فخري أبو السعود - في الأدب المقارن.. أثر المجتمع في الأدبين العربي والإنجليزي

إنما يقصد الأديب فيما ينشئ إلى التعبير عن شعوره وأفكاره لأنه يحس حافزاً يدفعه إلى ذلك التعبير، ويشعر براحة وغبطة إذا ما طاوع ذلك الحافز، بيد أنه يتأثر في كل ما يحس ويفكر ويكتب ببيئته الجغرافية ووسطه الاجتماعي وجيله الذي يحيا فيه، لا ندحة له مهما بلغ من استقلال الشخصية والأصالة في الابتكار عن التأثر بكل ذلك، بل لا نغالي إذا قلنا إن عبقرية الأديب ليست إلا مجموعة مؤلفة من تلك العوامل، والأديب الذي يعتزل مجتمعه لا يتأثر به سائر أدبه إلى الاضمحلال وأن يكون سطحيً، وكلما كان الأدب صادقا حيا كانت صلته بمجتمعه شديدة التوثق، وكان هو مرآة لذلك المجتمع واضحة، وإن لم يمنعه ذلك أن يزخر بآثار الفردية القوية والشخصيات المتميزة

فالأديب يتأثر بالمجتمع تأثراً تلقائيا غير مقصود ولا محسوس أحياناً، ثم هو يتأثر به تأثرا واعيا مقصودا، وذلك حين يلجأ الأديب عمدا إلى وصف ما يحيط به من أحوال المجتمع، وما يحمد منها وما يذم، ومن يصادفهم ويخالطهم في المجتمع من أفراد ذوي خلائق متباينة، يلذ للأديب أحيانا عرض كل ذلك في أدبه كما تعرض الصور والدمى في المعارض والمتاحف، ويغتبط أي اغتباط بقدرته على تصوير ما راعه من تلك الحقائق والسلائق على ما هي عليه، وقد يزيد فيجلوها في مجلا الفكاهة والسخرية، أو يزيد فيندد بما يرى من مساوئ ويدعو إلى الإصلاح ويوضح وسائله، ويؤلف لنفسه مبادئ يرضاها في السياسة والاجتماع والاقتصاد والدين وهلم جرا، ولا يعود معبرا عن شعور الفرد فحسب، بل يصبح قائد فكر بين الجماعة كذلك

هكذا يصبح للأدب غرض اجتماعي إصلاحي، ولا ريب أن غرض الأدب الأول هو غرض كل الفنون، من التعبير الصحيح عن صادق الشعور بحقائق الحياة وجمالها، فإذا ما ظهر بجانب ذلك غرض اجتماعي أصبح للأدب غرضان، بيد أنهما لا يتنافران بل يأتلفان في يد الأديب القدير أحسن ائتلاف، ويصوران الحياة أصدق تصوير وأجمله، أما في يد الداعية المتحمس لدعوته الاجتماعية دون كبير احتفال بجمال الفن وروعة الأسلوب، فيوشك أن يخرج الأثر المنشأ من عالم الأدب إلى حيز العلم، فيندرج تحت عنوان الاقتصاد أو التربية أو السياسة أو غير ذلك، أما الأديب الصميم فلا غنى له عن الجمال والصبغة الفنية، ووظيفته الكبرى في بيان الشعور وما اتصل به من أفكار

وتدبر أحوال المجتمع ونقد أخلاق بنيه لاشك مجال للأدب رحيب، ومسرح لفن الأديب خصيب، ومهما تغيرت أحوال المجتمعات على تتابع الأجيال، فإن طباع الإنسان المركبة فيه واحدة لا تتغير، ومظاهره من كرم ولؤم ونبل وإدعاء وغرور ونفاق، وولع بالمظاهر وتفاخر بالنعمة المحدثة، كل هاتيك أمور تتكرر ولا تتبدل، وتبدو في شتى الأشكال والأزياء وهي في الصميم سواء، ومن ثم نرى صوراً لها في شتى آداب الأمم على تباعد عصورها ومنازلها: فالمسيو جوردان المحدث النعمة الذي رسمه موليير متعثرا في أذيال ثروته مكاثرا بها في سذاجة، هو أحد (النوابين) المحدثي النعمة الذين أولع بتصويرهم كتاب الدرامة الإنجليز في أواخر القرن الثامن عشر، وهو هو ذلك المحدث النعمة الذي صدع رأس عيسى بن هشام في المقامة المضيرية بتعداد محتويات بيته وأثمانها ومزاياها؛ فالأديب الحاذق يفطن إلى الخطوط الرئيسية في الصورة الشخصية التي يبغي رسمها، فإذا ما صورها لم تكن صورة فرد من الأفراد، بل جاءت صورة ضرب من الناس في شتى الأمم والعصور

وقد ترك المجتمع آثاره الواضحة على تعاقب العصور في الأدبين العربي والإنجليزي، واختلط أدباهما بتأريخهما اختلاطاً شديدا، ولا غرو فالأدب من البين الفنون أشدها بالحياة اليومية والأحوال الاجتماعية والأحداث السياسية ارتباطا، وتبينت في ذينك الأدبين سمات الأجيال المتتابعة، وكثرت فيهما النظرات الاجتماعية كما كثرت التأملات الفردية، وقام فيهما من الآثار ما قوامه تدبر أحوال المجتمع ونقد أخلاق أبنائه، بجانب الآثار التي قوامها نظر الأديب في ذات نفسه وبوحه بأشجانه وإطرابه؛ بيد أن الأدب الإنجليزي كان أبعد في تناول الشؤون الاجتماعية مدى، وكان أدبائه أكثر شغلاً بالدعوة إلى الإصلاح، وإن لم يهملوا التعبير عن خوالجهم الفردية، ولم يقصروا في تصوير شخصياتهم المستقلة

ترى طابع العصر الأليزابيثي في أدب شكسبير ومعاصريه: فهو عهد فتوح ومغامرات، فامتلأت رواياته التمثيلية بذكر الشجعان والأسفار والحماسة الوطنية وتاريخ إنجلترا، وهو عصر لم تبدد الثقافة بعد أوهام سواد أبنائه، فمسرحياته تعج بذكر الشياطين والسحرة والأشباح والعرافة والتطير، ولم تكن نفوس أبناء ذلك العصر قد رقت ولا أذواقهم قد صقلت، ولذلك تكثر في رواياته المذابح والمبارزات وسفك الدماء؛ وكان عهد تعصب ديني، ومن ثم يسخر أدبائه من أبناء النحل الأخرى كاليهود، ولم يكن الحكم الدستوري قد توطد بعد، وما تزال للملك اليد الطولى والكلمة العليا في السياسة الداخلية والخارجية، ومن ثم ينسج شكسبير لنفسه في رواية هنري الرابع وغيرها نظرية سياسية قوامها الملكية المستبدة العادلة، ويعدها أساس نظام الكون

ونرى أثر عهد الإصلاح الديني في إنجلترا في أدب عهد المطهرين: إذ خفت صوت الأدب وغيره من الفنون التي لا يطمئن إليها عادة المتشددون من المتدينين، وأتصف الأديبان الكبيران اللذان ظهرا إذ ذاك - ملتون وبنيان - بالاهتمام بالشؤون الدينية والتأثر بالكتاب المقدس موضوعاً وأسلوباً؛ ونرى أثر عصر المجون الذي تلا ذلك في مسرحياته المملوءة بالسقاط؛ حتى إذا ما أشرق العصر التالي وقد اطمأنت النظم الدستورية وانتشرت الثقافة والثروة في جمهور الشعب أوغل الأدب في تناول الشؤون الاجتماعية، ولم يقنع بالأشكال الموجودة أصلا، فاتخذ لنفسه شكلاً أدبياً هو أليق لتصوير المجتمع ونقده وهو القصة؛ وفي قصة القرن الثامن عشر وفي شعره يتجلى ما كان يسود مجتمع ذلك العهد من تأنق وتصنع، وحرص على تعلم اللغات وممارسة بعض الفنون، ويجري ذكر خروج الأرستقراط للصيد بخيلهم وكلابهم، ويبدو من ذلك ما كان يتخلل المجتمع من نفاق ورذيلة وإدمان للشراب وإفراط في الطعام وما كان يعصف بالطرق العامة من عبث الأشقياء

اتخذت القصة وسيلة لوصف المجتمع، وقد أدت غرضها ذلك خير أداء، وكيف لا تؤديه والقصة في يد الأديب الحصيف ليست إلا قطعة من المجتمع الحي المتحرك منقولة على القرطاس؟ قطعة من المجتمع طوع بنان الأديب يؤلفها كيف شاء ويرسم بها من الأشخاص من شاء ويبرز بها من الآراء ما يختار، فلا غرو ازدادت القصة الاجتماعية رقياً وذيوعاً في القرن التالي، ازدياد المبادئ الديمقراطية انتشاراً أعقب الثورة الفرنسية، وانتشار التعليم العام، وتعقبه مشاكل المجتمع بظهور الصناعة الكبيرة، وانتشار المذاهب الاجتماعية والاقتصادية الخطيرة كالاشتراكية والشيوعية، ونزاع الرأسماليين والعمال، ونهضة المرأة ورقي علوم الاجتماع والنفس والتربية، وخاض الأدباء غمار كل هاتيك الحركات والتيارات المتضاربة، ونقلوا في غضون قصصهم صور هاتيك المعارك الفكرية والأحوال المادية، وفي قصص مريديث ودكنز وبنلر وهكسلي وبنيت من آثار كل ذلك ما لا يستقصي، ومن تلك القصص تستخرج صور لتلك الحركات أوضح مما قد تعرضه التواريخ المنظمة

وطمت هذه النزعة الاجتماعية الإصلاحية وهذه الصبغة العلمية التحليلية، في القصة المعاصرة، فأقطاب القصة والدراما المعاصرون أمثال شو وهاردي وولنر وجالزورذي، كلهم متأثرون بالكشوف العلمية الحديثة والنظريات الاقتصادية الجديدة، والأحوال الاجتماعية الراهنة، ولكل منهم مبادئه ودعواته حتى أصبح الأدباء يختلفون ويعتركون، لا على المذاهب الأدبية والآراء النقدية الفنية كما كان الشأن فيما مضى، بل على المذاهب الفكرية والآراء السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعلى هذه المبادئ لا على مبادئ الفن والأدب ينقسمون شيعاً ومدارس، ويسرف بعض الكتاب كبرتراندرسل في التحمس للدعوة الاجتماعية واطراح الأسلوب الأدبي، حتى تخرج بعض مؤلفاتهم من عداد كتب الأدب، ولا تعد إلا في كتب العلم إن كانت لها قيمة هناك!

كان الشعر العربي في الجاهلية حقاً ديوان العرب كما دعوه: كانوا يقولونه في شرح أحوالهم الفردية، من حب وذكر للديار ومناجاة للمطايا، وفي شرح أمورهم الاجتماعية، من التمدح بالقرى والتفاخر بالبلاء في الحرب والتوعد بالثأر وإباء الضيم، يرسلون كل ذلك على السجية فيجيء رائعاً بصدقه معجبا برجولته، ويصوغونه فيما اتفق من لفظ وعر وأسلوب شديد، فظل شعر ذلك العصر ممثلاً صادقاً له رغم عبث العابثين به، بل لعله كان أهم مصادر تأريخ ذلك العهد حين دون تأريخه، فقد ظل المؤرخون يذكرون ما يذكرون من حوادث وحقائق ويتبعونها أبيات الشعر مستشهدين

وظهر أثر عهد الاستقرار والثروة والنجاح في ظل الأمويين في غزليات ابن أبي ربيعة وجميل وأضرابهما، ومفاخرات جرير والفرزدق وأشياعهما، ثم ظهر إثر الإفراط في تلك الثروة والفراغ والإسراف في اجتناء لذات الحضارة، في شعر بشار وأبي نواس وأمثالهما، ثم كان العهد التالي بدء التدهور والانحطاط المادي والخلقي: فهوت مكانة المرأة إلى حضيض من القهر والازدراء والجهالة، وفشت الرشوة والمحاباة والمصادرة بين الحكام، وكثر الفقر من جراء ذلك وإدعاء الفقر والتسول والاحتيال باسم الدين والطب والأدب والعلم، وذاع الفساد وفاحش القول ومبتذل التندر

يبدو أثر كل هذا في تنديد المعري بالمرأة وسخر غيره من الشعراء منها، وتلك الأقاصيص التي أفتن الجاحظ والأصفهاني وابن دريد في جمعها وتأليفها، عن عبث النساء وغدرهن وخيانة الزوجات وجوب تشديد الحجاب عليهن، فكان ابن دريد مثلاً يخترع الحكايات يفسر بها الأمثال السائرة فيتخذ ذلك الضرب من حديث النساء مادة لها. وبدا أثر تلك الحال السالف شرحها أيضاً في مقامات بديع الزمان والحريري، حيث لا يزال بطل المقامات يتنقل من تسول إلى احتيال إلى خديعة، ولا يزال الحارث ابن همام يؤكد حرصه في أسفاره إذا ما هبط بلداً أن يتعرف إلى واليه أو قاضيه أو بعض ذوي الكلمة فيه، يتقي بمعرفته ظلم الغاشمين والمرتشين من عمال الحكومة، ويتحاشى غوائل الإرهاق والمصادرة والسجن. ويقف كاتبا المقامات المذكورة صفحات طويلة على استعراض ضروب الشتائم والبذاء يتقاذفها أشخاص الأقصوصة. ويقول ابن الرومي واصفاً حال الموظفين والتجار وإضرابهم:

أتراني دون الألى بلغوا الآ ... مال من شرطة ومن كتاب

أصبحوا ذاهلين عن شجن النا ... س وإن كان حبلهم ذا اضطراب

وتجار مثل البهائم فازوا ... بالمنى في النفوس والأحباب

هذه لمحة خاطفة إلى آثار أحوال المجتمع المتعاقبة في الأدب العربي، إذ كان من المحال تقصي تلك الآثار الاجتماعية التي تنعكس في الأدب، مادته وأشكاله ومذاهبه وألفاظه، وما يزال الناظر في مخلفات والشعراء والكتاب يطلع من آثار مجتمعهم على جديد. وفي نوادر أبي نواس وفكاهات الجاحظ وحكايات الأصبهاني دلائل متفرقة على شتى نواحي الحياة الاجتماعية في عصورهم. وإذا قرأنا في مقامات البديع مثلا أن أبا الفتح اصطنع فيما اصطنع من حيل لاقتناص الدراهم والدنانير حرفة القراءة، فرآه عيسى بن هشام مرة وسط جمع من الغوغاء يضحكهم بألاعيب قردة، علمنا أن تلك الحرفة التي ما تزال مشاهدة في بعض البلدان حتى عصرنا هذا بعد انتشار حدائق الحيوان، كانت تمارس منذ تلك العهود.

وكذلك نعلم أن أبناء السند وفدوا فيمن وفدوا من أبناء الشعوب إلى مقر الخلافة يبتغون الرزق تارة بالصيرفة إذ يقول الجاحظ أنه لا يكاد يوجد ذو تجارة رابحة إلا وصاحب كيسه سندي؛ وتارة بإضحاك العامة - شأن أبي الفتح الإسكندري - بألاعيب الفيل، وذلك إذ يقول دعبل:

هذا السنيدي لا فضل ولا حسب ... يكلم الفيل تصعيداً وتصويباً

كل هذه الآثار الاجتماعية ما جل منها وما ضؤل، واضحة في الأدب العربي شعره ونثره؛ بيد أن أغلبها قد جاء في الأدب عفواً أو عرضاً، ولم يقصد لذاته ولم تنظم القصيدة أو لم يصنف الكتاب عمداً لوصفه وبيانه، بله نقده وإصلاحه، فأكثر أدباء العربية بعد الإسلام وبعد استتباب الملك كانوا عن مجتمعهم في شغل، قد يرون من أموره ما لا يرضيهم، وقد تكون لهم آراء في السياسة ومذاهب في الدين لا ترضي أصحاب السلطان، ولكنهم كانوا في أغلب الأحوال يكتمون مثل تلك الآراء والنظريات، وكيف يبوحون بنقداتهم وهم بين رجاء لنوال السلطان وإشفاق من غضبه؟ إن النقد الصريح الحر والنظر الاجتماعي الصادق لا يترعرعان بين ذهب المعز وسيفه، إنما كان يجهر الأدباء بالنقد والمعارضة في الجاهلية وصدر من الإسلام، وهما عهد الحرية واستقلال الفرد؛ فلما توطدت الملكية المطلقة خفتت أصوات الأدباء وقطعت ألسنتهم. وكان شعراء الخوارج الكثيرون الذين أطاح الأمويين رؤوسهم عبرة لسواهم من الشعراء وقد مدح سويف الشاعر بعض العلويين الثائرين فوأده المنصور، وثار المتنبي في صباه يبتغي إصلاح الأحوال المتفاقمة فزج به في السجن

فالملكية المطلقة قد فرضت على الشعب ألا يراجعها في أمر، وانقلبت بالأمة العربية بذلك من النقيض إلى النقيض. كان العرب في جاهليتهم مسرفين في الاستقلال والفردية، فصاروا في ظل الملكية مسرفين في الخضوع والاستسلام، وفرضت تلك الملكية على الأدباء أن يعيشوا عالة عليها وعلى المجتمع، لا يشاركون الشعب آماله وأعماله، ولا يقودون أفكاره وحركاته، فلم يكن المجال متسعاً أمام الأديب العربي، كما كان متسعاً أمام الأديب الإنجليزي، لوصف المجتمع ونقد أحواله والدعوة إلى إصلاحه. فإن هو فعل ذلك عرض نفسه للتهلكة ولم يفد المجتمع فتيلا. إنما يؤمل الأديب الإنجليزي أن يفيد مجتمعه بآرائه، لأنه يخاطب بآثاره الأدبية الرأي العام في بلاده؛ الذي هو فوق الحكومة يملي عليها إرادته؛ أما في ظل الملكية المطلقة في الدولة الإسلامية، فلم يك هناك رأي عام، وكان رأي الحكومة الأعلى

لذلك عاش أدباء العربية طالبي فضل، يمدحون الأمير ويعيشون من عطاياه، وهي السبيل التي ألجئ إليها المتنبي بعد محنة سجنه، وعاش بها حياته على مضض باكياً مما هو به محسود، واستوزروا للأمراء وكتبوا وعملوا لهم، وطلبوا بذلك النجاح الشخصي لأنفسهم لا النفع الشامل لمجتمعهم. أما أدباء الإنجليزية فقل منهم من عاش في ركاب الملوك ومن فضلهم على هذا النحو، وكان أكثرهم أما مثرين غانين عن العمل لكسب القوت متوفرين على فنهم وحده، وأما مساهمين في الحياة العملية بجانب الحياة الفنية، فكان منهم من ضربوا بسهم في السياسة والدين والحرب والكشف الجغرافي وكبار وظائف الدولة، ومن أولئك فيلب سدني وبيكون ورالي وملتون وبنيان وأديسون وبيرون، وكان أكثرهم في صف الشعب وجانب الحرية

بل كان من أدباء الإنجليز من عاف الاجتماع الإنساني قاطبة، ونقم على أنظمة الملكية والكنيسة، وكره التقاليد والأعراف السائدة، وحاول إنشاء مجتمع جديد تسوده البساطة والمساواة ومن هؤلاء شعراء عهد الثورة الفرنسية، فالكتاب الفرنسيون الذين مهدوا لتلك الثورة أمثال فلتير وروسو اكتفوا بالعمل النظري وتركوا التنفيذ لغيرهم؛ أما معاصروهم ومن جاءوا بعدهم من أدباء الإنجليز، فحاول بعضهم تنفيذ مبادئهم بأنفسهم، ولهذا الغرض أنتقل بركلي إلى أمريكا وشلي إلى أرلندة، يريد كل منهما إنشاء مدينته الفاضلة، وإن كانا قد منيا بالفشل لضخامة المشروع. وعاضد وردزورث الثورة الفرنسية بقوة لمناداتها بمبادئها المعروفة حتى نقم على دولته إعلانها الحرب على فرنسا الثائرة، وكاد ينتظم في أحد أحزاب الثورة، ويركب تيارها الخطر، واستشهد بيرون في حرب استقلال اليونان

ولقد أبدى بعض أدباء العربية في عهد نضج الحضارة والثقافة والأدب شغفاً بتتبع أحوال الناس ومعايشهم وعاداتهم وأخلاقهم وظهر ذلك في كتب الجاحظ؛ على أنه كان يروي الأشياء على علاتها ويخلطها بفكاهاته؛ وفي مقامات البديع، ولم يكن أيضاً يزيد على التصوير المجرد، فإذا ما صرح بسخطه على بعض الأحوال والأحكام والأنظمة، فتصريحاً سريعاً فيه تسليم واقتناع بعدم جدوى محاولة الإصلاح وعدم إمكان أحسن مما كان. وظهر ذلك الميل أيضاً في شعر أبن الرومي، الذي صور كثيراً من الشخصيات الفكاهية، على أنه كان يتناولها من ناحيته الفردية وينحى عادة على أعدائه الشخصيين؛ وظهر نفس ذلك الميل إلى تتبع أحوال المجتمع في شعر المعري خاصة، وذلك من الأبواب التي تفرد بها أو كاد بين أدباء العربية، وسبق في التصريح بها عصره، وله في ذلك أبيات رائعة ليست إلا خلاصة موجزة لبعض مذاهب السياسة والاقتصاد في العصور الحديثة؛ ومن ذلك اعتباره الحكام خدام الرعية، ونقمته على عدم تساوي توزيع الثروة، وذلك قوله من لزومياته:

مل المقام فكم أعاشر أمة ... أمرت بغير صلاحها أمراؤها

ظلموا الرعية واستباحوا حقها ... وعدوا مصالحها وهم أجراؤها

وقوله

لقد جاءنا هذا الشتاء وتحته ... فقير معرى أو أمير متوج

وقد يرزق المجدود أقوات أمة ... ويحرم قوتا واحد وهو أحوج

على أن الشعر ليس بأصلح المجالات للنقد الاجتماعي والإصلاح الشعبي، وإنما مجال ذلك النثر الذي هو أكثر شيوعاً وأقرب إلى متناول القارئين، والذي هو أرحب صدراً بالشرح والتفصيل والإسهاب؛ والمقالة والقصة فرسا رهان هذا المضمار، ولكن النثر العربي لم ينهض بهذا العبء، ولم يزد أن خطا الخطوة الأولى في هذا السبيل في كتابات الجاحظ ومقامات البديع؛ وقد جاءت هذه الخطوة متأخرة. ولما جاء الجيل التالي لم تتبعها خطوة أخرى، بل أعقبها تقهقر إلى الوراء، فلم تتطور المقامة إلى قصة فنية اجتماعية تدرس المجتمع وتقوده في سبيل الإصلاح، بل تحولت في يد الحريري وغيره إلى معارض للألفاظ المزركشة والألغاز المعماة والحيل الملفقة، فقد كانت الأمة في طريقها إلى الانحلال، والأذهان في انحدارها إلى الخمود، والحكام يزدادون على مرافق الأمة وطأة، والأدب يتقلص رويداً رويداً، ويهجر لباب الحياة إلى قشور الألفاظ.

فالأدبان العربي والإنجليزي قد تأثرا في مختلف العصور تأثراً كبيرا بأحوال مجتمعيهما، وهو أمر لم يكن منه بد، بيد أن الأدب الإنجليزي كان أكثر بالمجتمع تأثراً وأكثر فيه تأثيراً، وأشد تشابكاً وتفاعلاً معه، لما أحاط به من ظروف مساعدة، مرجعها سيادة الحكم الديمقراطي وانتشار حرية القول والعمل وقوة الرأي العام؛ أما الأدب العربي فلبلوغه أوج ازدهاره في ظل الملكية المطلقة، قد كان يقتصر تأثره بالمجتمع وتأثيره فيه على ما جاء عرضاً غير مقصود، وما تم بحكم الظروف وطبائع الأشياء، وكان تناول أدبائه لشؤون مجتمعهم رفيقاً محدوداً، وفيما عدا ذلك كان كل منهم عاكفاً على وصف خطراته وأشجانه وصبواته، مولعاً بذم أعدائه ومساجلة صحابته، إلى غير ذلك من الشؤون الفردية

فخري أبو السعود


مجلة الرسالة - العدد 199
بتاريخ: 26 - 04 - 1937

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى