شهادات خاصة فيودور دوستويفسكي - طفل عند شجرة عيد الميلاد.. ترجمة: د. ثائر زين الدين

يا لي من روائي، لقد كتبت على ما أظن «قصة»، وأقولُ «على ما أظن» مع علمي الكامل أنني كتبتها بنفسي لكثرة ما يتراءى لي أنها حدثت في مكان ما، ووقتٍ ما. ولعلها حدثت عشية أحد أعياد الميلاد، في مدينة كبيرة وجوٍّ جليدي شديد البرودة

يتراءى لي طفلٌ صغير، في السادسة من عمره، وربما أصغر، يصحو في قبوٍ بارد ورطب، يرتجف في قميصه الطويل الفضفاض. أنفاسه تطلق بخاراً أبيض، يجلس على صندوق في الزاوية، يزفر في الهواء ويراقب البخار المتصاعد جرّاء الملل. لكنه يريد أن يأكل، لقد اقترب عدة مرات من مرقد أمه المريضة، التي تنام على فراشٍ رقيقٍ كفطيرة، ووضعت تحت رأسها صُرّة عوضاً عن المخدة. كيف جاءت إلى هذا المكان؟ أغلب الظن أنها قدمت مع طفلها من بلدةٍ أخرى، وفاجأها المرض، صاحبة القبو أخذتها الشرطة قبل يومين، وتفرق مستأجرو القبو يحضرون للعيد، ولم يبق في المكان إلا شخص مهملٌ كسول، قضى اليومين الماضيين مستلقياً ومتعتعاً من السُكر حتى الموت، غير معني بانتظار العيد.

في الركن الآخر من الغرفة كانت عجوز ثمانينية تئن من أوجاع الروماتيزم، لقد كانت فيما مضى وفي غير هذا المكان مُربية أطفال، وهي اليوم تموت وحيدةً، إنها تئن وتتنهد، وتزجر الطفل الذي أصبح يخاف الاقتراب من الركن الذي ترقد فيه.

لقد تمكن من إيجاد ما يشربه في العتمة، لكنه لم يعثر على كسرة خبز واحدة يأكلها… وللمرة العاشرة يقترب من أمه ليوقظها. وأخيراً يشعر في الظلمة بخوفٍ شديد:

فقد حل الليل منذ زمن، وما أشعل أحد ناراً. واعترته دهشة شديدة حين قرص وجه أمه، فلم تتحرك، وكانت بــاردة كالجـدار. فكر: «باردٌ جداً الجو هنا»، تمهل قليلاً ناسياً كفه على كتف الميتة، ثم نفخ في أصابعه محاولاً بعث الدفء فيها، وفجأةً راح ينبش الفراش بحثاً عن قبعته، ودون ضجيج خرج من القبو متلمساً طريقه وقد كان بإمكانه أن يفعل ذلك من قبل، لولا خوفه من الكلب الضخم الذي ظلّ ينبح طوال اليوم في أعلى الدرج، عند باب الجيران، لكن الكلب ذهب الآن، وها هو الصبي فجأةً في الشارع.

أي مدينةٍ هذه يا رب! إنه لم يرَ شيئاً كهذا من قبل. هناك في المدينة التي جاء منها يكون الظلام في الليالي حالكاً، وليس سوى مصباح واحد يضيء الطريق، والبيوت الخشبية الخفيضة تقفل بالمزالج، وما أن يبدأ الليل بالهبوط على البلدة حتى يختفي الجميع في بيوتهم، ويبقى نباح قطعان كاملة من الكلاب، مئات بل آلاف الكلاب تعوي طوال الليل! لكن بالمقابل كان الجو دافئاً، وكانوا يقدمون له طعاماً. أما هنا، رباه…

لن يجد ما يأكله! وما أشد الصخب والضجيج، ما أسطع الأنوار، وما أكثر البشر والخيل والعربات، وهذا الصقيع… الصقيع!

البخار المتجمد يندفع من خياشيم الخيول المجهدة، من وجوهها التي تتنفس بحرارة، وتحت الثلج الهش ترن حذواتها فوق بلاط الطريق. والجميع يتدافعون. رباه… كم يرغب أن يأكل شيئاً، أيَّ شيء، وها هي ذي أصابعه تؤلمه فجأةً. إلى جواره يعبر شرطي حفظ النظام، ويشيح بوجهه عنه، متظاهراً أنه لم يره.

وهذا شارعٌ آخر ما أعرضه! فيه ستدوسه المارة على الأرجح، إنهم يصيحون، يندفعون عدواً، أو فوق وسائط النقل المختلفة، والضوء… ما أشد سطوعه!

آه ما هذا أيضاً؟ زجاج نافذةٍ كبيرة وواسعة، يُبدي خلفه غرفة، وفي الغرفة شجرة صنوبر تلامس السقف، إنها شجرة عيد الميلاد، كم من الأنوار فيها، والشرائط المذهبة والتفاحات، كم من الألعاب والأفراس الصغيرة حولها. أولادٌ يركضون في الغرفة، نظيفون أنيقون، يضحكون ويلعبون، يأكلون ويشربون شراباً ما.

هذه طفلة راحت تُراقص صبيّاً، كم هي جميلة. وهذه الموسيقى إنها تُسمع من وراء الزجاج. ينظر الصبي ويتعجب، ثم يضحك، بينما تؤلمه أصابع قدميه، في حين احمرت أصابع يديه بشدة، وما عاد بمقدوره أن يثنيها، بل إن مجرد ارتعاشها يبعث الألم. لحظتها يتذكر كل ذلك فيبكي، ويركض مبتعداً عن النافذة… لكنه يمرّ بأخرى، خلفها غرفة تحوي شجرة، وعلى الطاولات هذه المرة فطائر متنوعة باللوز وسواه، حمراء وصفراء.

وإلى الموائد تجلس أربع سيدات غنيات، يُقدمن الفطائر والمعجنات لمن يقترب من المائدة، ويُفتح الباب فجأةً فيدخل من الشارع سادةٌ كثيرون.

تسلل الصبيُ، فتح الباب ودخل عليهم، فارتفع صراخهم عليه وكثرت تلويحات أيديهم، ثم أسرعت سيدة باتجاهه ودست في يده كوبيكاً. فتحت له الباب على الشارع وأخرجته.

كم شعر بالخوف، والكوبيك سقط في اللحظة نفسها، ليرنّ متدحرجاً على الدرجات، فالصغير لم يستطع أن يثني أصابعه الحمراء عليه. ركضَ هارباً بسرعة، ثم مشى لا يعرف إلى أين. أراد أن يبكي من جديد لكنه خاف، فراح يركض وهو ينفخ في يديه. شعر بالفزع حين أحسّ أنه وحيدٌ تماماً، ولكن فجأةً… رباه! ما هذا؟ حشدٌ من الناس يقفون ويستغربون فوراء زجاج إحدى الواجهات ثلاث دمىً صغيرة، ألبست فساتين حمراء وخضراء، وهي تشبه الأحياء تماماً، إحداها على شكل عجوزٍ يجلس ويعزف على كمانٍ كبير، والاثنتان الأخريان تقفان تعزفان على كمانين صغيرين، تهزّ الدمى رؤوسها مع الأنغام وتتبادل النظرات، بينما تتحرك شفاهها وكأنها تتبادل الحديث، دون أن يُسمعَ منه شيئاً خلف الزجاج.

ظنّ الصبي للوهلة الأولى أنها حية. وحين أدرك أنها ألعاب انفجر ضاحكاً، لم يكن قد رأى من قبلُ مثلها، ولم يتخيل أنها موجودة، كان يريد أن يبكي مما يعانيه، لكن ما يشاهده يبعث على الضحك كثيراً.

أحس فجأةً أن أحداً ما خلفه أمسك به من قميصه، كان صبياً شريراً، ضربه على رأسه، وخطف قبعته، ثم وضع رجله بين ساقيه ودفعه، فتدحرج الصغير على الأرض، وصرخ بعض الناس. اعتراه الخوف، نهض وعدا… عدا مبتعداً، لا يعلم إلى أين! دخل فناءً يفضي إلى أحد البيوت، واختبأ خلف كومةٍ من الحطب: «هنا لن يبحثوا عني، والمكان مظلم».

جلسَ وقد جمع أطرافه، والخوف يسيطر عليه، فلا يستطيع التنفسَ. وبغتة… وبشكلٍ مفاجئ تماماً شعر براحةٍ غامرة: لم تعد يداه وقدماه تؤلمه، وأحس بالدفء، بالدفء الشديد كما لو أنه إلى جوار موقد. آخ ما أروع هذا، لم ينم منذ مدة…

والآن ما ألذّ أن يغفو

«سأجلسُ هنا، ثم أعود لأشاهد الدمى» فكّر الصبي وابتسم حين تذكرها «لقد بَدَت حية تماماً»، وسمع فجأةً صوت أمه تغني له أغنيةً منحنيةً فوقه. «ماما، إنني أغفو، آخ ما ألذ النوم هنا!».

تعال إليّ، إلى شجرة عيد الميلاد أيها الصغير وشوشَ فوقه صوتٌ هادئٌ، فظن في البداية أنه صوت أمه. ولكن لا، ليست هي، فمن إذاً يدعوه؟ لكنه لا يرى أحداً.

شخص ما ينحني عليه، ويضمه نحوه في العتمة… وهو بدوره يمدّ إليه ذراعيه، وَ… فجأةً يا لهذا النور! يا لهذه الشجرة التي لم يرَ مثلها في حياته! أين هو الآن؟ كل ما حوله يضيء، يتلألأ، والدمى ما أكثرها- لكن لا ، ليست دمى، إنهم صبية صغار، وفتيات صغيرات، ينبعث الضياء منهم جميعاً، هاهم يتحلقون حوله، يرفرفون، يقبلونه، ويحملونه معهم، ثم ها هو ذا يطير بنفسه، ويرى أمه تنظر إليه وتبتسم فرحة.

-ماما، ماما، آه ما أروع هذا المكان يا أمي!. يصرخ الطفل مخاطباً أمه. ثم يتبادل القبلات مع الصغار من حوله، ويرغب لوهلة أن يحدثهم بسرعة عن تلك الدمى التي رآها خلف الزجاج.

– من أنتم أيها الصغار؟ من أنتن أيتها الصغيرات؟ يسألهم بفرح ومحبة.

– هذه «شجرة يسوع»-يجيبونه- إنه ينصبها دائماً في مثل هذا اليوم، للأطفال الذين ليس لديهم شجرة عيد ميلاد هناك…

وعلم أن كل هؤلاء الصغار مثله، إنما هم أطفال، لكن بعضهم تجمد في السلال التي تركوا فيها على درجات بيوت البيروقراطيين في بطرسبورغ، وبعضهم مات مختنقاً في ساعات الرضاعة عند الأستونيين، في دور الحضانة. وآخرون ماتوا على أثداء أمهاتهم الجافة «زمن مجاعة سمارا»، ومنهم من مات في القطار مختنقاً من العفونة والنتانة في حافلات الدرجة الثالثة، لكنهم جميعاً هنا الآن، جميعهم ملائكة عند يسوع، يرفرفون حوله، يمد إليهم يده ليباركهم ويبارك أمهاتهم الخاطئات…

الأمهات اللواتي ينتبذن ركناً قصياً ويبكين. إنهن يتعرفن أطفالهن، بينما يطير الأطفال باتجاههن ويقبلنهن، ويمسحن بأيديهم الصغيرة دموعهن، ويرجوهن ألا يبكين، لأنهم يشعرون هنا بفرح غامر..

في الصباح عثر البوابون على جثة طفل هارب متجمد خلف كومة حطب، وحين بحثوا عن الأم وجدوها وكانت قد ماتت قبله، والتقى الاثنان عند الرب في السماء.

لماذا كتبت هذه القصة، التي لا تناسب مذكرات حقيقية عقلانية، ولا كاتباً مثلي؟ وكنت قد وعدت بكتابة قصص عن حوادث حقيقية! لكن هنا جوهر الأمر، فأنا أتصور على الرغم من ذلك أن ما رويته كان قد حدث فعلاً – أعني ما حدث في القبو وخلف كومة الحطب، أما ما يتعلق بالشجرة عند يسوع – فأنا لا أعلم، ولا أستطيع أن أقول لكم هل حدث هذا أم لا؟ وهنا تتجلى قدرتي الروائية، في التخيل!.


من يوميات الكاتب كانون الثاني 1876

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى