى والكلام .بالنسبة ِ لها كانت تعشق مايكتبه ،مفضلة إياه على شاعر الحب و المرأة نزار قباني،لأن مايكتبه يخصها وحدها ،مكتوب بقلم حبره خليط من المشاعر النقية والبوح الصادق .كلمات مطرزة بأبجدية الحب ،بألوان قوس قزح ،تفصلها فوارز توحي بالحب الخالد.

تمتمت لنفسها مما كتب لها:

“عيناكِ وظلمتي لا فرق بينهما ..إلا أن عيناك ِ بحرٌ أغرق بهما ” بعد أيام يلقي على مسامعها نفس الكلمات بصيغة أخرى ” عيناكِ وظلمتي لافرق بينهما إلا بالغرق”

تضحك وعيناها تلمع حزناً على رجلها الغائب والحاضر معها ،تتنهد بحزن ،واخرجت من بين شفتيها قصيدة من كلمتين” حقاً أشتاقك”.

من بين سرب الذكريات المهاجرة لمدينة الذكريات ،تحط ذكرى اللقاء الأول أو بالأصح الحوار الأول بينهما على شجرة حبهما ،حينها اعترفَ لها باعجابه بها !..

حينما حضرت ذات قدر المحاضرة متأخرة ،طالعت المقاعد من حولها ،كانت جميعها مشغولة،عدا مقعداً في نهاية القاعة الدراسية من الجهة اليمنى ،يجالسه شاب طويل القامة ،جميل الملامح .شقت طريقها من بين المقاعد لتجالس حضرتهُ .لم تقل كلمة ، لأجل أن تصب تركيزها على محاضرة الرواية لتأخرها والتي كانت تحت عنوان الكبرياء والتحمل..

في كل مرة يطرح الأستاذ سؤالاً يخص المحاضرة ،كانت هي سباقة باستعدادها للإجابة ..فجأة!

طرح الاستاذ سؤالاً وطلب من جواد الإجابة.

جواد!!

لماذا ليلي متحاملة على دارسي؟

لم يجب جواد على السؤال ،وتمتم بكلمات توحي بأنه لا يعلم !

غضب الأستاذ حينها وطالعهُ بنظرات غضب حادة ،فضحكت هي بصوت خافت ،رمقها هو بنظرة غضب باردة ..

بعد انتهاء المحاضرة ،ناولها قصاصة ورقية

سألته لمن ؟

أجاب : انها لك ِسقطت من سجلكِ بينما كنت تضحكين لأني لم أجب ،أخذتها ،وجدت مكتوباً فيها :

لطالما تمنيت الأقتراب منكِ ! وها انتِ تجالسيني الأن ، أتمني حقا” أن تتأخري كل يوم لحضور المحاضرة ؛كي تجالسيني ،وفي كل مرة سأخطئ الإجابة ؛ كي أسمع سمفونية تصب على مسامعي من شفتيك ،وكأنها أغنية لفيروز ،ينقصها فنجان قهوة كي يكتمل الصباح، جلوسكِ بقربي يسعدني ،كي أطالع بحراً في وجهكِ،على ضفافهما غابات نخل ” عيناكِ وكأنهما غابتا نخيل ٍساعة السحر”

طالعته مندهشة!!!..فوجدت مقعده خالياً ،يبدو أنه غادر بينما هي تقرأ..هنا كانت البداية.

عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعة السحر أو شرفتان راح ينأي عنهما القمر…في لحظة أشتياق بطعم الضياع ،غطت الغابتين سحب محملة بالمطر ،قادمة من أرض الفراق،مروراً بالاشتياق ،لتحط رحالها في أرض الدهشة المستوطنة بالخوف والحزن!

ما أن برق الرعد ،هطل المطر بشدة دون مراعاة خديها الحمراوين من حدة المطر وقساوته.

مضى على سفر جواد شهر لا اتصال ولامرسال ،ولا أجوبة لأسئلة متروكة على رف الانتظار!

وفي جوف قلبها عتاب لغائب أوصد باب طائرته بإحكام بعد أن همَ بالصعود ،تاركاً خلفه من لايطيق الفراق !

ايلاف القيسي – بغداد


* عن الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى