محفوظ داود سلمان - البديل.. قصة قصيرة

كان يعشق الأرض منذ أن كان طفلاً فقد ولد في مكان ينتمي الى الأرض حيث النخل والنهر والعشب وكان مولعاً برائحة الأرض، عاشقا لها عندما تتوحد بالمطر، ومن مخاضها كان ينتج الطين وفي عشقه هذا كان يكور أقماراً منه وهو يستوحي ما كان يفعله اغلب أهل قريته عندما يكورون روث الأبقار ويصنعون منه دوائر ثم يجففونه في الشمس لتكون حطباً في الشتاء يغذّون بها المواقد أو التنور الذي يخرج منه الخبز المدور حاراً ملتهبا، ولعل هذا ما جعله في صباه يعشق المدورات او المكورات،

ومنذ طفولته كان له إحساس حاد بالأرض فهو أما يحرث هذه الأرض وينقب فيها عندما يساعد أباه في الحقل او يضع في حفر صغيرة بذوراً تنمو فيما بعد الى أشجار، او يحصي في هذا الحقل أشجار النخيل فهو يحفظ أنواعها جميعا ويعرف أماكن هذه الأنواع على سياج الحقل او في داخله او على زواياه، وهو على معرفة بمواسم هذه الأشجار وأوقات تكريبها او تلقيحها، او ضمانها وهو لا ينسى مشهد نضوجها فكانت أول ما يصفر البسر تسمى البشارة وكانت النساء تردد في هذا الموسم:

ما أبيع طوقي والملّقح بالنخيل = تسعين ليلة والبشير يلوح

فكان الجميع يتفاءل خيراً بموسم قادم وان طوق الذهب لن يباع قبل موسم القطاف

ولما كبر وكبرت معه شجونه وكثرت شؤونه رأى انه بدون هذا الحقل سيضيع في عالم لا حدود له وان العالم خارج هذا الحقل ممتد الأبعاد وانه اعتاد على أصوات ذئاب من بعيد تنتشر في محيط هذا الحقل ثم اكتشف في وقت اخر ان هذا الحقل لا يعود له او للعشيرة التي ينتمي إليها لان هناك ملاّكاً غائبا يسكن المدينة واكتشف ذلك عندما كانت تنقل سلال التمر يوميا في عربة خاصة تجمع هذه السلال من الفلاحين جميعهم الى أصحاب الأراضي او الحقول في مكان بعيد..

وأصبحت مشاعره أشد قسوة وجبينه أكثر ندوبا وهو يتقدم في الزمن ورأى ان امتلاك الأرض هو القيمة العليا في المجتمع، وبعد ان تقدم في دراسته، وأصبح على اتصال بقوى تنظيمية غادر رؤيته البدائية الى العالم وأصبح يفكر بطريقة مغايرة وتعلّم ان الوعي بالواقع الراهن يفرض عليه شروطا، وقيما تتناقض مع وضعه، ومنها ان الإنسان بلا ارض يعني انه بلا وطن وان الوطن هو الأرض التي يمتلكها الإنسان، وان الصراع السياسي هو من اجل امتلاك الأرض او الحفاظ عليها وان المجرم الأول في التاريخ هو صاحب الأرض ومن اجلها قامت الحروب.

وبسبب من وعيه هذا، وقدرته الفكرية استطاع ان يكون أول معلم في أول مدرسة في قريته ونما في ذهنه أنه مسؤول عن جيل من الناس لا يستطيعون ان يفهموا العالم خارج إطارهم الفكري فهم يقيمون خارج لغتهم..

وكان وهو يعيش حياته النمطية الرتيبة كثير الرصد للفعل الآخر فهو ديدبان القرية، او يعتقد أنه كذلك حارس للمثل العليا، والقيم المتداولة، موّكل بالحفاظ على المورثات الفكرية للاخرين، مشروع لتداول المعلومات المعرفية المألوفة عن الكون والسماء والطبيعة، وملاحظاته اليومية تنتشر بين الناس وفي دائرة اهتماماته النظر الى المرأة ، فهو كما يقول عن نفسه عفّ الضمير ولكن فاسق النظر وان كان البعض يذكره بقول الشاعر القديم:

وأغض طرفي ان بدت لي جارتي = حتى يواري جارتي مأواها

ونظراً لانه المعلم الاول في القرية وكان تخرج من معهد للمعلمين وكان هذا الطموح اقصى ما يمكن ان يحلم به شخص ذو جذور فلاحية كثيرا ما يستشهد بابيات من الشعر القديم يكررها في تجمعات تحصل عند مفارق الدروب فاذا مرت امرأة تجاوزت الخمسين ، او شاهدها عند العطّار فسوف يتلو عليك قول الشاعر:

تدس الى العطّار ميرة اهلها = وهل يصلح العطّار ما أفسد الدهر

اما اذا توحدت امرأة مع زوجها او حصل فرد ما على هدف له فهو حاضر البديهة ليقول:

لكل ساقطة في الحيّ لاقطةٌ

وكل بائرة يوما لها شاري

وفي نزوعه نحو امتلاك أرض او دار يقيم فيها ويحصل على حريته، او يضمن مستقبله قرر ان يتزوج من سلمى وهي ابنة امام الجامع في القرية، ولم يكن في حينها يكلف هذا الزواج كثيرا من الجهد فان وجود معلم وحيد في القرية بملابس عصرية بشكل غواية واغراءً للنساء..

وحين تزوج عبد الله الشيخ من سلمى كان يمارس دوراً ذكوريا واضحاً، وسلطة ابوية غاشمة فكان في كل موقف له راي وحينما يرفع المؤذن الاذان كان يصرخ صلاة – صلاة ولا يسمح لاحد ان يكون خارج اطار رؤاه، او يفكر بطريقة مغايرة

ولان الرجل يبحث عن دليل لاثبات ذكورته فلا بد من إنجاب وريث له او وليد وهكذا ولد طفله الاول وتحت ضغوط الاعراف والقيم بالاكثار من النسل وحاجة الوليد الاول الى اخت له ، او اخ فقد انجب وليدة ثانية ووليداً ثالثا يكون أخا للولد الاكبر وكان زواجه منعطفا حادا في حياته، فهو حينما تقدم للزواج من ابنة خطيب الجامع وامامه تخلى رويدا..رويداً عن رؤاه الثورية، واصبح اكثر هدوءا واكثر استقرارا وكأنه بهذا الزواج اقترب من مفاهيم ورؤى صوفية وتوحد مع افكار مألوفة لدى الناس يتوارثونها ولا يعترض عليها، وقد عملت هذه المؤسسة الخالدة التي يسمونها الاسرة وهي وحدة اولية في بناء هذا الكون على تغيير احلامه او تصلب الافكار فاصبح كل شيء جاهزا، او جامداً فاتحد مع الماضي، وتآلف مع ذاته، واصبح نزوعه هو البحث عن الارض، ولعل في لا شعوره تلتم ذكريات ورغبات وهواجس امثال الانتماء الى علية القوم، او السكن في المدن الحضرية، والبحث عن مجالات للترف، كالسفر بعيدا.. وارتداء ثياب فضفاضة والتشرد على ضفاف بحار مجهولة، او جزر غير مرئية بعد ان كان مولعاً بأخبار الثورات التي تحصل في العالم، ولا ينسى كيف كان مدرس التاريخ يثير في مخيلته أحلاما حمراء كما يفعل ميرابو وهو يلقي خطاباته في شوارع باريس او مارا عندما يهيّج الجماهير الكادحة ، وهي تبحث عن خبزها اليومي وفي هذا الصراع وديمومته في البحث عن الارض وامتلاكه والتوحد بها وهو الذي ظل منذ الطفولة يسقي الارض او يرويها دماء أهليه، او يحفر بحثا عن الجذور التجأ الى المصرف العقاري علّ المصرف يساعده على بناء دار او شراء ارض له لكن السلطة في مرحلة ما اخذت تفرض شروطا على القروض ولان ظروف البلد كانت تستدعي تغذية دوائر التجنيد بالمقاتلين فقد ابتكرت شرطاً أن القروض لا تمنح الا لمن ينجب اربعة اولاد، ولم يمتنع عبد الله الشيخ عن الانجاب او يتوقف فهو بعقله الفلاحي وموروثه القبلي لا يضيره انجاب اربعة مواليد وهكذا كان المولود الرابع يفتح امامه ابواب المستقبل ويبني حجارة في سور قلعته الامامية وفاجأته الولادة ذات يوم بان المولودة ابتسام هي اضاءته الاخيرة في مستقبل حياته القادم وهكذا توكل عبد الله الشيخ وجمع اوراقه، للحصول على قرض المصرف العقاري لكن السماء كانت معتمة تعبرها غيومٌ مغادرة، وفي شفقها غروب دامٍ، وتنأى فيها الابعاد احيانا عن الفهم، ويعجز الوعي بالواقع السياسي عن سبر الاغوار، واستكشاف الرؤى او تلمس الجدران ولما غادر صباح احد الايام الى المصرف العقاري وهو عمارة باذخة واخترق بواباتها الزجاجية المدورة و واجه قضبان الحسابات وحاول ان يناول المرأة الجميلة في مواجهته ملفه كان جوابها: أسفة.. لان قروض المصرف العقاري قد توقفت..

= لماذا ـ هذا الحلم الجميل انطفأ

= لان الحرب قد بدات ألم تسمع الاخبار ، والقروض قد توقفت والسلاح أهم من قضايا البناء، وكل شيء من اجل الحرب..

وهكذا عاد عبد الله الشيخ من رحلة عمره الطويل محبطاً، حالماً بلقاء اولاده الاربعة يبحث له عن وطن بديل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى