محمد محمود غدية - تضع الزهور بقبري

تلوح له كالحلم‏..‏ كالطيف‏..‏ كنسمة منعشة‏..‏ كالفرح المباغت‏..‏ طيبة وطيعة ورقيقة‏..‏ تغمره بالحنان‏..‏ تغرس الزهور في حدائق أيامه‏..‏ ما أسرع انتشارها في نفسه‏..‏ مثل العبق في ليالي البهجة‏..‏
يحلو له الهرب من صخب العمل والمسئوليات الملقاة علي عاتقه‏..‏ يتمدد ويتمطي‏..‏ يدخل حيث الأمسيات الهامسة‏..‏ يشرب أشعة القمر ويرتوي بالضوء‏..‏ بعد أن تكاثفت العتمة في صدره‏..‏ في غياب الحلم وطيفها المنعش‏..‏ وهي المسافرة في دمه‏..‏ يتجرع حزنه بترفع‏..‏ ويذبل لكن بشموخ‏..‏ صدره حقيبة مغلقة علي قلب متوثب ينبض بالحب‏..‏ مفتاحه يرقد في أعماق نهر بلا قرار‏..‏ دخلت مكتبه بلا استئذان‏..‏ تسبقها ابتسامة تذيب الجليد وتنشر الارتياح‏..‏ وتبلسم الجراح‏..‏ إنها المرأة الحلم‏..‏ وقف مدهوشا أمام هذه الثنائية الفريدة‏..‏ ضوء النهار الباهر‏..‏ والقمر الزاهر‏..‏ كيف تحقق لهما الاجتماع في واحدة‏..‏ القلم في يده يسرع تارة ويتردد تارة أخري‏..‏ ويتوقف أحيانا‏..‏ ثم يعود فيسرع مرة أخري‏..‏ حالة من الفوضي انتابته‏..‏ أصابته بصحو مفاجئ‏..‏ حاول الإمساك باللحظة الفارقة التي أربكت التقويم في بوصلة أيامه‏..‏ ترك القلم والمكتب‏..‏ وأخذ يسير في اللا مكان‏..‏ وفي اللا أمام‏..‏ وفي اللاخلف‏..‏ تري متي عبر ذلك الحلم‏..‏ في الصبح أم في المساء‏..‏ حلقه جاف‏..‏ بحره دون ماء‏..‏ تسللت في دعة وهدوء إلي أعماقه‏..‏ تملأ بحاره وتروي عطشه‏..‏ حبات ملح تلمغ فوق شفتيها الممتلئتين‏..‏ يرقبها بعناية‏..‏ عيناها مفعمتان بحزن غامض‏..‏ يتعذر وصفه‏..‏ تدور عيناه تمسح اللاشيء‏..‏ لابد لها من استكمال باقي الأوراق التي تقدمت بها إليه في الغد‏..‏ أي قوي جعلت عيناها تتكلمان رغم صمتهما‏..‏ شفتاها تهمس فتوحيان‏..‏ وتومئ فتبسمان‏..‏ وتفكر فتشردان‏..‏ أعياه غيابها للغد‏.‏
تشققت مسامه لدفقة حنان من يدها‏..‏ وحدها أشعلت الانطفاء‏..‏ وفجرت خمود البركان‏..‏ مثل شمس تغمر حجرة معتمة‏..‏ سطع وجهها‏..‏ فتح الأبواب والنوافذ طاردا الليل‏..‏ ليطل الصبح‏..‏ ما أجمل الشمس حين تشرق لكل البشر‏..‏ صافية من الشوائب‏..‏ تشيع الدفء للجميع‏..‏ مما لا شك فيه أن نظرته هذه المتفائلة جديدة‏..‏ وهو من استنزفه الضجر والملل‏..‏ حتي ابتسامته أصبحت نضرة وطيبة‏..‏ لها ميكانيكية كما في السابق‏.‏
في الصباح‏..‏ ارتدي حلل الأناقة والصفاء‏..‏ تسبقها لغة شاعرية رقيقة رقيقة‏..‏ غير مسبوقة‏..‏ وهو يصافحها‏..‏ نبهته إلي كفها المحتبسة طويلا بين كفه‏..‏
قالت‏:‏ سأتكلم رغم أنك لم تطالبني بالكلام‏..‏
قال‏:‏ أنا من يعتذر‏..‏ لأنني كنت في محراب عينيك‏..‏ والكلام يفسد التأمل‏..‏
قالت‏:‏ الحزن الذي تراه بعيني سببه أن اليوم يوافق الذكري السنوية لوفاة والدي‏..‏ كان لي بمثابة الدنيا كلها‏..‏ سألها ان كان يمكنه التقدم لخطبتها‏..‏ أجابت بفرح موافقه‏..‏ في الطريق‏..‏ استأذنته لشراء باقة من الزهور لتضعها علي قبر والدها‏..‏ اقتربت بينهما المسافات‏..‏ لملمت مشاعره‏..‏ فكت شفرات قلبه‏..‏ يعتذر عن كل يوم فارغ منها‏..‏ وكل لحظة لم تكتحل عيناه بمرآها‏..‏ تزوجا ورفرفت عليهما السعادة بمولودتهما الأولي‏..‏ التي سعد بها كثيرا‏..‏ واسماها علي اسم والدتها‏..‏
قالت الأم‏:‏ كان نفسي أجيب لك الولد‏..!!‏
قال‏:‏ أردتها ابنة لتكون مثلك طيبة‏..‏ وبارة بوالديها‏..‏ تضع الزهور بقبري‏.‏


محمد محمود غدية‏/‏ المحلة الكبري


نشر في الأهرام المسائي يوم 29 - 01 - 2012

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى