الآخرون

كان الجو شديد الحرارة .. والقاهرة تكوى بشمس أغسطس .. وكنت تعبا جائعا ومحطم الأعصاب .. فملت إلى محل صغير فى حى قصر النيل .. كنت أعرف أن منصور الطويل يجلس فيه فى مثل هذه الساعة .. ولكن عندما دخلت المحل لم أجده فاستأت ولكنى شعرت بالراحة فى الهواء المرطوب .. وكان التعب قد نال منى فجلست وطلبت فنجانا من القهوة .. وكان الجرسونات فى المحل أكثر من الرواد .. ووجوههم الكئيبة المنفرة أكثر الأشياء قبحا .. وزادت الحرارة فى الخارج .. فازدحم المكان بالرجال والنساء حتى شغلت كل مقاعده ..
وكان أكثر الجالسين من الأجانب ومن الشبان المنعمين الذين لا يؤدون أى عمل على الاطلاق .. ومن الشيوخ الذين وضعتهم الحياة على الرف فجلسوا يدخنون ويحلمون أحلام اليقظة ..
وكانت حوادث لبنان هى التى تشغل السنة الناس وعناوين الصحف .. وكنت لا تعدم راكبا سقط من بيروت وجلس يروى للناس رواية شاهد عيان ..
***
ولما اقترب موعد الغداء خف رواد المحل .. وبقيت أتلقى اللهب الذى يهب من الباب الخارجى .. وجلست منكمشا وأنا أشعر بالخجل لأن بدلتى متسخة .. وقميصى على لحمى منذ أربعة أيام ..
وكان شعر ذقنى قد نبت بغزارة والعرق الممزوج بغبار الطريق يثير أعصابى .. وكنت أود أن أذهب إلى دورة المياه وأغسل وجهى ورأسى .. ولكنى عدلت عن هذه الفكرة بعد أن تبينت حماقتها فى مثل هذا المكان .. ولمحت التليفون بجوارى فطلبت منصور فى مكتبه ولكننى لم أجده .. فزاد يأسى .. وكان معى ورقة صغيرة بعشرة قروش .. هى كل ما بقى فى جيبى .. وكنت جائعا إلى حد الموت .. وأود أن آكل ولو قطعة من الحلوى ولكن كنت أعرف أن العشرة قروش لا تكفى لفنجان آخر من القهوة .. فى هذا المحل ..
وجلست أفكر فى الشخص الذى يمكن أن أذهب إليه ممن أعرفهم فى القاهرة خلاف منصور لأقترض منه جنيها آكل منه .. ثم أركب بالباقى القطار إلى طنطا ..
ثم رأيت أن أعدل عن هذه الفكرة كلية وأن أخرج بعد أن تخف الحرارة فى العصر وأركب سيارة مشتركة مع آخرين من محطة مصر .. وهناك فى طنطا يسهل على أن أعطى السائق أجرته ..
***
ولكن حدث ما جعلنى أبقى فى المكان أكثر مما قدرت .. فقد كانت الحرارة تزداد شدة ولهبا فى كل ساعة وخفت أن أخرج إلى الشارع وأنا على هذه الحال من الإعياء والجوع فأسقط فى الطريق .. وأعرض نفسى مرة أخرى لفضول الناس .. وكان الأمل فى دخول منصور من الباب لا يزال يراودنى ..
وجلست منكمشا أكثر وأنا أتغذى من طراوة الهواء .. وعيناى على الباب .. كأنى كنت أرقب منه النجدة فى كل لحظة ..
وازدحم المحل مرة أخرى .. وكان الصمت يخيم رغم الزحام .. ودخلت سيدة أجنبية طويلة العود فى قرابة الخمسين .. وكانت تبتسم ابتسامة رقيقة ورأيت فى نظرتها استرحاما .. يهز مشاعر النفس ..
أخذت تبحث بعينيها عمن يدعوها للجلوس .. ولم يكن هناك أى مقعد خال .. ولمحت مقعدا بجوارى حجبه عن الداخلين العمود القائم فى وسط القاعة وألقيت علىّ نظرة مودة ارتجفت لها .. وأحنت رأسها كأنها تستأذننى فى الجلوس فهززت رأسى فى أدب .. وجلست بجوارى وأنا أنظر إلى عينيها الفائضتين بأرق العواطف البشرية .. وبعد ثلاث دقائق كنا نتحدث بالفرنسية .. كأصدقاء ..
وكانت قد طلبت شكولاته مثلجة .. فأخذت أرقبها وهى تأكل .. فلاحظت أنها متأنقة فى ملبسها متعطرة .. وتحاول أن تخفى عن وجهها تجاعيد الزمن .. بكل الوسائل ولكن الكبر كان ظاهرا .. على وجهها .. وبقى الشباب .. والجمال فى فينيها .. وفى أسنانها .. وكانت تتحلى بعقد يتلألأ على صدرها العاجى .. وشعرت بالخجل وهى تنظر إلى قميصى المتسخ .. ولكنها كانت ضاحكة .. وعذبة الحديث .. فنسيت حالى واستغرقت معها فى حديث طويل .. واقترحت هى أن نخرج .. ونذهب إلى السينما ..
فقبضت بيدى على أنصاف القروش التى بقيت من حساب القهوة والتليفون وشعرت بالخجل ..
وحولت وجهى وهى تحاسب الجرسون .. وخرجنا سريعا .. إلى أقرب سينما .. ولم تكن الرواية ممتعة .. ولكننى استرحت وأنا معها فى هذا المكان المظلم .. المرطوب .. وكانت الشرفات خالية تقريبا .. وهذا جعلنى أحس براحة أكبر ..
ومع أنى لست من سكان القاهرة .. ولا يعرفنى منها أحد .. ولكننى شعرت بالخجل وأنا جالس بجوارها .. كما يجلس العشاق ..
وخشيت أن يكون قد لحظنى أحد وأنا داخل معها السينما .. ومع أنها كانت رقيقة المشاعر .. وارستقراطية المظهر .. ولكن صحبة عجوز ليست بالأمر الهين على شاب فى الثانية والعشرين .. وكان يزيدنى خجلا واضطرابا أنها دفعت تذاكر السينما .. وأحصيت ما فى جيبى فوجدته قرشا ونصف قرش .. وكنت أستطيع بهذا المبلغ أن آكل ساندوتشا شعبيا وأسد رمق الجوع .. ولكن كيف أفعل ذلك وهى فى صحبتى ..
وفى خلال الظلام .. عرفت أننى جئت من مدينة طنطا لأبحث عن عمل فى القاهرة وكان معى خطاب توصية لرجل من رجال الأعمال ..
وفى كل مرة كنت أحضر فيها إلى القاهرة .. كنت لا أجد الرجل .. كان دائما فى بيروت .. والمواصلات مقطوعة .. وفى هذه المرة وجدته .. ولكنه لم يكن فى المكتب .. فتركت إسمى وعنوان الفندق .. فى ورقة .. وضعها الفراش فى حجرته ..
وخرجت لأعود إليه فى اليوم التالى .. ولكننى قابلته على السلم .. وصعدت معه مرة أخرى إلى مكتبه .. ووعدنى بالعمل .. وتركته لأعود إليه بعد غد .. ولما وصلت الفندق فى الليل لأنام وجدت البوليس .. يبحث عنى .. وقبضوا علىّ وأنا مذهول .. وعلمت أن التاجر قتل بعد زيارتى له .. وسرقت كل نقوده من خزانته ..
ووجد البوليس .. إسمى وعنوان الفندق وهو يقلب فى أوراق القتيل .. وظللت فى الحبس .. أربعة أيام .. ولا يعرف أحد من أهلى أو أصحابى شيئا مما حدث لى فى هذه المدينة الكبيرة كالمحيط .. وهذا هو سبب جوعى وعذابى .. واتساخ ملابسى .. فقد أعطيت كل ما معى من نقود للعساكر وأنا فى الحبس .. ليأتونى بالسجاير والطعام .. وكنت أدفع فى الشىء الذى ثمنه قرشا واحدا عشرة قروش لكى يصل إلىّ ..
وسألتنى .. وقد صدقت كل حرف من كلامى :
ـ وكيف أطلقوا سراحك ..؟
ـ عرفوا القاتل منذ ساعات .. فأطلقونى فى الحال ..
ـ إنك سعيد الحظ .. لأنك خرجت سريعا ..
وتبسمت ..
ـ إن ما حدث لم يكن خطئى .. ولكنها أخطاء الآخرين .. وماذا نفعل .. لنتجنبها ..؟
فابتسمت ثانية برقة .. وقالت :
ـ لا يمكن أن نفعل شيئا إنها شىء واقع حتما .. مادامت الحياة .. ولا شك أنك تعذبت كثيرا .. ومررت بتجربة قاسية ..
ـ ولكننى نسيت عذابى وتعاستى الآن .. بعد أن التقيت بك ..
ـ هل أنت مسرور حقا ..؟
ـ ما أعظم سعادتى ..
وخرجنا من السينما ..
وكانت الساعة قد جاوزت السادسة مساء .. وكنا نقترب من بيتها ..
وعلى باب عمارة حديثة البناء .. دخلنا وصعدنا إلى الدور الثالث وعندما فتحت الباب ودخلنا شعرت بالراحة إذ لم يكن فى الشقة سوانا ..
وكان أول شىء فعلته أنها أخرجت لى قميصا مكويا ..
وتناولته ووضعته على لحمى .. دون تردد .. وأرتنى صورة المرحوم زوجها فى أحد الأركان .. وكان عجوزا .. وحدثتنى أنها كانت شابة فى العشرين عندما التقت به وتزوجته كرغبة أسرتها .. ومات بعد خمسة أعوام من الزواج .. ولم تتزوج بعده ..
وأدركت الحياة التى عاشتها فى خلال خمسة وعشرين سنة .. وكنت أود أن أقول لها :
ـ إن هذا ليس خطأك .. ولكنها أخطاء الآخرين ..
ولكنى عجزت عن الكلام من تأثير الجوع ..
***
وتعشينا .. وكنت أود أن أشرب بيرة مثلجة .. ولكنها سقتنى نبيذا أحمر .. وقالت لى أنها لا تشرب غيره .. فى الصيف والشتاء .. ولم يكن لى الخيار فى أى شىء ..
وعلى العشاء .. دخلت سيدة حلوة .. ولما رأتنى .. قالت :
ـ مساء الخير .. هل يضايقكم وجودى ..؟ يمكن أن أذهب إلى السينما فى حفلة السواريه ..
وقالت لها المدام برقة :
ـ لماذا يا مارى .. أجلسى .. وأشربى معنا .. إن السيد جنتلمان مهذب ..
وجلست .. وكانت مارى شابة رائعة الحسن .. ولقد اشتهيتها من أول نظرة .. وكان جسمها بديعا .. ولدنا .. وتبرز كل مفاتنها من تفصيل ثوبها الجميل .. وكانت تتحلى بجواهر زادتها جمالا وفتنة ..
وجلسنا نشرب أكثر من ساعة .. وكانت مارى لا تحول وجهها عنى ..
ثم لعبنا الورق .. وشربنا القهوة .. ولم أكن أعرف هل مارى قريبتها أو ساكنة معها أم ضيفة حلت عليها .. ولم يكن هذا يعنينى فى شىء وإنما حسبى أننى سأقضى الليل معهما .. ومن خلال حديثى معهما لم أجد فى رأسيهما أى شىء مما يشغل بال الناس عن الحياة والكفاح فى سبيل اللقمة .. فهما فى سعة من العيش ورغد .. ودائما تقضيان الصيف فى أوربا .. وكانت المدام تعتزم السفر هذا العام إلى جبال لبنان ولكن الحوادث منعتها من السفر ..
وكنت جائعا ومحروما .. ولم أجد أى شىء أعبر به عن حرمانى وجوعى .. أكثر من التطلع إليهما فى لذة ..
وكنت متحفظا جدا فى عواطفى مع الصغيرة .. وجعلت قلبى كله للكبيرة .. وكل أحاديثى .. وجلست الصغيرة صامتة .. ثم أخذت ترفع منافض السجاير .. وفناجين القهوة عن المائدة ..
***
دخلت المدام الحمام .. وتركت الباب مفتوحا ولاحظت أنها تغسل أسنانها بعناية وتعنى بها جدا ..
وأدركت لماذا تبدو أسنانها لؤلؤية ونضيرة ..
وخرجت حافية عاصبة شعرها ..
***
واستأذنت مارى .. لتنام .. وسألتها المدام :
ـ هل أغلقت الباب المؤدى إلى سلم الخدم جيدا ..؟
ـ سأغلقه ..
وخرجت من البهو .. وتركتنا ..
وسرت المدام لأن مارى .. تركتنا .. وجلسنا نتحدث حتى أحسسنا بأن مارى نامت ..
ودخلت مع المدام إلى غرفتها .. وجلست على كرسى طويل .. أدخن .. وقالت وهى جالسة أمام المرآة تتحلى وتتزين كأنها عروس .. تستقبل لأول مرة رجلها :
ـ هل أحببتنى ..؟
ـ بالطبع .. وإلا ما جئت معك .. إلى هنا ..
ـ وهل ستظل دائما تحبنى ..؟
ـ بالطبع .. وهذا لا يحتاج إلى سؤال ولكن ..
ـ ولكن ماذا ..؟
ـ ولكنى عاطل .. وأنا أبحث عن عمل .. لأعيش .. ولا يمكن أن يعيش الناس من الحب ..
ـ سأجد لك عملا من الغد ..
ـ كيف ..؟
سأفتح لك محلا للتجارة ..
ـ لا أقبل هذا ..
ـ لماذا .. ؟ ولماذا ذهبت .. إلى الرجل الذى حدثتنى عنه إذن ..؟
ـ ذهبت إليه ليوظفنى .. فى أعماله الكثيرة .. لأشتغل بعرقى .. وليس ليعطينى نقودا .. أو يفتح لى محلا .. أنا لا أقبل هذا ..
ـ إذن سأوظفك .. سأعطيك بطاقة وستذهب بها إلى قريب .. لزوجى .. يدير شركة كبيرة للدخان وسيوظفك فى الحال لأنك مصرى ومتعلم ..
واحمر وجهى .. وتذكرت .. أحاديث الناس .. عن الشبان الذين وظفتهم النساء وزاد خجلى .. ولاحظت اضطرابى فاقتربت منى .. وضمتنى إلى صدرها .. وهى تقول :
ـ لا تشغل بالك بشىء ..
ـ والآخرون ..
ـ إنهم سيبتعدون عنك إلى الأبد ..
ونسيت كل شىء .. ورحت أغمرها بالقبلات .. وكان فمها معطرا .. طيب النكهة ..
***
ونامت بعد ساعة .. وغفوت أنا مثلها .. وصحوت على حس مارى .. وحركة أقدامها داخل الشقة .. وكأننى تنبهت إلى شىء نسيته وأحسست بهزة وبرجفة الرجل .. وهو يسمع صوت الأنثى .. فجأة وهو فى قلب الصحراء ..
وذهبت إلى بابها حافيا وأنا لا أعرف القوة التى تحركنى .. فوجدتها فى قميص النوم .. وغرفتها مضاءة بنور خافت .. ولم تجفل لما رأتنى ..
وكان فى فمى سيجارة .. مطفية .. وأدركت أننى أود أن أشعلها ..
ونظرت إلىّ طويلا ثم قدمت لى الولاعة وقبل أن أشعل السيجارة أخرجتها من فمى .. ووضعت شفتيها مكانها ..
ثم انسابت فى خفة إلى غرفة المدام .. ونظرت فى داخلها ثم أغلقت عليها الباب ..
***
وعادت إلى أحضانى .. وشعرت بالفء والحنان وغلبنى النعاس فنمت فى فراشها قليلا .. ثم تركتها وعدت إلى مكانى فى غرفة المدام ..
واستيقظت فى الصباح على صراخ مفزع .. وكانت الشمس الحامية تملأ الغرفة ..
ولما خرجت وجدت مارى .. فى فراشها .. مخنوقة .. ودولابها مفتوحا .. ونظرت صامتا إلى الشىء الملقى على خطوات منى دون حراك .. ودون حس ..
وإلى الشىء الآخر .. الذى كان يصرخ .. وينظر إلىّ وعلى وجهه الرعب المجسم ..
ووجدت قميصى .. لا يزال على فراش مارى .. وكنت قد نسيته .. فى الليل وأنا بجوارها ..
وكانت المدام تنظر إليه بقسوة وعيناها لا تتحولان عنه .. وكأنها ترسم بعينيها موضع جسمى فى الفراش ..
فأدركت فى الحال سبب صراخها .. ولماذا تحاول أن تلصق بى التهمة .. وتجعل الحبل يلتف حول عنقى ..
أننى فعلت الشىء الذى طير لبها .. وكانت تغفر لى كل شىء .. إلا أن أتركها فى الليل .. وأذهب إلى أحضان امرأة أخرى ..
ولما جاء ضابط البوليس ورآنى .. قال فى زهو :
ـ هو أنت .. لن تفلت هذه المرة ..
وكنت أود أن أقول له .. أنه ليس أنا .. أيها الأحمق .. ولكنهم الآخرون .. ولكنى كنت على يقين أنه لن يفهم شيئا ..
وظللت صامتا حتى أخرجونى ووضعونى فى " البوكس " ..
وكانت المدام .. إلى آخر لحظة .. مثبتة بصرها على قميصى .. وهو ملقى هناك على فراش المرأة الأخرى .. وفى عينيها تحجر الدمع ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى