حمدان عطية - النهر الجديد

أري في تدفق الحشود علي أرصفة المترو؛ احتدام العناصر تحت الأرض، تفجر الينابيع الحالمة بالجريان، احتشاد النمل لنقل كنوز مخبوءة، ومن قلب هذه الحشود الفوارة عبر الجهات الأربع؛ أراها تتابع رقصها الأبدي نحو اللانهائي.
وعلي حين بغتة، ضرب نيزك هائج حافة الأرض، فاختل إيقاع الرقص، ففتح في جدار المترو ممرا هرب منه المسافرون فزعين، فراعهم وادٍ من النمل الأبيض، يَجِدُّ في إصلاح ما تحطم من أبنية للتو فرغ من إقامتها؛ جماعات تمضي مسرعة لإحضار القطع المتناثرة، وتعيد رصّها، وجماعات تنظف آثار الضربة المباغتة، وأخري ترمم تماثيل نضالها عبر الأجيال، وحركة دءوب لم تتوقف لندب، أو أسي؛ إنها تعمل، وتعرف أن بتلات الأزهار ستذبل مع نهاية اليوم!
ذُهل المسافرون وأحسوا بالخجل؛ كيف نتدافع هكذا؟! لقد حدث ما حدث؛ لنفهم الأمر، ونتدارك، عادوا إلي الأرصفة فوجدوا ماءً يجري فوق القضبان، وأسماكا تلعب عكس الاتجاه فانخرطوا في الضحك، ارتفاع الماء يزيد بسرعة عجيبة حتي قارب الأرصفة، قفز بعضهم وعبر إلي الجهة الأخري، وآخرون محرومون من منظر الماء الجاري، قفزوا يلهون، والسلطات تنادي عبر أجهزة الإذاعة: لا داعي للقلق والذعر، الأمور تحت السيطرة، نحاول الآن فتح ممرات المياه إلي باطن الأرض، فتضحك الأرض؛ كيف سأعاود الرقص أيها البلهاء، لقد مال جانبي!
تحول المترو في لمح البصر إلي حمام سباحة طويل، كل المسافرين الذين صعدوا، أخبروا ذويهم، جاء الصبية وأبناء المناطق الشعبية، يتوقون للخروج من أماكنهم الضيقة، يقتلهم الصخب علي مهل، وعوادم السيارات، لا شيء أخضر يصافح عيونهم الذابلة، جاءوا إلي النهر الوليد، فهو نهر نموذجي، بكر، لم تعكر صفوه قاذورات المراكب الثابتة ولا السيارة، ولم تعبث به يد بَعدُ، ماؤه أزرق بلون السماء الصافية، ذو شواطئ آمنة، حتي إن بعض النسوة الفقيرات فكّرن في إقامة مرعي قريب، وأخريات في إقامة ملهي ليلي، لكن الرجال مالوا لإقامة فيلات تطل شرفاتها علي النهر الجديد! ليعبوا صدورهم بهواء طازج يمحو ما تراكم عليها من سنين العتمة، الريح تصفر في الأعالي، والتراب الخفيف يغطي الشوارع والناس تتسابق في الهبوط، يقيمون منازلهم الخشبية علي جانبي النهر، جاءت السلطات بخبرائها ومهندسيها لدراسة الأمر، الجموع تتوالي، والتحكم فيهم صار ضعيفا، تتبع الخبراء مصدر المياه؛ لقد كان خلف آخر محطة للمترو جبل، حين اصطدم النيزك الهائل أطاح به؛ فانكشف عن نهر عظيم، تتسلل منه فروع كثيرة جهة البحر، لكن الإطاحة المفاجئة أطبقت عليها جميعا، فانقلب المجري بقوته المتوحشة جهة المترو، أطاح بمتاريسه وتشققت حوائطه، لتشق المياه لها مسارا بفعل الضغط، راحت ينابيعه تتسرب ببطء تحت العمارات الموجودة علي جانبيه أعلي السطح، فتخلي السلطات سكانها وتعلو بالشواطئ، زادت المياه وسطعت الشمس عليها متلألئة والقادمون من المناطق الشعبية احتلوا واجهة المدينة!



* عن اخبار الادب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى