إبراهيم مكرم - عربجي الأحلام !

مات الحمارُ في الغدو الباكر ، وهذا بالتحديد هو أسوأ ما يمكن أن يحدث لصبي ” الكارو” .. أن ينفق حماره الرمادي ، وأن يتزامن ذلك مع شقشقة الطيور الأولى ؛ أي قبيل البدء بيوم عمل شاق ، وليس بعده !
فكر الصبي : (ياللفظاعة!) وزم شفتيه بغيظ ، وراح يحك شحمة أذنه اليسرى لتبدو البلاهة على محياة ، تساءل : (لماذا تسلم الحمير -الرمادية منها بالذات- أرواحها في الصباح .. بدل أن تؤديها في اﻷوقات التي هي أصلا معدة للموت؟!) تمعن : (كوقت القيلولة التي مضى فيها أبي !) وسكن وجهه دون تعابير توصله للإدراك الحسي ، ودون حتى أن يجد شيئاً يحمله على الصلاة أو مجرد الغفران…
لكن بعد ساعة ، عندما حركت نسمة هواء شعر الحمار وتخللته ، خالج الفتى الاضطراب ، وقدر أنه يجب الصفح عن “كج” . بالطبع ليس ﻷنه كان حماراً مطيعاً ، فهو أبداً لم يكن كذلك ؛ فحينما يضربه على ظهره ويناديه : هيي كج ، فالنسرع. يلبي نداءه بعجز … لكنه قرر العفو فقط ﻷن حماره الرمادي بدى لوهلة مختلفاً ، كأنه يحمل في دواخله روح حصان دؤوب . ولولا موته المبكر ، الآن ، قبيل أداءه لواجبه ، لأقسم بأن الذي قضى نحبه جواد أصيل !
في البدء .. نظر الصبي بتوجس نحو صفيحة السماء ، إلى المكان الذي من المفترض أن أرواح الموتى تحلق إليه ، صرخ مصلياً : (لماذا غبت عني يا كج وأنا في أمس الحاجة إليك؟) وظهرت نبرة صوته كأنها عتاب غليظ … وكما لو كان سيشرع في العويل ، ترقرقت عيناه بالدموع ، وأحس بصدره يطبق عليه ، وأنه حقاً على وشك أن يموت من شدة الأسى -وهذا أمر جائز لصبي لم يبلغ الحلم بعد . بيد أن شيئاً لم يحدث . فسرعان ما عاد الخواء إلى الولد ، وبدا فارغاً من أي اضطراب ، تماماً كعجوز ناضج يفهم في الماورائيات ولا يهزه فراق الأحبة !
قال: (لا بد أن هذه هي طبيعة الحمير ، أن تموت .. وأن تموت فقط في الوقت الذي نكون نحن في أشد الحوجة لوجودها !) ثم ابتسم عندما بللت دمعة ما خده الغض ، عزاها إلى التراب الذي دخل عينيه ، فمسحها ببطن كفه وهمهم : (أبي أيضاً مضى في وقت كنا نحتاج فيه إليه) ، وكمن أدرك السبب .. راح يومئ برأسه : (لذلك تقول أمي عنه حمار!)
بحذر تقدم الصبي صوب جسد كج النافق حتى كاد يلامس رأسه ، ركز بصره عند تلك القروح الملتهبة في مقدمة الأكتاف والظهر ، همس: (هذه قطعاً لا تجعل من الحمير تموت!). وبدأ يحرك يده بحنو فوق بطن الحمار ، مدركاً أنها ستنتفخ بسبب العفن بعد يومين ليس إلا… وفي اللحظة التي خيل إليه أنها تصعد وتهبط -مجرد خيال بفعل الهواء على صوف البطن- فزع .. فدار دورتين ليستا ذات مغزى ، حول الجسد الرمادي المكوم للجيفة ، ثم اتبعهما بعدة دورات للتأكد من أن كج ساكن ولا يدعي الموت. وفور أن تحقق ، خلص إلى أنه قد لا توجد فروقات واضحة بين حمار ميت وأخر غاط في النوم ، وأن كلا الحمارين إن تم استثارتهما سينهضان ويبدءان في العمل ! ولو أنه اﻵن نادى : (هييي، كـــج). ولوح بالسوط ، فإن حماره سيقف مباشرة على أرجله ويهم لشرب الماء والتبول . ومع ذلك ، وبمجرد أن لمح عيني الحمار الميتتين ، أدرك أن هذا ممكن ، في خياله فقط . فقد كانتا عينين جامدتين يحوم حولهما الذباب ، وأشعة الشمس الصباحية المنكسرة على شكل قوس قزح داخل سوادهما ، أكدت الموت. فتشكلت له الأحلام كشيء بال قديم ، وتكشفت له الحقيقة التي طالما أراد إنكارها ؛ أن خسارته بدأت قبل موت حماره كج بأمد طويل ، فالحمار كان سينفق على أي حال ، لكن الخسارة الأكيدة كانت منذ أن توفي أبوه!
يومها كان في سن السابعة ، بعد أن عاد من المدرسة – للمرة الأخيرة ، وجد أن أباه رحل. أولاً لم يصدق ، اعترض وجادل … لكنهم قالوا بفخر أن والده رجل طيب ، وأنه بعد أن أنهى توصيل نصف مؤونة ثقيلة بالكارو استلقى تحت ظل شجرة نخيل وابتسم ، وأنه ظل مبتسما هكذا حتى بعد أن واروه الثرى. هو لم يعِ معنى أن يقضي رجل طيب نحبه وهو يبتسم ، لكنه في اليوم التالي أكمل توصيل باقي المؤونة وتقاضى أجراً على ذلك… وبعد مضي خمسة أعوام ها هو حماره الأخر ، كج ، يبتسم!
تقرفص الصبي على مؤخرته بجانب الحمار ، ومسح له رأسه برفق: (لا ألومك على شيء يا كج ﻷنك مجرد حمار ، وإلا لبقيت معي لبضع سنوات أُخر) وأكد على أنه كان من المحتمل أن يقاوم الموت لو أنه كان أي شيء غير حمار ، وتنامى في داخله شعور نافر تجاه كج.. فما من سبب بائن يجعل الحمير تموت هكذا في الصباح وتنفق. نعم ، لقد كان يتعرض للضرب المبرح ، لكن ذلك فقط عند ارتقاء الطرقات الصعبة التي تحتاج إلى الحزم. وفي ما عدى الضرب بالسوط والهاراوة ، وعربة الكارو السيئة التي تجعل مركز القوة ظهر كج ، خلافاً للدواليب.. مما يجعل الحمار يعاني اﻷمرين في حمل ثقلها بدلاً عن سحبه ، مسببة له البثور والتقرحات. كان كل شيء على ما يرام.. فهو يملك إسماً صوتياً مبتكراً : (كج) ، ويأكل إلى ذلك كل يوم من أجود الكلأ ، وينظف ويحلق متى ما دعت الحاجة ، وحتى في مواسم اﻷعياد والعمل الشاق ، كان يمنح أوقاتاً للراحة والمقيل . وإن كان اﻷمر يقتصر على العربة ذات الدولابين الهرمين ، فإن الولد قد طمح ﻷن يجعل أجر الستة أشهر القادمة ، بعد استقطاع تكاليف علاج والدته ، ودفع الضريبة الشهرية لرجال الجبايات المخصصة لعربات الكارو ، وأيضا سد الديون المتراكمة منذ حياة أبيه.. أن يجعل المتبقي من ذلك كله ، لشراء عربة أفضل ، تكون خفيفة ولا تحتاج جهداً من كج لجرها. سيزينها بفرش موكيت جديد ، بني أو أخضر.. لا فرق ، وصندوق موسيقى ضخم يوضع داخله راديو الأغاني ، وسيكتب على مؤخرة العربة ، بخط عريض وواضح (عربجي الأحلام) لتضحك بغنج كل بنت تقرأها ، وتتراقص له مع لحن الموسيقى المختلط بنهيق كج !
ترجى الفتى وهو يضحك: (بربك أنهض يا كج ، ولا تحسب أن ذلك محال خلال ستة أشهر فقط.. فنحن سنعمل معا كثنائي ملتزم .. حسناً ، وسنقطتع من لحمينا لنوفر لك عربة أجمل. أوووه ستكون أنت الحصان المنشود ، وأنا سأصبح فارس أحلام السيدات!) وضرب فجأة على ظهر الحمار ليستحثه على النهيق ، وشده من أذنيه الطويلتين ، وأطلق همهمات تشجيع ، وصفر بصوت عال تردد صداه في المكان . لكن شيئاً لم يتحرك من كج سوى رائحة الوبر النتن ، وظل جسده الرمادي عابثاً للنداء ، ككومة قش تنتظر أن تفندها الريح .

دفن كج تحت شجرة نخيل ، ربما أسفل ذات النخلة التي مات عندها والد الصبي ، ونحت على الجزع بخط ركيك : “لن يجعل السرج المذهب من الحمير أحصنة”.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كج.. بالنوبية تعني حصان.


* منقول عن جيل جديد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى