إبراهيم مكرم - البوابات

أردتُ العبور ، وبدا الأمر سهلاً. فما عليّ سوى تصنع الثبات وإظهار الشكيمة ، ولن يستوقفني أحد. ولا حتى حارس البوابة. سيعتقد الجميع بأنني رجل مهم ، ربما ضابط برتبة رفيعة.. وعلى الفور سينحني أحد العمال ملقياً تحيةً عسكرية ، وسيزعق آخر: (فسّحوا لجنابو) ويطلب مني مشاركته القهوة المسائية. لكن ، لابد لي وأن أتصرف فعلاً كسيد نبيل اعتاد رؤية هكذا مشاهد وسئمها ، سأتجاهل تحايا العمال وهم يتسابقون لنيل رضاي ، مساكين أزدريهم… وحينما أقف أمام حارس البوابة ، سأقطب له جبيني محدقا داخل أعماق سواد عينيه ، سأجعله يرتعد ويتخبط كجرو يتيم. ولن أخاف. وما إن يهم لقول شيء ، أي شيء ، سأربتُ بقوة على كتفه الأيسر. وأعبر البوابة وأنا مبتسم !
◆ ◆ ◆
لطالما كانت هنالك بوابات مجازية. في حياة أي واحد منا ، من خلالها يمكن تجاوز العقبات والولوج إلى العالم الأفضل.. هذه البوابات متنوعة ومختلفة في شكلها ومضمونها من كائن لآخر.. فقد تجسد معبراً حدودياً بين قُطرين متجاورين أحدهما آمن والثاني تفتك به الحروب الإثنية ، أو مطاراً جوياً بواسطته نرتحل إلى بلاد بعيدة تهبنا الغِنى والكرامة. قد تكون البوابات مجرد رجل تنتظره أنثاه العانس ، أو طفل يتمناه الأب العقيم ، أو حتى وظيفة. وما إن نقبل نحن ، بطيب خاطر ، مواجهة هذا التحدي.. ونصارع -من أجل عبورنا المنشود- الأقفال والمتاريس ، ونكافح شتى العوائق ، خالقين المستحيل ، عندها قد تنفتح لنا الأبواب الموصدة ونخطو للحياة الأفضل !
لكن الأمور لا تسير على هذا المنوال إلا نادراً ، بل لا تسير على الإطلاق عدا لشخص أو اثنين من أصل ملايين يقرعون الباب. وكأن الأبواب ما جعلت إلا لتغلق وتقرع. كلا ، ارجوكم لا تثرثروا عن أن “سوشيرو هوندا” نجح لأنه ثابر ، وأن “والت ديزني” صار “و. ديزني” لأنه لم يتنحَ عن حلمه قط ، وأن “ديفد ساندرز” رائد سلسلة مطاعم “كنتاكي” استطاع بعزيمته وإيمانه العميق تسطير تاريخ حافل… إطﻻقاً ، “فهوندا” لم يكن وحده الذي اجتهد إبان الحرب العالمية الثانية ، بل كل اليابان كانت كذلك. و “والت ديزني” التقى خلال مسيرته مئات الكركتيريست والرسامين البارعين المتحفزين ، فأين هم الآن؟! و حتى “د. ساندزر” الذي حمل خلطته السرية وجاب بها المطاعم ، ونجح.. لم يتعدَ فعله على الموضة السائدة آنذاك. وطباخون أمثال “جون ك. لويس” والشيف “آدم جورج” ومسيز “سارة مك. ويست” حذوا أبعد من صاحب “كنتاكي” ، وطافوا أكثر مما طاف. وفي الأخير لم يجنوا شيئاً يذكر. فلماذا إذن ينفتح الباب لهؤلاء دون آخرين؟!
أنا يمكنني إضافة آلاف قصص الفشل التي واظب أصحابها قرع الباب ، ولسبب ما ، ظل مغلقاً. ملايين من محاولاتهم الدؤوبة وغير الناجحة للعبور ، وما لا يحصى من الصبر.. وفي كل مرة لا أحد يأبه. ولكن ، لحظة أن يأتي الدور على إياهم ، الناجحون بالفطرة ، ينفتح الباب على مصراعيه ، ومن التجربة السابعة فقط أو أقل… هل تدرون لما ؟! أجبيبوني ؟!
بالنسبة لي كان المنفذ عبارة عن فاصل معنوي تؤول بعده الأحلام إلى الواقع ، وإن شئتَ فمن الممكن تخيله كممر يصل بين الإحباط والعزيمة ، الموت والحياة ، العدمية والكينونة… ولأنني مثل المئات حالمٌ بالعبور ، وممتلئ بأوهام التحليق والنجاح ، والخروج من كنف القوقعة.. فقد راودتني الفكرة وآمنتُ بها ، وقررت ، بلا سابق إنذار ، السفر للعالم الأفضل.
◆ ◆ ◆
البوابات شيءٌ عظيم ، ويكفي النظر إلى آثار “عشتار” لتفهم ذلك. وهذه التي تفصلني الآن عن كينونتي بذات الضخامة والتعقيد ، يتكدس أمامها أناس ككثبان الرمل ، ويحرسها جنود لا منتهين ، يمنعون العامة عن تخطي حواجزها. أنا سرت وسط جمهرة الجموع المحتشدة دون خوف ، حدثت نفسي عن الثقة والشجاعة ، وسردت حكايات للمسيح ، وظللتُ -لعشرات المرات- أردد في سري جملة: (أنا رجل مهم… أنا رجل مهم). وما إن صدقتُ كذبتي ذي حتى سرى الأمر كالسحر ، حيث بدأ الناس يوقرونني بأدب مفسحين لي الطريق.. واختفت من حولي رائحة العرق والأنفاس المشبعة بالبصل والثوم ، وحلت محلها التحايا وتملقات النساء اللاتي حلمن بواقع أجمل لفلذات أكبادهن ، وانهالت دعوات العشاء المفتوحة ، والمواعيد للقاءات التعارف. قلت : (لن أكترث) ، وواصلت الخطو نحو البوابة ، وعندما لم يفصلني سوى الحارس جاشت بي العواطف ، وغمرتني الفرحة ، وللحق.. اعتقدتُ أنني أخيراً سأعبر ، وأنني طلّقتُ الحزن والسراب ، طلاقا بائنا… قلت للحارس : (افتح ، الوضع هنا لا يطاق!) وعبستُ في وجهه باعثاً نظرة شذر تستحثه أن يسرع ، تماماً كما يفعل أصحاب المقامات. فما كان له إﻻ أن ارتبكَ كجرو بني يتيم وانصاع ، تعثر مرتين وهو يحاول أن يحمل عني الحقيبة. ولكن ، هل كان حذائي السبب أم نوع البارفان الرخيص ، حين واتت الحارس قليل شجاعة ، كافية ليسأل : (إعذرني يا باشا ، ولا حرج ، ومن باب الإجراءات الروتينية فقط.. من أجل الروتين.. أن تتكرم ، وتريني بطاقة هويتك؟)
◆ ◆ ◆
تُدعى “شنكل” ، وهو اسم غريب كي أطلقه على أنثى كلب.. ولكن ما من خيار ، فشنكل لا تستجيب إلا إليه ، ومهما حاولت معها ودربتها على أسامي أخرى كانت ترفض ذلك بعناد ، ومع مرور الزمن أجبرتني على المثول لرغبتها. كنتُ أحبها ، ومذ صغرها جعلتها بمثابة صديقي الوفي ، ونشأ بيننا شيء أخوي ، رابط من النوع الذي يدوم. وشيئاً فشيئاً شغلت كل حياتي ، ولم يعد بإمكاني الكلام من دون ذكر طرائفها ، أو النوم من دون أن أحلم بها وهي تركض وتهز ذيلها. وذلك ﻷنها الكائن الوحيد الذي قبلني لما كنت عليه ، بهويتي و عرقي ، وبلا مجاملات !
ما زلت أذكر جيداً يوم عبرت شنكل وتركتني ، كانت قد عانت من آلام المخاض وعسر الولادة ، فآثرت أن تطرق باباً ما لا أعرف له طريق… كانت مسجية على الأرض وتنظر جهتي بعينين باردتين ، ومن حولها تكور جراءها الثلاث ، ثم فجأة ، وهذا بالتحديد لصق بذاكرتي ، حاولت جاهدة لعق جرو. وأقسم ، حينما فعلت وخفت أنينها ، كأني سمعتها تقول: (من أجل الذي بيننا ، حافظ على الجراء)…
بعد موت شنكل أصبتُ بحالة من الإحباط الحاد ، ووجدتُ نفسي متورطاً مع ثلاثة كلاب بنية صغيرة بالكاد تستطيع النهوض.. كانت الجراء عمياء وخائفة ، وتطلّب الاعتناء بها مجهوداً جباراً ، لكنني في الأخير نجحت في جعلها تعيش ، وكم كنت سعيداً لذلك… عندها خلصت إلى حكمة مفادها : “مهما يكن ، وفقط إذا أردت أن تحيى.. فيجب وجود مساعدة ما” !
والآن ، لحظة سؤال حارس البوابة عن كنه هويتي.. لا أعرف لما انتابني شعور بأني واحد من تلك الجراء البنية اليتيمة ، الغارقة في الخوف ، والتي تنتظر يداً تضمها وترعاها لكي تعيش!
◆ ◆ ◆
مجدداً قال حارس البوابة ، بلباقة وحنكة ، لكن دون الحوجة لمقدمات: (أود رؤية هويتك يا سيد؟)
حسناً ، وحتى أقرب لكم الصورة.. إن سؤلاً كهذا يمكن أخذه على أنه طلبٌ لرؤيتك عارياً ، وهو ما لا يقبله أحد. فما العلاقة بين هويتي وعبور البوابة ؟! وهل إن ما كنت أنتمي لهوية جمعية معينة ، لنقل أنها الأقلية المرفوضة ، سوف لن يُسمح لي بالعبور ؟! أو العكس ؟! وما ذنبي إذاً والهويات تأتي بالولادة؟!
الهوية المجتمعية مصطلح معقد ، وقد لا يعني بالضرورة اﻻنتماء لطبقة ذات مستوى -ديني ، ثقافي ، فكري ، عرقي ، سياسي- مشترك.. وإنما يتعداه ليقسم الجماعات حسب “النفوذ” إلى جماعات ملكت السلطة والمال ، وأخرى لا تملك شيئاً تخضع لها.
لكن الحارس ما كان ليعي مثل هذا الكلام. قال ، وهذه المرة بلا أدب ، بعد أن تأكد من أنني لا أصلح لأن أكون رجلاً مُهِماً بهكذا حذاء: (أرني هويتك يا كلب!)
حسنا أنا لست بكلب ، نعم أحب الكلاب لكنني لست منها ، أنا فقط إنسان يود عبور حلم ، أنني لا أملك هوية تؤهلني للعبور ، لكنني لا أندرج تحت الكلاب ، أنا أعرفها جيداً وأعرف أيضاً من أكون ، إننا لا نتشابه ، حتى وأنا الآن أحس بالخوف ، كجرو بني ، لا نتشابه ، حتى وأنا الآن أضرب وأقتل وأنفى في التراب ، لا نتشابه ، حتى حين يرمقك الناس بجفاء ملقين أيدهم في الهواء ، ويتركك الأطفال ، لا نتشابه ، إنني لست كلباً مع الكلاب التي تنهش بعضها ، إنني فقط أود العبور.!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى