نيكولاي غوميليوف - الأميرة زارا.. ترجمة: د. نوفل نيوف

- أحقاً أنت من قبيلة الزغاوة القريبة من بحيرة تشاد؟ سألت العجوز عندما صار رفيقها في السفر تحت ضوء القمر.
من غير أن يجيب، ردّ عنه القماش الذي كان يغطّي وجهه وصدره فانكشفت أمام العجوز عضلات عظيمة تحت جلد غامق لعربيّ مولود في أفريقيا. وانكشفت أيضاً علامة مقدّسة على جبينه لا تُمنَح إلا لرسُلٍ لهم شأن رفيع. فهدّأت ريبة أفكار العجوز.

- حسناً - غمغمت العجوز - أعرف أنه يمكن تصديقُ مَن هم مِن قبيلة الزغاوة. إنهم ليسوا على شاكلة شبابنا الزنجباريين الذين ما كنت لأقودهم إلى حرمة بيت الأميرة زارا. ماذا تعني لهم ابنة بيك عظيم؟ إنْ هي إلا بضاعة يحمِّلون بها سفنهم لإرسالها إلى القسطنطينية. أمّا أنت، فقد أريتَني التميمة التي جعلت قلبي العجوز يدقّ. فأنا أيضاً من بحيرة تشاد. بل وليراتك الذهبية أعلى رنيناً وأثقل وزناً من ليراتنا المصنوعة كلّها بأيدي المرابين في أورشليم.
لم يُجِب رفيق السفر بأيِّ كلمة. كان شاحبَ اللون، كأنّ فكرة طغت عليه. وانسلّ الاثنان يسيران بحذرٍ محاذاة جدار عبر باحة القصر الزنجباري المرصوفة ببلاط أبيض.
من مكان ما شديدِ القرب منهما، كان يترامى غامضاً هدير المحيط الغائب عن النظر، فيُسكِر بأنفاسه العليلة الهواء الراكد في الليل الاستوائي. وطفا ضوء القمر شعاعات فضية على ماء أحواض سوداء رقراقاً في قطرات تجمّدت على رُخام درجات السلّم الزهرية اللون. وتدلّت النجوم قريبة غاية القرب، وكانت كاذبة وواثقة مثل عينَي فتاة ارتكبتِ الخطيئة وتريد ستْر عارها. لماذا جاء إلى عالم هذا الثراء والذنوب ابنُ سهول فسيحة وأدغال خضراء، مقاتلٌ ممشوق القامة ذو قلادة من أنياب الأسود؟
لقد اختلطت الصفحات في كتاب القدَر منذ زمن بعيد، وما من أحد يعرف السبل العجيبة التي سيسلكها إلى موته.
ها هو يرتسم في السواد أمام أنظار المسافرَين قوسٌ وبابٌ صغير يفضي إلى النصف المخصص للفتيات من قصر الحريم. دقّتان متعارَفٌ عليهما بمطرقة بابٍ برونزية، وبريقُ بؤبؤَي زنجية شابّة، ويدخلان. كان ضوء المصباح باهتاً، ضارباً إلى الحمرة، ولكنه يتيح تَبيُّنَ الثراء الخرافي في السجاد الفارسي الذي يزيِن الجدران والأرض، والمقاعدَ المصنوعة من خشب الصندل المطعّم بالعاج، وما أُلقيَ اعتباطاً من آلات موسيقية ومن آيات القرآن الكريم المكتوبة على دروع ذهبية بطلاء المينا الأخضر.
ثابتةً وخفيفة تنتشر رائحة المِسك والعطور الهندية من جسد الأنثى الفتيّ. كانت الأميرة زارا ملتفّة كلّها بالحرير، جالسةً على تخت منخفض ووسيع. خُيِّلَ أنه ليس للحب، بل لشيء أسمى خُلِقت شفتاها الجامدتان، كأنما قُدّتا من عقيق، وقامتها الشديدة النحول، وعيناها البديعتان بنظرتهما الحزينة المُلغَزة. في يديها العاريتين حتى المرفق كانت ترنّ أساور ذهبية منقوشة، وكان قوسٌ ضيِّق يسند ما لخصلات شعرها من ثقل باذخ. أدرك الوافد الوسيم أنه لم يخطئ بالمجيء. انحنى، وبصوت يتقطّع من الاضطراب، طلب إلى الأميرة أن تُبعِد النساء لأنه لا يستطيع إلا على انفراد أن يبوح لها بسره العظيم الذي جاء به من بحيرات يغطيها الدُّخان والوديان الخطيرة إلى زنجِبار. لم تُجِب زارا بشيء، إلا أن العجوز تعجّلت وهي توحي للعبدة بالخروج خلفها.
- لا تخافي شيئاً، يا طفلتي، ـ قالت للأميرة همساً، ـ إنه لن يؤذيك. يمكن أن تصدِّقي أبناء قبيلة الزغاوة.
واختفت النذلة وهي تطمئنها بغمزات وحمحمات، وتبعتها الزنجية مثل كلبة طائعة. فبقي الوافد وزارا وحيدين.
ـ من أنت؟ ـ سألته زارا بصوت خفيض، خفيض إلى حدّ لا يسمح للمرء بأكثرَ من أن يخمِّن جمال صوتها ورنينه، ـ من أنت ولأي غاية جئت؟
فارتعش، وأجابها الوافد الطويل القامة:
ـ أنا من قبيلة الزغاوة، من بحيرة تشاد العظيمة والمقدسة. أنا الابن الأصغر لشيخ القبيلة، يَعدّونني قويّاً بين الأقوياء، وشجاعاً بين الشجعان. في المعارك الليلية، انتصرت مراراً على أُسودٍ ذهبيّة اللبدة تزأر، كانت الفهود الفتّاكة ما إن تسمع وقْع خطواتي حتى تلوذ بالفِرار فزعاً. والصبايا السمراوات من القبائل الغريبة، كنّ غير مرّة ينشجنَ بصوت عالٍ فوق جثث من قتلتُهم بيدي. وذات مرة لم يكن قرْعُ طبول الحرب ما يدوِّي في السهل، فقد اجتمع أبناء قبيلة الزغاوة على هضبة ورسم الكاهن العظيم على جبيني علامة الرسول وأشار لي إلى الطريق. فاتّبعت مجرى نهر شاري حتى بلغت منطقة نيام- نيام التي يقطنها أُناسٌ قِصار القامة بَشِعون يلتهمون بعضَهم بعضاً ويعبدون إلهاً يعيش في حجَر أسوَد. لقد ملأ الضباب السامُّ في أوكيرويِ جسدي بالحمّى، وبالقرب من نْغِزة انتصرت على أفعى ضخمة، وتعقّبني أهالي بياز أربعين يوماً إلى أن ظهر لي، أخيراً، إلى يساري بريق ثلوج كليمَنجارو الفضية. واكتمل الهلال بدراً ثماني مرّات قبل أن أصل إلى زنجبار.
تنفّس الوافد الطويل القامة بعمق، فيما كانت زارا صامتة واكتفت بنظرة بسيطة ومتعَبة تسأله:
ـ لأيِّ غاية؟
فأردف:
ـ تؤمن قبيلة الزغاوة بالنبي، والنبي لطيف بها. لقد مّنَّ عليها بسعادة عجيبة. ففي غاباتنا تعيش العذراء الطاهرة التي هي أحَبُّ مَن خلقَ الله، بهجة الناس ومجدهم. إنها من حيث طبيعتها واحدة وإلهية معاً، لا تموت ولكنها تتخلّى أحياناً عن جِلدها السابق وتتخذ هيئة أخرى بين تجمّعات بشرية فقيرة، وحينها يدلّنا الكاهن العظيم أين يمكننا أن نبحث عنها. فيذهب في طلبها من كان الأفضل بين أبناء القبيلة ليبيِّن لها رسالتها السامية ويمضي بها إلى مملكة سهوب الزمرّد وأوقات الغروب القاني. هناك تعيش في عزلة سعيدة. لا يمكن لأحد أن يراها إلا مصادفة. ولكننا نصلّي لها، لتلك الخفيّة عن الأنظار، دليلاً على الكرامة الأسمى التي يحظى بها المؤمنون في جنّات الله. لأنه إذا ما كان الرجال أقوياء وتُقاة، والزوجات بديعات ووفيّات، فإن العذارى وحدهنّ من يتمتّعن بأجنحة واسعة لها بياض الثلج، وإن كانت عيون أهل الدنيا لا تلحظها. صوتُهنّ مثل نغم العود في أيدي الشعراء القُدامى، نظراتهن صافية مثل ماء النبع الذي روى غليل النبيّ حين هاجر. إنهنّ أرفع شأناً من الحوريات وأسمى من الملائكة، كأنهنّ أرواح في سابع حلقات جنّات النعيم.
ومن جديد عاد الوافد إلى الصمت، ولم تُجِب زارا، إلا أن نظرتها غدت غامضةً وكتيمة مثل تلك النجوم التي تضيء للوافد الطريق. ولأنه كان مفتوناً بفكرته العظيمة لم يلحظ هذا العربي الجميل شيئاً، فتابع:
ـ أنتِ، يا من تسمين نفسك الأميرة زارا، إليكِ أشار الآن الكاهن العظيم. أنتِ عذراءُ الغاباتِ الطاهرةُ، وإني أدعوكِ إلى أملاكك. إن جَملاً خفيف الخُطا، من سلالة الملوك، له وبَرٌ حريريّ وأبيضُ مثل الحليب، ينتظرنا بفارغ الصبر، مربوطاً إلى نخلة. سوف ننطلق مثل طيرين عبر الغابات والسهوب، وفي قوارب طويلة سريعة سوف نعبر أنهاراً مزبِدة إلى أن تتألّق زرقة المياه المقدّسة في بحيرة تشاد. على ضفّتها يوجد وادٍ محرّم على البشر. هناك بساتين من باسقات النخيل العريضة السعف، ثمارها الناضجة البرتقالية اللون تتلاصق محيطة بغدران فضّية يفوح منها عبق البنفسج ونبات الصبّار المُسكِر. هناك الشمس رقيقة حنون، لا تنفث القيظ، يمتزج بريقُها بعذوبة الرياح. هناك النحل من ذهبٍ غامق يحطُ على ورودٍ أبدع من مناديل الملوك الغابرين. كل شيء هناك، الشمس والورود والهواء، يتكلّم ويحلم بكِ. ستسكنين كهفاً جميلاً من المرمر، وشلالاتٍ تتراقص مثل الخيل ستبهج نظراتك الهادئة، وستغدق الرمال الذهبية قبلاتها على ساقيك الرشيقتين، وستبتسمين للقواقع العجيبة الأشكال. وحين يجيء سرب الزرافات وقتَ الغروب ليشرب، ستداعبين حرير جلودها المهيبة البذخ، وفيما ينعمن بالمداعبة، سيتأمّلن عينيك الطافحتين بالإعجاب.
هكذا سوف تعيشين إلى أن تملّي مسرات سحر السعادة وترغبي، على غِرار شمس المساء، بالمضيِّ للبحث عن مسرّات سحر جدية. وعندئذ تجتمع القبيلة الجبّارة على قرع الطبول من جديد، ومن جديد يدلّ الكاهن العظيم من هو جدير إلى المكان الذي يمكن أن يجدك فيه متجسِّدة شخصية جديدة. لقد تكرّر هذا مراراً، وسيكرر مراراً خلال آلاف السنين. غير أن علينا الآن أن نسرع... فقد لامس القمر البيضوي في هبوطه الذي لا يتغيّر غابةَ المنغوليا، وقريباً ستشرق الشمس الفتيّة فوق المحيط الورديّ. أسرعي قبل أن ينهض من النوم خدم البيك العظيم. الذهب الرنّان سيُقفِل بإحكامٍ شفتَي المرأة العجوز، وإلا فإن قبيلة الزغاوة خبيرة في فنّ امتشاق الخنجر.
ختم الوافد حديثه ومدَّ يده إلى زارا آملاً. كان السكون والنوم سائدين في قصر الحريم، وما من شيء إلا المحيط ينشر هديره وراء الجدار، وطائرٌ مجهول ومضطرب يزعق حزيناً. نهضت الأميرة زارا بطيئة، مرِنة مثل ليلكة وصوَّبت إلى العربيّ نظرتها الغامضة. ثم تماوجت كلماتها هادئة وغريبة:
ـ لقد تكلَّمت جيّداً، أيّها الوافد، ولكني لا أعرف ما تكلّمتَ عنه. لئن كنتُ قد أعجبتُك، وأنت تريد أن تداعبني فإني سأُلبّي رغباتك عن طيب خاطر. إنك أجمل من ذلك الأوروبيّ الذي دفع ذهباً قبل قليل للوصول إلى هذا المكان من قصر الحريم. غير أنه لم يقل لي أيّ شيء. واكتفى بأن يبتسم ويعانقني كيفما شاء. لقد وقفتُ أمامه مثل سمكة اشتراها، واستحليتُ مرارة مداعباته، وبكيتُ حين رحل. والآن، أنت مَن يقف أمامي، إن شئت سأكون لك.
ثم أزاحت القماش الحريريّ عن صدرها قليلاً، وأسبلت جفنها ووقفت تنتظر.
بعينين جنّنهما العذاب، نظر إليها الوافد الفارع الطول. ها هي إذاً عذراءُ الغاباتِ الطاهرةُ التي صلّى لها حياته كلّها، ولها كان يصلّى آباؤه وأجداده! ها هي، ذليلة ولا تعي عارها. على شفتيها بسمة آثمة! تداخل في دماغه برقُ أفكارٍ أحمر، وبرجله المفلطحة داس على قلبه أحدٌ ما كأنه غولٌ منتصر. ما السهول الفسيحة، ما أيّام الصيد المرِحة، وأفراح المجد، ما ذلك كلّه بالمقارنة مع الألم اللاإنسانيِّ الذي أهاج روحه؟! مصادفةً تلمس اليد خنجراً قاطعاً. طعنة ثابتةٌ نجلاء في الصدر، وتهاوى المحارب القويّ ساقطاً على وجهه متخبِّطاً يتدفّق دمه الساخن على السجّاد الفارسيّ الثمين.
جامدةً، غيرَ قادرة بعدُ على فهم ما حدث، وقفت زارا الهيفاء القدِّ مستندة إلى الجدار المنقوش بالرسوم. فخورةً بجمالها لم تكن ترغب إلا بالتأكّد ممّا إذا كان حسنُ سيبقى عصيّاً على الزوال حتّى في الذل، فهي لم تفهم معنى ما دُعيَت إليه. وكان قد اختلج في نفسها أسفٌ على أنها استسلمت لغرور الصبا فكذَّبت وخدعت هذا الوافد الذي دعاها إلى سعادة ممكنة وباهرة.
وعند بزوغ الفجر، كان ضبْعٌ فتّاك قد مزّق الجمل الأبيض المربوط إلى جذع نخلة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى