إبراهيم مكرم - أتْسِيدِي.. المَـوْتُ وُقـُوفاً!

1
القلوبُ الكبيرةُ:
لم تَكُ المسافةُ التي قطعتها “أتْسِيدِي” من مكانِ عملِها كخادمة منزلٍ ، إلى نهاية الشارعِ ، بالطويلة على الإطلاقِ ، لكنها ما إنْ انعطفتْ يساراً ، وسارتْ مِقدارَ خطوتين إضافيتين ، وتَنَهّدت بعضَ زفراتٍ بائساتٍ كماعزٍ يوشك على النفوقِ ، حتى انتبهت لحقيقة أنَّ التعبَ قد نال تماماً من حضرتِها.. وأنه فِعلاً ، بات من المُعْضِلِ على أي خادمة حبشية في سنِ الرابعة والعشرين ، وبكلِ هذا الغم على الكاهلِ ، مواصلة الضرب في الأرض.. فترنّحتْ في عينيها السماءُ والأشياءُ المحيطةُ ، وغابت من فورِها عن الوعي…!

في ذلك الصباح من شهر “طِرْ – يناير”2 ، حيث الشتاء مازال يُؤرِقُ ببرده سكينة العُشَّاق الحَيَارَى ، وحيث الشمس الناعسة بدت من غير دفءٍ أو شعاعٍ .. أقرب إلى لآلئِ العجائز ، وإلى الحد الذي جعل أخت “أتسيدي” الصُغرى عندما تملكتها نوبةَ سُّعَالِها الصباحي ، وهي تنظر صوب قرص الشمسِ المُعَلَّق ، تَذكُّرَ حكاوي الجدة القديمة ، فبصقتْ دماً أحمرَ وردي، وبكتْ أنيناً فاتراً سمعته كل الدنيا !
في ذاك الصباح، عندما استيقظتْ أتسيدي مبكرةً كحالِ كل يومٍ ، وعمدتْ بخشوعٍ إلى رسم عناية صليب يسوع بالماء على جبين أُختها “ونْشِيت” ، ليمنحها من قوة الحياة ما يكفي لتَنفُّس نهارِ يومٍ إضافي ، و صلَّتْ من أجلِها بالشرفِ المقدسِ للأم العذراء ، لتتعافى من معاناة داء السّلِّ ، وبجهد سفينةٍ غارقةٍ تحمل كل هموم العالمِ .. تضرَّعَت للمُخلِّص بأغنية أنشدتها بلغة “الأمهرنجا” .. بترنيمٍ دفّاقٍ وشدوٍ رقيقٍ .. أعجب الطيور والأولاد العُرَاة :
(أيُّها الرَّبُّ،
حينما أخشعُ إليكَ في سكينة..
وأتفكر فيكَ ، وفي قانون عدلكَ ..
تتجلّى لي الرحمةُ ،
فكيف لي أن أشكر ، كيف؟!)
ثم لسبب مبهمٍ ، انتفضتْ فزعةً ، شَرَعَتْ ترقُصُ بلا انقطاعٍ ، دارت دورتين ، ضحكت .. واستحضرت كل حياتها ، منذ أن كانوا أربعةَ رجالٍ وسبعَ فتياتٍ محشورين داخل عربة بوكس تحت المطر ، يتم تهريبهم من إقليم “غَامْبيلا”3 غَرْبيّ الهضبة إلى حدودِ السودان ، مقابل ألف “بِير”4 إثيوبي وأشياء أخرى لا تذكر، كالشرف .

**

تَمْتَمَتْ “ونشيت” لأختها بعد أن هَدَأَت نوباتُ السُّعَال : ( يا أتسيدي المسكينة، لا تخافي ، فأنا ميتة ميتة ، إن قدري لا محالة هو التَعَفُّن في بيت للإيجار .. لا تقلقي على أختك ، فهكذا طَمْأنَتني الجدة)
– فزجرتها أتسيدي مُغْتَضَبة: (بيسوع ما هذا الحديث ، ليتكِ تموتين وتريحينني من غباءكِ وغباء العجائز، فهل مزقنا كلاوينا وسكبنا الدم لأجل أن تموتي في بيت إيجار؟! رُحْمَاك يا إلهنا الأعلى، رُحْماك… فالبنت نسيت جنون “نِيقُوسِي” بالمرة)
– ضَحِكَتْ ونشيت من كل قلبِها الواهن ، كضوء نجمة خافتة ، وثرثرَتْ إلى السماء بخجلِ عشيقة: (حبيبي نيقوسي ، بعينيكَ الصغيرتين وصوتِكَ ، لا بشر عداكَ يسكنني .. نيقوسي الطاهر، لأجلكَ سأتنفس وأجمعُ المالَ ، وأرحل إليكَ في “أديس” ، لأقدم القهوة .. لكَ أنت فقط ، ولن أضطر لافتعال التبسم وتحمل غمزات أي رجل آخر سواكَ .. وسنغني الحبَ الذي تود)
– (هاه هاه هاه ، كم هو محظوظ ليسمع نهيقكِ وأنتِ تترنمين ، حتى اللحظة أنا أجهل إن كان نيقوسي مُغرماً بصوتكِ كما يدعي ، أم أسرته القهوة المسحورة ؟!)قالتْ أتسيدي ذلك ، وهزّت رأسها متوجعة مترجية، كمن يُواري في قلبه سرأً كبيرأً: (هيّا تعافي يا ونشيت، ليس من أجلي.. بل من أجل هذا المدعو نيقوسي.. المهم عندي أن تتعافي وتبدأي في الرقص والغناء) .

***


(5)
نيقوسي هبةُ الأحلام
وَقْتَمَا شاهدت الفتاتان نيقوسي ﻷولِ مرة ، يرتدي البِزَّةَ العسكرية ، يحمل في إحدى يديه بندقية متوسطة ، وفي الأخرى قِنِّينَة خمر ، ويسأل أين يقع بيت الجدة الفاضلة ، جدتهما ، أصابتهما البَلادَةُ والوُجُومُ .. ولم تستطيعا حتى أن تخبراه بأنّ عليه سلكَ الطريق المحازي لضفة نهر “البَارُو”6 ثم الانحناء عند أول شجرة مَانْجُو ضخمة إلى اليسار.. بل أشارتا على استحياء: اتبعنا !
حدث ذلك في خريف ” نِيْهَاس – أغسطس”7 قبل سنوات بعيدة، حيث كان قد عُيِّن نيقوسي جبرياً لقضاء خدمته الوطنية في “محمية غامبيلا للحيوان”8 ، ولأن الجدةَ الكبيرة هي أمه لأبيه ، فقد حضر طالباً مباركة البطن التي أنجبته… ولحظة رأت الجدةُ الفتاتين تهرولان صوبها دون أن تحمل أيّ منهما على رأسها إناء الماء ، وقبيل اشتعال غضبها وإطلاق السباب واللًّعَان .. ظهر شابٌ ما خلف البنتين كأنه حلمٌ قديم ، انحنى عند مدخل الباب ، ألقى التحيةَ بصوتِه الجهور ثم قال : (حفيدكِ يا أماه!)
في ما بعد، حين هدأت الجدةُ من نوبة البكاء واختلاط المشاعر، حكت للفتى والدموعُ تملأ خَدّيها: (سبحان الرب ، كم تشبه أباك الراحل ، لوهلة ظننت أن الزمن عاد بي عقوداً للوراء ، حين كان يجيء والدك فيُسلِّم عليَّ ، إنه مثلك يحمل لون القمح النَاضِج ، وتشوبه سُّمْرةَ الجبال وقت المطر ، له ذات طولكَ وبنيتكَ الرفيعة ، ونفس الوقار البادي من العيون والشفتين ، وحين قلت لي يا أماه ، حين رَدَّدْتها ، تذكرتُ ولدي الميت )وأطلقتِ الجدةُ تنهيدات وعويل، وبكتْ تحتضن حفيدها …
ومن يومها اعتاد نيقوسي أن يحضر إلى القرية كلما أُتيحت له الفرصة لذلك ، فقد أراد معرفةَ كل شيءٍ عن والدِه ، فمذ أنْ هربت به أمه وقت اشتعال الحربِ وهو يبحث عن هوية .. والآن هاهو يأتي -بعد أن وَلِفَ أيضاً سحر أتسيدي وأختها ونشيت – بلا انقطاع ، بل حتى حين انتهت سنوات خدمته العسكرية في محمية غامبيلا البرية ، أضحى يتردد في كل العطلِ والأعياد ، وبحججٍ واهية في معظم آحاد فصل الصيف . كان حقاً قد أدمن شربَ القهوة التي تعدها البنات ، ومسامرة حكاوي الجدة وأحاجيها الصادقة ، كانت الفتياتُ يجتمعن له مُفترشات النجيلَ الأخضرَ المُعَدَ لشربِ البُنِّ ، وهن يستمعن بإنصات إلى خطاباتِه الرسمية عن مدينة ” أديس أبابا “، وعن لياليها الصاخبة بالرقص والغناء… كن يضحكن ويتغامزن بغنجٍ:
(أووه نيقوسي هل تقسم بأن فتيات أديس، هن الأجمل في العالم ؟!)
(أووه بربك ، وهل هن رخيصات ومُمْتلَئات كالدجاج ؟!)
(أووه نيقوسي ، أَلاَ يجدن الرقص أيضاً، أوه أوه ذلك شنيع؟!)
كان نيقوسي يروي قصصه المعادة تلك بلا مللٍ ، حتى أن أغلب أطفال القرية صاروا يقلدون حركات يديه ونبرات صوته الفخيم … وفي اللحظة التي همست فيها الجدة داخل أُذْن نيقوسي بأن لابد له وأن يخطب أنثى .. فكر أولاً في سمو أتسيدي ورِفْعَتِها ، ثم عَدَلَ رأيه لأن الجدة الحكيمة أعلمته بذكاء ماكر ودون جرح للمشاعر ، بأنها محجوزة لأحد تجار غامبيلا أصحاب المزارع ، فقبِلَ خطبة ونشيت الصغرى على مضض ، ومع الزمن ، وبسحر الجدة الخفي ، الموضوع داخل فناجين القهوة ، أحسَّ أن ونشيت هي أحلى نساء الهضبة ، وأحلى من بنات أديس ، وأن القهوةَ بالبهارِ والتوابلِ من يديها ، الأطيبُ في كل الحبشة !
في حصادِ ” هِيدَار- نوفمبر”9 ، تزوجت أتسيدي من السيد ” إيبْرا جِيمْا ” الطاعن في السن ، صاحب مزارعِ القصب ودكاكينِ البُنِّ ، في حفلِ زواج مُترف ، وبدل بِضْع دجاجات وماعز وكلبين أجْرَبين ، بات لهم قطيع أبقار هو الأسمن في كل القرى ، وبدل طحن الحبوب يدوياً بالمَدَقِ الكبير، أضحوا يرقصون مع آلة الطحن بالبترول ، وأضحوا يصنعون طرقات ” الأنْجيرَا “10 بمرق “الزِغْنِي”11 في الأيام التي هي أيضاً ليستْ مناسبات .. لكن الجدةَ الكبيرة ، في يوم احتضارها ، بين كل إغْماءة وإفاقة ، كالذي فُضِحَ له القدر، رَطَنَتْ باللكنةِ الأمهرية القديمة ، وبحدتها الصدئة : (مسكينة ابنتنا أتسيدي ، ستشقى ، أولولولولوه ، بائسة ابنتنا ونشيت، ستتعفن وتمرض ، أولولولولوه ، مسكينة أتسيدي ، وبائسة ونشيت )
*******
(፫)12
سَنَةُ الحداد والرحيل
للحقِ كان عاماً قاسياً ذاك الذي ماتت فيه الجدة ، حتى أن السحابَ بدا رمادياً باهتاً وبلا مطرٍ … فبعد شهرين فقط من إنجاب أتسيدي لابنتها الأُولى ، حتى وجدت زوجها إيبرا جيما مذبوحاً ومعلقاً في السقيفة ، ولم يمضِ إسبوع آخر حتى ماتت ابنتها بالملاريا ، وبعدها بعدة أيام هرب نيقوسي خطيب أختها لاتهامه بالتَّوَاطُؤِ مع صيادين غير قانونين ، وحينما صادروا منها كل شيء في معارك الأهل والعشائر ، وخسرت الورثةَ ، وتم إقصائُها من تجمعات نساء إيبرا الميت ووصموها بجالبةِ الشُّؤم … شعرت أتسيدي بنفسها وحيدة أمام العذاب ، فركضت عارية إلى نهر البارو .. وألقت جسدها لتغرق كقربان ، ولكن قبل أن تموت ، وهي تتلوا صلوات يسوع : (تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ والثَّقِيلِي الأَحْمالِ ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ )13أنقذ حياتها صِبْيَة كانوا في الجوار، وأعادوها رغماً عنها إلى الحياة .
ظلت أتسيدي وأختها تائهتين في ليالي الجوع ، تقتاتان على الفُتَاتِ الذي يجود به أصدقاء الجدة القدامى ، وعلى الفضلات المُلقاة للبهائم .. حتى أن الذي كان يعرف وجهَ أتسيدي المكور ، وجسدها الممتلئ ، وشعرها الأسود الممتد إلى وسطها ، بات عليه الآن التَمْحيص والتروي ثلاث دقائق كاملة ليصرخ : (يا الله القدوس ، أيُّ عين شيطان تلك التي أصابتك ، وحولتك إلى عجفاء !)
**
مع المطرِ المستمر، وغِناء البوم النشاذ ، وصَرْصَرة الجنادب داخل بيوت القش ، تحت السقوف المحدبة وعلى دفءِ الدخان ، ونور الحب ، وصوم الأربعاء المبارك ، ظهر نيقوسي فجأة كالملائكة ، حاملاً معه ألف ” بير” من النقودِ ، وإذناً للخلاص من قيودِ جامبيلا ، ومع العناق الطويل بين نيقوسي و ونشيت ، والحب المستديم ، قال : (ستذهبان في صباح الغد إلى الحدود ، لقد هيأتُ لكما رحلة مع ” آدم حلفاوي ” مقابل الألف بيرو)
– فردت أتسيدي كأنها تعلم: (وأنت يا نيقوس ، ماذا عنكَ ؟)
– سكت نيقوسي ، قَبَّلَ خدَّ ونشيت وشفتيها ، وقرأ الأملَ المكتوب بين السحاب ، قال : (أنا لابد لي أن أرحل عن الأنظار، فعيون السلطات التي في كل مكانٍ تَعُدُّ العُدّةَ لإراقة دمي ، هه .. يلفقون لضابطٍ عسكري حر تهمة قتل أفيال وفهود ، بينما آلاف بني آدم يُصفون من أجل أمن الدولة. مسكينة هي الحبشة يا أتسيدي .. مسكينة هي بلاد الرب!)
وقُبيل صياح الديكة ، وبعد أن ودعت الفتاتان قبر الجدة بالدموع ، وناحتا على كل الأشياءِ المهمة التي ستصبح مجرد ذكريات ، وحزمتا حقائبَ الرحيل .. جاءَ آدم حلْفاوي بعربته البوكس ، المليئة بالوجوه المتشابهة في الأسى ، الطاعنة في الخوف ، والمتوجسة من الحياة ، والتي كأنْ ليس لها في القدر من نصيب !
– قال آدم حلفاوي بلهجة أمهرية ركيكة: (لكن نيقوس لم يخبرني أبداً بأنكما فتاتان … بكرامات سيدي “الحفيان” ، عليكن إحضار ألف بيرة إثيوبية أخرى)
– قالت أتسيدي : (أيها المُستغِلُ لضعفِ الحالمات ، من أين لنا بألفِ بيرة أخرى ؟! .. تباً لكَ إذا قصدت الشرف !)
– فقال ببرود : (لا أحب الناحلات .. لكن اتفقنا)
كانت حركةُ البوكس بطيئة تحت المطر، بين الانحدارات الوَعِرة إلى الأراضي المنخفضة ، كأنّه الهبوطُ الأزلي من الجنة ، والضيق الذي أصاب قلوب الجميع ، حتى آدم حلفاوي، أكد ذلك.. كان وداعاً للأطفال العُرَاة ، للقرودِ ولأسراب الطيور المزركشة ، لمعزوفات “البَقِينَا”14 ، ولدفوف “الكَابْرُو”15 ، وللرقصِ … وللجَنَّة !
*******
(፬)16
جَهَنّمُ الأُولَى
كما كان متفقاً، توقفت العربةُ عند مشارف مدينة القضارف على بعد كيلومتراتٍ فقط من الحدودِ … وبعد إضاءة الأنوار الأمامية للبوكس مرات معلومة ، وإطلاق صافرات البوقِ ، ظهرَ العميلُ “أبو شَقُوش” بادية على وجهه ضحكات صارمة ، تحدث قليلاً بلغة غريبة ، فهمت البنتان على الفور أنها العربيةُ. وحين قام شقوش بإعطاء حلفاوي رزمة من النقود ، وأخذ معه كل الإثيوبيين، علموا في قرارة أنفسهم بأنهم أسرى القدر .
القضارفُ مدينة ساحرة أيام الخريف يا أتسيدي ، تأخذ اللبَّ منكِ لخضرتها وجمال طبيعتها.. وستُذكِرُكِ جبالُها السوداءُ المطلةُ، عن غير قصدٍ، ارتفاعاتَ الهضبة الشاهقة . والخيرانُ الصغيرةُ العكرة .. والطيورُ المهاجرةُ فوق سحابِها ، ستبعث فيكِ أصواتَ الحنين ، وبيوتُ القش والقطاطي التي في كل مكانٍ، ستجعلُكِ تبكين .
كان معسكراً بسيطاً ذاك الذي بناه أبو شقوش ، به بعض مئاتٍ من الأحباش والإرتريين ، مكوناً مجتمعاً من المهاجرين غير الشرعيين ، يقوم فيه بتشغيل وإيجار الشباب والفتيات المفعمات ، باليوميةِ لملاكِ المزارع لحرث الأرض أو لحصادِها .. والبنات الأصغر سناً يتم توظيفهم بضمان من أبو شقوش كخادمات في بيوتِ المدينة بأجورٍ زهيدة ، والأخريات اللاتي لا يجد لهن عمل كان يُشغلهن في سوق القضارف لبيع الشاي وإعداد “الشيشة” ، على أن يتم اقتسام أجر كل ما جناه هؤلاء مناصفة مع أبو شقوش .. لكن الذي أثار سخط أتسيدي ، أن على الجميلات تحمل نزوات الرجال أينما حللنْ!
في الليل كانت الحبشةُ حاضرة بكل شيءٍ في معسكرِ أبوشقوش . الراديو يحملُ الأغاني للرقص ، الحبُ يبدأ ولا ينتهي ، الحكاوي القديمة تُقص، والرب يُدْعَى ويُعبَدُ .. والأخبارُ عن نيقوسي تصل تباعاً وسراً ، لكن الخرطوم كانت كخيالٍ بعيدٍ وأمنية أفضل .. يحلم ببلوغِها الجميع ، فكان كل الكلام يدور عن أُناسٍ صاروا أغنياء من أول شهر هناك ، وكيف استطاعت إحداهن العمل لدى أسرة غنية سمحتْ لها فيما بعد بالهجرةِ إلى الخليج . تحدثوا عن أن ثمنَ القهوة يعادلُ أضعاف ما هو عليه هنا ، وأن أجر عاملة قد يتخطى حتى أجر طبيب ، فجمعتْ أتسيدي وأختها كل الذي لديهما من مالٍ وعزمتا الهربَ والرحيلَ .
وفي تخوم الجنة الكاذبة، في دار مبني من الطين، يحتوى على غرفة ضيقة بلا أَسِرّة للنوم أو المَقِيلِ ، تفترشها أربع عشرة إثيوبية ، وحمام واحد سيء ، سكنت أتسيدي وأختها .
**
جَهَنّمُ الأُخرَى
أولُ يوم لأتسيدي في الخرطوم ، فضّلت فيه لبس “الزويا”17 البيضاء المنسوجة من النول ، والمطرزة بألوانِ قوسِ قزح على طولِ العنق والأكمام .. صفَّفَتْ شَعْرَهَا ضفائر دقيقة ومسحت غبرةَ وجهها بالماء .. وحدَّثتْ نفسها مباشرة في المرآة : (أتسيدي، رغم كل شيء، أنت جميلة) .
لم يكن صعباً على البنتين إيجادُ عمل بلا أوراق ثبوتية ، فونشيت وجدت نفسها تبيع القهوةَ داخل الأسواق الشعبية ، و أتسيدي رغم حاجز اللّغَة ، صارت تخدم في المنازل الفارهةِ وغير الفارهة. هما لم تَغْـنَيَا البَـتَّةَ ، لكنهما صَبَرتا على أيام الضيق ، التي تُطرد فيها أتسيدي من العملِ باتهامات السرقة، وتُسجن ونشيت بسبب المشاجرات على ثمن كوب شاي.. ويُفرج عن كلتيهما مقابل تنازلات لرجال الدرك . كانتا تواسيان إحداهما الأخرى ، بمودة ورحمة ، وتزيحان عن بعضهما ملمَّات الهَمِّ… وفي الأيام المُغايرة ، التي لم تكْنِزا فيها الثروة المزعومة أيضاً – لكنهما كانتا فرحتين على أيِّ حال- حيث تأتي الأخبار عن نيوقسي ، وأنه مُختبئ داخل “أديس أبابا” في تمام الصحة ، يقود جبهات النضال ، ويُمنِيهما بلقاءٍ قريبٍ .. كانتا تطبخان شطةَ “الدَلِيخ”18 لتقدمانها كهديةِ شكرٍ لكل المشردين ، وتتغنيان بأغاني “تدي آفرو”19 الثورية مع الرقص والتصفيقِ:
(الجنديُ بافالو -الثور- الأسود،
المسّرُوق من أفريقيا إلى ربوعِ العالم،
يُقاتل منذ المجيء .. من أجلِ روحه وروحنا،
فينهزم العالم، وننتصر !)20
*******
(፭)21
الحياةُ هي نَبْضُ القلُوب الحزينة
لعلّ أطولَ فترة قضتها أتسيدي تخدم في بيت، دون أن تُطرد، أو تَتْرُكَ العملَ من تلقاء نفسها جرّاء سوء المعاملة والتحرش ، هي السنتان الأخيرتان مع السيدة “قسمة” ، ورغم أن الغسلَ والكنسَ ، ومسحَ الأرضية مرتين في اليوم ، ومع إعداد الأكل ، وإحضار كل مستلزمات المنزل ، كان شاقاً ومُضْنياً مُقابل الأجر المتوسط ، إلا أنها كانت سعيدة بالعمل لدى السيدة “قسمة” والسيد “عبدالرؤوف ” . فقد كانا يسمحان لها بأن تتأخرَ في الآحادِ ما تشاء ، وفي أيامِ الصوم المقدس ، وأعياد يسوع ، كانا يهبانها العُطلَ .. وطفلتهما الوحيدة ، “أمل” ، التي هي بالتمام في عُمرِ ابنتها المتوفاة ، وبنفس الملامح والنحول ، والتي تبكي بشدة ، في كل آخر يوم لوداع الخادمة أتسيدي .. وتضحك مع الصباح لدى القُدُوم ، كانا لا يمنعانها مداعبتها طوال فترة الظهيرة.
… أبدا لم يتغيرْ جمالُ أتسيدي حينما باتت تلتفُ بالثوب السوداني المشجر، وتتحدث العاميةَ كأهل البلد ، ولم يتبدلْ شجنُ صوتها الأخاذ بترنيمها للأغاني العربية ، لكن كل الذين دَقَّقوا في التفاصيل ، وبحثوا عن سرِ هذا الجمال ، وجدوا الحزنَ الأبدي كامناً في الحروف والأنغام.
**
الموتُ هو صمتُ القلوب حاملة الأسرار
ماتَ نيقوسي في ثورة الضباط الأحرار ، في اليومِ السادس من شهرِ “بَاقُوم”22 الثالث عشر، وقبل أن تصل الأخبارُ عن موتِ المناضل ، أصابَتْ ونشيت نوباتُ سعالٍ وحُمَّى ، فقد كانت فِعلاً تسعلُ بألمٍ أشبه إلى إخراج الروح ِمن الجسد ، لكنها كانت فقط تبصقُ دماً وردياً كريهاً ، ثم ما أنْ تم تشخيصها بداء السل ، حتى وصلت الأخبار إلى أتسيدي عن أن نيقوس وهو يموت ظل يردد : (أحبكَ الله.. أحبكِ إثيوبيا.. أحبكِ ونشيت !)فإنعقدَ لسانُ أتسيدي، وعجزت ْعن إطلاع أختها بوفاة خطيبِها. وخبأتْ الخبرَ في قلبِها الحزين، وجافاها النوم .
وحينما قطعت المسافة من بيتِ السيدة قسمة إلى نهاية الشارعِ ، بعد أن طلبوا الاستغناء عن خدماتها بسبب معرفتهم لمرض أختها المعدي .. وتم حرمانها من ملاطفة “أمل عبد الرؤوف “، حينما قطعت تلك المسافة ، وانعطفت يساراً ، وهوت مغشيةً عليها .. كان جسدُها الممشوق ، الأسمر .. يتكئ على الحائط ، يُناجي رأفة المسيح ، أن رحماك .!
(تمت).


_________________________________
ملحق:
1 ، 5 ، 12 ، 16 ،21 : هو الرسم الشكلي للارقام الأمهرية بالترتيب العددي حتى الرقم خمسة.
2 ، 7 ، 9 ، 22 : الشهور وردت في النص حسب التقويم الديني الكنسي لإثيوبيا مع الإشارة للشهر المطابق من التقويم الميلادي في موضعه، عدا شهر باقوم الذي يعتبر نسيء أو مكمل للسنة وذلك لإحتوائه فقط على سبعة أيام.
3 : جامبيلا هي إحدى مناطق إثيوبيا التسع ، تقع في الجزء الغربي منها ، وتماماً مع حدود السودان والسودان الجنوبي.
4 : العملة الإثيوبية.
6 : يقطع نهر البارو بلدة جامبيلا متجهاً نحو الجنوب الغربي، لينتهي متبخراً في مستنقعات مشار ، والقليل منه فقط يصبح رافداً لنهر السوباط .
8 : هي إحدى المجموعات الطبيعية المهمة في إفريقيا.
10 ، 11 : الإنيجيرا فطائر خميرية إسفنجية تعد من دقيق التف أو الذرة. والزغني هو عبارة عن إدام يصنع غالباً من الدجاج، وكلاهما من الوجبات الوطنية في الحبشة .
13 : إنجيلُ متّى ، الإصحاحُ الحادي عشر.
14 ، 15 : الباقنا آلة مسيقية وترية ، الكابرو طبل إيقاعي له أحجام وأشكال مختلفة.
17 : زيٌّ إثيوبي تقليدي .
18 : خلطة من التوابل الحارة .
19 ، 20 : ” تدي” فنان إثيوبي عالمي يتغنى على إيقاع الريقي. والمقطع المذكور في النص هو من إحدى أغانيه ، وقد عُرِّب مباشرة من الامهرية عبر محمد سوفياي.



* نقلا عن الجيل الجديد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى