صبري حـافظ - تحولات الخطاب الروائي العربي.. تبدل الجماليات وأفق التلقي

يسعى هذا البحث لتقديم قراءة نظرية معرفية لمتغيرات الخطاب الروائي العربي على مد مسيرته التي قاربت القرن من الزمان. وقد كان هذا القرن قرنا عاصفا في واقعنا العربي، مترعا بالتغيرات الكبيرة بل المزلزلة على أكثر من صعيد. ولايمكن أن نتصور أن الكاتب العربي أو النص العربي كان في معزل عن هذه التغيرات، لأن الكاتب الحقيقي هو ترموتر قياسها، وأول من يستشعر أجنتها ويتعرف على ملامحها وتأثيراتها. ولأن أي نص أدبي جيد ينطوي على كثير من ملامحها وبعض خطاباتها التي تنحدر إليه من الواقع وقد اشتغل عليها هذا الواقع وترك ترسباته فيها. فكثير من خطابات أي نص ورؤاه ومنظومة قيمه ترد إليه من الواقع الذي صدر عنه، وتحمل في تضاعيف ذاكرتها الداخلية عبقه وتواريخه المضمرة. لذلك كان طبيعيا أن ترافق هذه المتغيرات السياسية والحضارية المزلزلة التي عاشها عالمنا العربي في القرن الذي انصرم منذ بدايات الرواية الحقيقية في أوائل القرن العشرين وحتى الآن متغيرات نصية لاتقل عنها درامية وحدة. ولا يعني هذا بأي حال من الأحوال أنني أتبنى نظريات المحاكاة، ولا أن النص مجرد انعكاس لواقع متغير، فتلك كلها نظريات تجاوزتها الدراسات النقدية الحديثة منذ زمن غير قصير. ولكنه يعني أن كلا من النص والكاتب معا يعيشان في العالم ويتفاعلان معه ويمارسان دورهما فيه، فهما معا من مكونات الواقع في صورته الأوسع. وأن هناك علاقات جدلية مستمرة بين النص والعالم تتطلب من أي دارس أن يأخذهما معا بعين الاعتبار في أي تناول نقدي كما يقول لنا إدوار سعيد في كتابة الشهير (العالم / النص / الناقد) .

1. أطروحة التكوين ومصادرات البداية المغايرة:
والواقع أنني وطوال عملي المستمر على النصوص السردية ـ سواء في القصة القصيرة أو الرواية ـ حرصت على الكشف عن الجدل المستمر بين النص والعالم من جهة، وعلى تجنب تبني أي تنظيرات جاهزة صدرت عن عوالم ونصوص مختلفة في تعاملي مع النص السردي العربي، في محاولة للتنظير له من داخله. فطرحت جانبا الفكرتين الشائعتين عن ميلاد النصوص السردية العربية: سواء منهما تلك التي تقول باستيراد النصوص السردية من الغرب، أو محاكاة العرب للنصوص الغربية، أو التي تسعى للبرهنة على أنها كانت تطويرا طبيعيا للنصوص السردية العربية القديمة مثل المقامة أو ألف ليلة وليلة . ونقضتهما معا بشكل تفصيلي في كتاب كامل كتبته باللغة الانجليزية في أواخر السبعينات هو (تكوين الخطاب السردي العربي) . وقد طرحت في هذا المجال نظرية مغايرة هي سوسيولوجيا تكوين الخطاب بالمعنى الثقافي والأركيولوجي الذي يستمد كثيرا من مضمراته الفلسفية من ميخائيل باختين وميشيل فوكو في هذا المجال. وهي نظرية ذات أبعاد ثقافية ومعرفية متشابكة تختلف كثيرا عن النظريات القديمة في الأصول والأنساب والمحاكاة. وتموضع عملية ميلاد الأشكال السردية العربية الجديدة من قصة ورواية وتمثيلية في مفترق طرق تغير رؤية الإنسان للعالم، وبالتالي علاقته بالزمان والمكان، وحركية تكون الخطابات في حقول علاقات القوى الاجتماعية منها والرمزية على السواء، وطبيعة الحقل المعرفي أو مجال الخطاب وتخلق قواعد الإحالة المعقدة في ساحته.
كما تضع هذا كله في سياق التحول الثقافي الشامل الذي عاشه عالمنا العربي منذ بدايات القرن الثامن عشر وليس بدايات القرن التاسع عشر ـ كما هو مألوف ـ وحتى بدايات القرن العشرين. وهو التحول الذي تخلقت عبره البنية الثقافية التحتية من تعليم حديث بما في ذلك تعليم البنات، وعمران حديث وسع القاعدة الحضرية للمدينة، إلى ظهور للصحافة والوعي بالوجود في عالم متغير له إيقاع يومي، إلى دور الترجمة وظهور نصوص جديدة ومغايرة في سوق التداول الثقافي، إلى تكوين جمهور جديد من القراء له رؤيته المغايرة للعالم، وتصوراته المغايرة للزمان والمكان، ومطامحه وحاجاته القرائية المختلفة، إلى تكوين مثقف جديد هو مثقف القرن التاسع عشر العقلاني بصحفه ودورياته وبجمعياته الثقافية المختلفة. وأهم هذا كله بقضاياه التي ولدت في بوتقة التفاعل بين يقظة الوعي القومي في بلاد عانت وقتها من وطأة الاستعمار القديم. وكيف أدى هذا كله إلى تخليق حساسية جديدة، ذات قواعد إحالة جديدة وأفاق مغايرة كلية لتلك التي صاغت أفق الخطاب والتلقي السابقين على تبلورها، وبالتالي ظهور أجناس سردية جديدة باعتبارها أحد تجليات تلك الصيرورة المعقدة التي تغيرت معها البنية التحتية بتحولاتها الثقافية، وكان من الضروري أن تتبلور إذن تلك الأجناس السردية الجديدة ضمن تلك الصيرورة.
هذا التصور المختلف لتكوين الخطاب السردي كان الأساس الضروري لتنظير مغاير لتطور الأشكال السردية العربية. لأن تبني أحد التصورين القديمين، مثل اعتبار أن تلك الأشكال وافدة من الغرب أو مستوردة منه يترتب عليه ـ وهذا هو ما جرى في ساحة الدراسات الأدبية العربية لأمد غير قصير ـ استيراد التنظيرات الغربية السائدة عنه وتطبيقها على السرد العربي. فأصبحنا نقرأ في دراساتنا العربية عن الرواية التاريخية، والرواية الرومانسية، والرواية الواقعية، ثم الرواية الحداثية، ورواية مابعد الحداثة. وهي كلها تصنيفات قادمة إلينا من الرواية الأوروبية، وتعاني عند تطبيقها على الأدب العربي من كثير من السلبيات. فهذه التصنيفات في الغرب صادرة عن عملية تحقيب تاريخية واضحة، وعن مسار طويل نسبيا استغرق أكثر من قرنين من الزمان. لكننا وجدنا من يطبقها على القصة أو الرواية العربية التي لايتجاوز عمرها عند الدراسة نصف القرن. ووجدنا أن تلك الحقب التاريخية المنفصلة عن بعضها من حيث الحساسية والمرحلة الزمنية في الغرب تتزامن في التصنيفات العربية. لذلك فإن رفض فكرة وفود الأجناس الأدبية أو استيرادها يترتب عليه رفض مثل تلك التنظيرات المخلة في الحالة العربية، والبحث عن تنظيرات أخرى نابعة من مسيرة النصوص العربية وخصوصيتها.
وقد طرحت في هذا المجال، وفيما يتعلق بالرواية تصورين في دراستين مختلفتين كانت أولاهما بعنوان (الرواية والواقع: متغيرات الواقع العربي واستجابات الرواية الجمالية) عام 1990، والثانية بعنوان (جماليات الرواية الجديدة: القطيعة المعرفية والنزعة المضادة للغنائية) عام 2001. ولأن الدراستين منشورتين وتقع أحدهما في أكثر من ستين صفحة فلن أستطيع أن ألخص استقصاءاتهما هنا، ولكني سأحاول أن أقوم هنا بعملية تركيب جديدة تحقق نوعا من التكامل بينهما، وتطرح تصورا لتحولات الخطاب الروائي العربي يتفق من حيث البنية وإن اختلف كثيرا في المنطلق والمنهج مع تصور مهم في هذا المجال طرحه الصديق فيصل دراج في مقاله (من رواية الهزيمة إلى هزيمة الرواية) الذي قسم فيها تطور الرواية العربية إلى ثلاث مراحل: رواية الصبي الواعد، ورواية الإنسان المعوق، ورواية نقض الهزيمة بالشكل الروائي. فالتصور الذي أطرحه هنا له هو الآخر أقسامه الثلاثة التي يوشك أولها أن يتطابق مع القسم الأول عند دراج ورواية الصبي الواعد. ولكن أقسامه تختلف بعد ذلك عن القسمين التاليين عنده، حيث يقعان كلاهما ضمن القسم الثاني في أطروحتي. لكن الأطروحة النظرية التي أقدمها في هذا المجال تسعى إلى إقامة تناظر واضح بين مجموعة من المتغيرات تموضع التغيرات النصية والمنطلقية للرواية فيها. ولأبدأ بالقسمين الأولين من هذه الأطروحة والذين يشملان مسيرة الرواية العربية حتى تسعينات القرن العشرين.

2. علاقات التناظر الثلاثية بين المتغيرات:
وتسعى محاولة التنظير لمسيرة الرواية العربية حتى تسعينات القرن الماضي إلى خلق علاقات تناظر وتواز بين ثلاث مجموعات من المتغيرات، تنقسم كل مجموعة منها إلى قسمين أو بالأحرى مرحلتين مختلفتين وإن كان بينهما شيء من مجموعات من المتغيرات، تنقسم كل مجموعة منها إلى قسمين أو بالأحرى مرحلتين مختلفتين وإن كان بينهما شيء من التداخل. وتعي أن بالإمكان تقسيم كل مرحلة من هاتين المرحلتين إلى مراحل جزئية، كما فعل فيصل دراج في دراسته المشار إليها مثلا، ولكنها تسعى إلى تلمس الفروق الرئيسية ورصد مسار التحولات العامة، وإلى تغليب بعض الخصائص العامة التي تبرز عملية التحول بشكل واضح. وإولى هذه المجموعات الثلاث هي مجموعة التغيرات الحضارية بما في ذلك التغيرات التاريخية والاجتماعية والنفسية والقومية. وثانيها هي مجموعة التغيرات المتعلقة بموقف الكاتب من تراثة النصي، ووعيه بهويته وهوية النص الذي يبدعه، وبنوعية الحوار الذي يجريه النص الروائي مع هذا التراث: سواء أكان هذا الحوار بالقطيعة معه أو بالاندماج الكامل فيه. وثالثها مجموعة المتغيرات الفنية المتعلقة بطبيعة الاستراتيجيات النصية ودلالات الشكل، والوظائف الفنية المختلفة التي يستخدمها الكاتب في نصه الروائي. ومن خلال هذه المجموعات الثلاث المتداخلة والمتفاعلة تكشف الدراسة عن طبيعة التغير الذي انتاب قواعد الإحالة: أي أجرومية إحالة النص الروائي إلى الأطر المرجعية التي ينبثق عنها، ونوعية الحوار الذي يقيمه معها، والذي يشارك في بلورة وعيه بذاته وبطبيعة الدور الذي يؤديه في الواقع الاجتماعي الذي صدر عنه.
ولنبدأ بالتعرف على التغيرات التي انتابت هذا الواقع العربي على الصعيد المعرفي الذي ينطوي على البعدين التاريخي والأيديولوجي على السواء، ورصد ملامح الواقع العربي الذي أنجب ما أود دعوته بقواعد الإحالة التقليديه للواقع. ونلاحظ في هذا المجال أن الواقع الذي ساد تاريخيا منذ بدايات عصر النهضة وحركة الإحياء وحتى نكبة ضياع فلسطين التي جاءت في أعقاب الحرب العالمية الثانية اتسم بما يمكن دعوته بالرؤية التقليدية للعالم، أو الرؤية الريفية له في بعض الأدبيات السوسيولوجية. وهي الرؤية المنبثقة عن درجة عالية من التجانس الثقافي الذي يمكن القول معه بنوع من المجتمع المستقر والمتكامل من حيث الوظيفة السيوسيولوجية: مجتمع يحكمه نسق اجتماعي واحد، وينهض على آليات الاعتماد الفردي المتبادل بين أفراده وجماعاته وشرائحه الاجتماعية المختلفة. وهو اعتماد لايخلو من توتر، ولكن توتراته لاتبلغ درجة الصراع، وغالبا ما تنفثئ لصالح استمرارية الرؤية التقليدية ذات الطبيعة الريفية والسلطة الأبوية، بالمعنى الرمزي والحرفي معا. فقد كانت قوى الوحدة في هذا المجتمع أفعل من عوامل الفرقة والتفتيت، وكان الفضاء الاجتماعي فيه قادرا على أن يكون فضاءا شاملا شبه موحَّد وموحِّد يسع مختلف الأفراد والقوى الاجتماعية، ويحقق علمية التفاعل الخلاق بينها. ولهذا كان ثمة إحساس قوي في مثل هذا المجتمع ذي الطبيعة الأبوية بالانتماء إلى هذا الواقع بين أفراده. إذ يعرف كل منهم بالضبط مكانه في هذا الفضاء الاجتماعي الأليف الذي تسوده روح التعاون وقيم الإخاء التي تتكشف بعد عن خوائها، أو عن إخفائها لآليات الاستغلال البشعة وحركية تكريس الفروق الطبقية وراء مقولاتها البراقة عن الأنا الوطنية الواحدة. فقد كان التناقض الأساسي في تلك المرحلة بين الأنا الوطنية والآخر الأجنبي المحتل عادة للواقع، والذي يتفق الجميع على ضرورة الوحدة للتخلص منه.
وقد رافق هذا على الصعيد الجغرافي ما يمكن دعوته بالفضاء المفتوح الذي تتيحه الطبيعة الريفية أو الرعوية الصحراوية الممتدة إلى مالانهاية. صحيح أن المدينة العربية لعبت دورا هاما في تغيير هذا الفضاء المفتوح، لكنها كانت حتى ذلك الوقت إما مدينة تقليدية ذات علاقات تقليدية راسخة، أو مدينة حديثة تنهض على التخطيط المنطقي وتصورات الأنا المنشغلة بعملية التحديث، وإن لم تغير جذريا علاقة الإنسان بالمكان بعد. ويتسق هذا الامتداد السرمدي مع استاتيكية النظام الاجتماعي أي جموده وثباته والذي تصعب فيه فرص الحراك الاجتماعي التي تتيح للأفراد الانتقال بين الطبقات، أو الشرائح الاجتماعية المختلفة. فكل فرد فيه يولد وهو يتوقع ـ ويتوقع منه الواقع المحيط به ـ أن يحتل مكانة اجتماعية مماثلة لتلك التي تمتع بها أبواه. وقد أدت هذه المعرفة اليقينية إلى درجة عالية من الاستقرار والتماسك الاجتماعي، وإلى سيطرة ما يمكن تسميته بالوعي الجمعي على الوعي الفردي. ولأننا نتناول صيرورة لها طبيعتها الحركية والجدلية معا، فلابد أن ندرك أن بذور المرحلة التالية قد ولدت في قلب هذه المرحلة من خلال عملية التحديث، والتعليم الحديث باعتباره آلة الحراك الاجتماعي الأساسية، ونمو المدينة بعلاقاتها الحضرية المغايرة،كما تخلقت فيها أجنة منطقها المغاير.
لذلك فإن المرحلة الثانية، والتي تمتد من الحرب العالمية الثانية ونكبة فلسطين حتى تسعينات القرن الماضي، تتسم بما يمكن دعوته بالرؤية الحضرية أو الحديثة للعالم. وهي نابعة من تعدد المناخات الثقافية والغياب النسبي للتجانس الثقافي الناجم عن تفتت الواقع الاجتماعي وتجزئته، وتعددية أنساقه التي غاب عنها تكامل المجتمع التقليدي النسبي. وبلورت كل شريحة منها استقلاليتها الخاصة، وانتهت من ساحته إلى غير رجعة آليات الاعتماد الفردي المتبادل، لتحل مكانه آليات الاعتماد المؤسسي أو الاجتماعي المتبادل. فلم يعد ممكنا الحديث عن نسق اجتماعي واحد ولا عن سلم جمعي للقيم والمكانات الاجتماعية كما كان الحال في المجتمع التقليدي القديم. بل أصبح الأمر متعلقا بمجموعة معزولة من المجتمعات الصغيرة المتجانسة نسبيا فيما بينها، ولكن الواعية في الوقت نفسه بحدة الخلافات بينها وبين غيرها من المجتمعات الصغيرة التي تشترك معها في تكوين المجتمع الأكبر: المجتمع الأم. وصورة المجتمع الأم ليست صورة بلاغية، ولكنها ذات صلة ما بظهور هذا المجتمع الجديد الذي غابت عنه قبضة الأب وسلطته الموحِّدة، بل أخذ يعبر بوضوح عن الضيق بها كلما أطلت برأسها من جديد. واستبدل بها تلك الأم الحضرية الجديدة: المدينة التي تعي اختلاف أبنائها وتسعى إلى إرضائهم جميعا، ولا تنجح في الوقت نفسه إلا في إثارة غضبهم معا. وفي غياب الأب كلي السلطة كلي القدرة القديم، يحاول الأبناء تأسيس استقلالهم الخاص في صدام مستمر مع بعضهم البعض. فالأم الخارجة من رحم المجتمع الأبوي لا توفر مجتمعا أموميا بديلا، وإنما مجتمعا بنويا عامرا بالفوضى.
ومن هنا نجد أن التوتر في هذا المجتمع قد بلغ درجة الصراع، وأصبح محكوما بآلياته المحركة، حتى أصبحت قوى الوحدة الاجتماعية ذات فاعلية محدودة أو ضئيلة، وسادت قوى الصراع والتمزق، واكتسبت العلاقات الاجتماعية طابعا تقنينيا بدلا من طابعها العرفي التقدليدي القديم. فلم يعد الفضاء الاجتماعي الشامل والموحِّد موجودا. ليس فقط لأن المدينة قد أجهزت بتركيبتها الجديدة على الفضاء الجغرافي المفتوح الذي عرفته الطبيعة الريفية أو الصحراوية، أو أزاحتهما بعيدا عن متناول الحياة اليومية، ولكن أيضا لأنها بطبيعتها الاجتزائية، وتحديداتها البيئية والطبقية، سلبت من الفضاء الاجتماعي القديم خاصيته الموحِّدة. لأن أحياءها لا تسع جميع الأفراد والقوى الاجتماعية فحسب، بل تقيم حواجزها الفعلية والرمزية بين تلك القوى والطبقات، وتحاول الحيلولة بينهم عن طريق فرض الحدود وعرقلة فرص التفاعل. وتجعل كل منهم غير قادر على معرفة مكانه ومكانته إلا داخل نطاق الجماعة التي يتحرك فيها، أو التي يتوق إلى الانضمام إليها. ومن هنا يصبح الفضاء الاجتماعي مجزءا ومكونا من مجموعة من الفضاءات المتعددة المتجاورة بل والمتلاصقة أحيانا، ولكن المعزولة نسبيا واجتماعيا وترميزيا عن بعضها في كل الأحيان. وتصبح تلك الفضاءات مكانا للغربة بدلا من الألفة والوئام. وهو ما يرهف آليات التنافس بدلا من روح التعاون، ويزكي سعار شهوة الترقي إلى الشرائح الاجتماعية الأعلى، ويوهن من الاستقرار ويضعضع فرص التماسك الاجتماعي. وفي هذا المناخ يسيطر الوعي الفردي، لا على حساب الوعي الجمعي فحسب، وإنما في حال من الصدام المستمر معه.
وإذا ما تعرفنا على التبديات القومية أو السياسية لهذه المتغيرات الاجتماعية سنجد أن الاختلاف الحضاري بين تلك الحالتين يناظره اختلاف آخر على المستوى العربي وإن تأخر عنه من الناحية التاريخية قليلا. وهو الاختلاف بين الواقع العربي الواقع تحس السيطرة المباشرة للقوى الاستعمارية والأجنبية، وبين ماقع مابعد الاستقلال بتناقضاته الاجتماعية والسياسية المختلفة، والتي بلغت مداها بعد هزيمة يونيو بتخثر الأحلام القومية العريضة، وتأكل المشروع القومي. فقد عرف الواقع الأول ما يمكن تسميته بوضوح الرؤية وتوجه الذات التي تعرف أن عدوها موجود خارجها إلى الخارج. ولذا اتسمت تلك الذات القومية بقدر كبير من الوحدة والتماسك في مواجهة عدو خارجي وأجنبي معا. بينما خبر الواقع الثاني مجموعة جديدة من التناقضات الاجتماعية والسياسية ـ سبقت قليلا مرحلة الاستقلال وأسفرت عن نفسها بوضوح جلي بعده ـ التي أدت إلى انقسام الذات على نفسها. فإذا كان ثمة اتحاد في الهدف في معركة التحرر من الاستعمار، فقد تباينت الرؤى وتعددت الحلول المطروحة لمواجهة قضايا مرحلة ما بعد الاستقلال، بل واحتدم الصراع بين تلك الحلول بشكل خطير. وفي ظل هذا الصراع تبلورت مجموعة أخرى من الخصائص المتصلة بطبيعة العلاقة بين المركز والهوامش على الصعيد القومي العام، وعلى صعيد كل بلد عربي على حدة. فلم تعد مركزية المركز أمرا مسلما به ومقبولا دون توجيه أسئلة التشكيك المدمرة لأسسه وجدواه. وتبدو هذه المسألة على الصعيد القومي من خلال دور مصر الثقافي في الساحة العربية في المرحلة الأولى، وكيف رافق هذا الدور وتحت تأثيره دورها السياسي في بدايات المرحلة الثانية وحتى هزيمة 1967، ثم كيف تراجع هذا الدور بعدها، وما أعقب ذلك من تدمير منظم للمراكز الثقافية العربية الأساسية في بيروت مصر، وكأن التدمير ينتاب فكرة المركزية ذاتها، ويفرض بقوته العاتية حضور الهامشية والتهميش. وظهور منابر جديدة في الأطراف والهوامش، وسيادة المناخ الطارد للمثقفين وتشتيتهم في المنافي، بل وظهور منابر المنافي والمهاجر العربية في أوروبا، وبزوغ مراكز النفط الثقافية وغير ذلك من الظواهر المغيرة لخريطة الثقافة العربية برمتها.
وإذا ما انتقلنا المجموعة الثانية من المتغيرات المتصلة بعلاقة الكاتب والنصوص الروائية العربية المكتوبة في المرحلتين بتراثها النصي من ناحية، وبواقعها الحضاري من ناحية أخرى سنجد أن المرحلة الأولى اتسمت في هذا المجال بتبني مشروع التحديث الأوروبي، وبالنزوع إلى تأسيس مجتمع على أساس النمط الغربي الذي كان مزدهرا وقتها إلى حد كبير. أو على الأقل كانت هذه هي صورته التي تنعكس على مرايا الذات العربية المتطلعة إلى النهوض ببرنامجها التحديثة الطموح. وأدى هذا على صعيد البنية الأدبية إلى تأسيس النماذج الأولى للقص العربي عموما، قصة ورواية ـ باستثناء (حديث عيسى بن هشام) للمويلحي، وهو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها ـ على غرار نماذج غربية معروفة في بعض الأحيان للقارئ العربي من خلال الترجمة. فلم تسع النماذج الأولى من الرواية أو الأقصوصة إلى إقامة حوار مع النصوص العربية القديمة، إذ كان الفكر السلفي عند ذاك في حالة من التعضع فأمكن استبعاده، أو بالأحرى القفز عليه. وكان رأس المال الثقافي الرمزي قد انتقل من ساحة المثقف التقليدي إلى قبضة المثقف العصري الجديد. وشعر النص الأدبي في هذه المرحلة باستقلاله عن التراث وبتأسيسه لبدايات جديدة. ودفعه هذا الاستقلال إلى تكريس حواره مع الأشكال الأدبية الغربية وحدها. وكان أحد أسباب هذا التكريس هو هذا الانفصام الذي عرفته الثقافة العربية في المرحلة التي شهدت بدايات نصوصها السردية الحديثة بين المثقف «العصري» الذي تعلم على النسق الغربي، والمثقف «القديم» أو «التقليدي» الذي تلقى تعليمه في مؤسسات التعليم التقليدية ذات الطابع السلفي. فقد كان عدد كبير من رواد الرواية العربية الحديثة من الذين تنقصهم المعرفة الواسعة بتراثهم الأدبي. أو من الذين وضعوا المعرفة الحديثة المستقاة من المصادر المعرفية الغربية في مركز اهتمامهم، بينما دفعوا المعرفة بتراثهم، وهي معرفة ذات طابع تقليدي، إلى هوامش الاهتمام مهما كانت درجة تعمقهم فيها. فليس المهم هنا المعرفة الكمية في حد ذاتها، لأن آخر ما أرمي إليه هو اتهام رواد الثقافة العربية الحديثة بإهمال التراث أو الجهل به، فلعدد كبير منهم دور مرموق في إرهاف وعينا بأفضل ما فيه. ولكن المهم هو مكانة هذه المعرفة على سلم تراتب القيم المعرفية، ومنزلتها من أولويات الاهتمام. كما أن موقع أغلب كتاب الأجناس الأدبية الحديثة في المعارك المتعددة التي دارت على محور الاستقطاب الحاد بين القديم والجديد تشهد باستدراج المثقف «العصري» إلى فخاخ تهميش معرفته بتراثه.
أما في المرحلة الثانية فقد أصبح الحوار الخلاق مع النص التراثي ضرورة ملحة بعد تبدي بعض ملامح إفلاس المشروع الحديث أو التحديثي. وأخذت مسألة تأسيس المجتمع العصري تنحو صوب الاهتمام بالخصوصية، وإبراز أوجه الاختلاف في المشروع الحضاري كله. وقد رافق ذلك اكتساب الفكر السلفي قوة إضافية نابعة من الحنكة التي كسبها في معاركه مع الجديد من ناحية، ومن أزمة المشروع الغربي في المنطقة من ناحية أخرى، وتردد الحديث في الغرب نفسه عن انهيار الغرب وإفلاسه لدى شبنجلر وأمثاله. وهو حديث مهما تكن هامشيته في الغرب فقد وجد آذانا صاغية لدي المتشككين في جدوى النسخ الحرفي للمشروع الغربي. لكن مرارة المفارقة هنا أن كثيرا من المتشككين هؤلاء كانوا يدعون إلى نسخ حرفي آخر للقديم الذي جعلته نوستالجيا الإخفاقات يبدوا باهرا ومضيئا، وهذا عكس حقيقته. وبالإضافة إلى هذا كله، فقد أصبح تعميق الوعي بالتراث الشفهي منه والمكتوب ضرورة أساسية لأن أشكال الكتابة الحديثة وصلت إلى قلب المؤسسة التقليدية، فأصبح لدينا قصاصون وروائيون ممن تلقوا تعليمهم في الأزهر مثلا بدءا من محمد عبدالحليم عبدالله وسليمان فياض وأبو المعاطي أبو النجا، وحتى عبدالله خيرت وعبده جبير في مصر، وغائب طعمة فرمان في العراق، والطاهر وطار وعبد الحميد هدوقة في الجزائر ممن تلقوا تعليمهم في مؤسسات مشابهة للأزهر في تلك البلاد.
كما أن التركيبة الاجتماعية للكتاب اتجهت نحو الشرائح الاجتماعية الأدنى. فبعد أن كان معظم كتاب المرحلة الأولى من أبناء الطبقات العليا من الأرستوقراطية حتى الشرائح العليا للطبقة المتوسطة، أخذت الرواية العربية في المرحلة الثانية تعرف كتابا انحدروا إليها من الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى وحتى حضيض القاع الاجتماعي مرورا بأبناء العمال والفلاحين. وبالإضافة إلى هذا الاتساع الطبقي في رقعة الكتاب هناك أيضا في تلك المرحلة الثانية ظاهرة ما يمكن تسميته كتابة المسكوت عنه، أو أصوات من لم يكن لهم صوت خاص من قبل، مثل كتابة المرأة التي نمت بشكل ملحوظ في الفترة الثانية، أو كتابة عالم الأقليات العربية المختلفة مثل عالم الأقباط في مصر عند إدوار الخراط، أو الأكراد في سوريا عند سليم بركات، أو الطوارق في الصحراء العربية عند إبراهيم الكوني، أو الشيعة في لبنان عند ليلى بعلبكي وحنان الشيخ وعلوية صبح، وهي كتابات جلبت إلى حقل الرواية مجموعة ثرية من الرؤى والخطابات التي لم تعرفها رواية المرحلة الأولى. ولا تنفصل طبيعة الحوار مع النص التراثي عن إشكاليات هوية النص الروائي الجديد، ومدى وعي الكاتب بدوره في واقعه ودور عمله فيه. ومن هنا انطلق النص الروائي الواثق من حدود هذا الدور في رحلة طويلة لتأسيس ما يمكن تسميته بقواعد الإحاله التقليدية، بما يتصل بها من تقاليد ومواضعات أدبية في نصوص المرحلة الأولى، ثم ارتد على عقبيه في المرحلة الثانية وقد أثقلته أسئلة الشك في كل الرواسي والثوابت لينقض ما أسسته قواعد الإحالة التقليدية من مواضعات وليبدد كل ما رسخته من مصادرات.
يناظر هذه التغيرات في منطلق الكتابة وعلاقة الكاتب بتراثه وواقعه، متغيرات أخرى انتابت قواعد الإحالة وعلاقة النص بالواقع الذي يصدر عنه. وقواعد الإحالة مصطلح نعني به مجموعة القواعد الأساسية المضمرة في النصوص الأدبية والتي تقيم وفقا لها علاقتها الحوارية والجدلية مع الواقع الذي تصدر عنه وتسعى للفاعلية فيه. وكما في المجالين السابقين فقد تغيرت قواعد الإحالة هي الأخرى من قواعد الإحالة الكنائية إلى قواعد الإحالة الاستعارية. وهي تغير ينهض على الاختلاف البنيوي بين الكناية والاستعارة والذي بلورة رومان جاكبسون في دراساته اللغوية، ولكنه ينقله من مجال اللغة والصيغ البلاغية إلى مجال التصنيف والتأريخ الأدبي. وحتى نقدم هذا الفرق الأساسي بين البنيتين بشيء من الإيجاز نشير إلى أن الكناية ـ ومنها تستقى الكنية ـ وشتى صور المجاز المرسل في البلاغة تعتمد على وحدة المجال وعضوية العلاقة بين شقي هذه الصياغات البلاغية. فإذا كنينا رجلا بأبي عليّ، كانت هذه إشارة على علاقة عضوية بينه وبين ابنه علي، أو إذا استخدمنا التاج ونحن نعني الحكم الملكي كانت هذه الإشارة تستخدم الجزئي للتعبير عن الكلي. ومن هنا فإن الحديث عن العلاقة الكنائية بين النص والواقع ينطوي على افتراض أن النص جزء من الواقع، أو تصوير لبعض جوانبه على الورق. وكلما اقتربت الصورة من الأصل كلما زادت قيمتها وعظم تأثيرها. بمعنى أن النص ينهض على نفس القوانين التي ينهض عليها الواقع وعلى استمرارية منطقها وعلاقاتها. أما الاستعارة، فإنها على عكس الكناية تعتمد على اختلاف المجال، وعلى تبايناتها. فإذا قلنا رنت إلينا ظبية، ونحن نعني امرأة جميلة، كان الاختلاف في المجال ضروريا لإحداث التأثير. وكلما اتسعت الفجوة وازدادت حدة الجدل بين المجالين، وتعددت أوجه التشابه وأوجه الاختلاف، وأخذت عناصر التغليب تلعب دورها المراوغ، كلما زادت فاعلية الاستعارة وتعددت إيحاءاتها. وحينما نتحدث عن علاقة استعارية بين النص والواقع فإننا نشير في هذا المجال إلى علاقة بين مجالين نوعيين مختلفين، يدرك كل منهما أهمية الاختلاف، ويتعمد إبراز استقلاليته عن المجال الآخر.
ويفترض مشروع التصنيف الأدبي القائم على هذه التفرقة مجموعة من الأفكار الأساسية:
1. أن الحساسية الأدبية تغيرت مرتين على مد تاريخ الأدب العربي الحديث.
2. أن هذا التغيير انتاب كل أشكال الكتابة لأنه تغيير في جوهر الرؤية، ومن هنا فإنه عابر للأجناس والأشكال الأدبية.
3. أن جوهر التغير كامن أساسا في علاقة النص بالواقع، وقواعد إحالته له.
4. أن الحساسية الأولى أو التقليدية تنهض على أساس علاقة النص الكنائية بالواقع حيث يصور النص نفسه كجزء من هذا الواقع أو امتداد لفظي له واستمرار موقفي لصورته وتصوراته، يخضع لمنطقة الزماني والمكاني، ويحاكي الكثير من ملامحه فنجد مثلا أن هناك علاقة عضوية بين (زقاق المدق) الحارة والرواية، أو بين قرية (أرض) الشرقاوي والقرية المصرية في الثلاثينات.
5. أن الحساسية الجديدة أو الحديثة ـ وهي من الحداثة بمفهومها المعروف ـ تنهض على أساس العلاقة الاستعارية بالواقع، حيث هناك درجة عالية من الانفصال والاستقلال النسبي بين طرفي الاستعارة: النص والواقع. حيث لا يلتزم النص كثيرا بقواعد الزمن الواقعي أو حتى بمنطق المكان فيه. وكلما ازدادت درجة التباين بينهما كلما برزت عملية الجدل المستمر بين العالمين وتبلورت فاعلية الاستعارة النصية.

3. تغير الحساسية الأدبية وتبدل الاستراتيجيات النصية:
أما المجموعة الثالثة من المتغيرات التي ناظرت المجموعتين السابقتين فهي المتغيرات الفنية التي تتعلق بطبيعة الاستراتيجيات النصية، أو ما أدعوه بالمحتوى الدلالي للشكل، ودوافع الأدوات الفنية التي يستخدمها الكاتب في نصه الروائي. ونميز في هذا المجال تصنيفيا وليس تقييميا، بين ما أسميه بكتابة الحساسية التقليدية الروائية وقواعد إحالتها الكنائية، وكتابة الحساسية الجديدة الروائية الحديثة وقواعد إحالتها الاستعارية. بمعنى أن التغير الحاسم في هذا المجال ليس زمنيا وإنما بنيوي ونصي. بمعنى أننا قد نجد رواية كتبت في الأربعينات مثل رواية عادل كامل (مليم الأكبر) أو رواية لويس عوض (العنقاء)، ولكنها تنتمي إلى الحساسية الحديثة. كما يمكننا أن نجد كثيرا من الروايات التي كتبت في السبعينات والثمانينات بل حتى التسعينات وبداية القرن الحادي والعشرين، ولكنها تنتمي إلى رواية قواعد الإحالة الكنائية. ويمكن لنا أن نختار مجموعة من الروايات التي تجسدت فيها قواعد الإحالة الكنائية والحساسية التقليدية وهي في واقع الأمر أكثر الروايات التي كتبت قبل ستينات القرن الماضي مثل روايات: (إبراهيم الكاتب) 1931 لإبراهيم المازني و(عودة الروح) 1932 لتوفيق الحكيم، و(الأطلال) 1934 و(نداء المجهول) 1939 لمحمود تيمور، و(دعاء الكروان) 1942 و(شجرة البؤس) 1944 لطه حسين، وجل روايات نجيب محفوظ من (زقاق المدق) 1947 حتى (ميرامار) 1966 وروايات كثيرة أخرى في الخمسينات لفتحي غانم وعبدالرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس في مصر، ومطاع صفدي (جيل القدر) 1958 وهاني الراهب (المهزومون) 1961 و(شرخ في تاريخ طويل)1969، وحنا مينه (الصراع والعاصفة) 1966 في سوريا، وغسان كنفاني (رجال في الشمس) 1962 في فلسطين، وغائب طعمة فرمان (النخلة والجيران) 1966 و(خمسة أصوات) 1968 في العراق، وعبد الكريم غلاب (سبعة أبواب) 1965 و(دفنا الماضي) 1966 و(المعلم علي) 1971 في المغرب. أما روايات الحساسية الجديدة بقواعد إحالتها الاستعارية فيمكن أيضا أن نضع فيها عددا كبيرا من نصوص نجيب محفوظ الروائية في الثمانينات والتسعينات، وكتابات أغلب كتاب جيل الستينات في مصر من صنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني وعلاء الديب وعبدالحكيم قاسم ومحمد البساطي وإبراهيم أصلان ويحيى الطاهر عبدالله وغيرهم فضلا عن كثير من روايات إدوار الخراط وبدر الديب وغيرهم في مصر، والطيب صالح في السودان، وغالب هلسا ومؤنس الرزاز في الأردن، وإلياس خوري ورشيد الضعيف في لبنان، وحيدر حيدر ونبيل سليمان وخيري الذهبي في سوريا ومحمد برادة ومحمد شكري ومحمد زفزاف في المغرب، وكتاب أخرين في بقية البلدان العربية على سبيل المثال لا الحصر. فهذه فقط نماذج لكي لايكون التوصيف النصي تجريديا. وسوف نبين بسرعة طبيعة تجليات هذه المتغيرات النصية:
1. من حيث المنطلق: كانت هناك درجة من الوثوقية النابعة من تبني إنجازات العلوم العقلية في التعامل مع الظواهر الإنسانية، وكانت هناك أرضية مشتركة أو درجة من التماثل بين الكاتب والقارئ تساعد على التنبوء وتخلق التوقعات. فأصبح استشراف أبعاد العملية الإدراكية والسلوك القصدي يحتلان مكانه رئيسية في تناول الظاهرة الإنسانية، ولم يعد ممكنا الفصل بين الذات والموضوع، وأختفى أي تصور لوجود حقائق مشتركة، وأصبح كل من الكاتب والقارئ أفراد مختلفين لكل منهم منطلقه الخاص في الرؤية والتأويل.
كان القص التقليدي يعتبر نفسه معادلا للحياة وكانت المباراة الروائية مباراة في دقة المحاكاة واقتناص التفاصيل، فأصبح مجموعة من المواضعات الأدبية، تبددت معها خرافة مضاهاة الواقع، مع تزايد الوعي بنصية النصي ووقائعية الواقعي. وانفتح المجال أمام احتمالات تأويلية واستعارية لانهاية لها، وانتهى الكاتب الواثق العليم بكل شيء من داخل النص وحل مكانه مؤلف غائب أو ذات تثقلها الشكوك.
2. من حيث البنية الروائية: كانت البنية تعتمد على واحدية المنظور وواحدية الصوت، وواحدية المنطلق، وكانت هذه الواحدية تضفي على البنية تماسكها الداخلي، وتساهم في بلورة حبكة روائية تتسم بالإحكام والبساطة والتسلسل الخطي معا، فأصبحت تلك البنية تعتمد على تعددية المنظور وتباين الأصوات بل وتنافرها، وأخذت بعض أجزاء الحبكة تريق الشك على أجزائها الأخرى، وأدى هذا إلى خلخلة مفهوم الحبكة كلية، وحلت مكانها علاقات التجاور والتنافر كوسيلة لخلق تماسك مغاير في النص.
وكانت الروابط التي تخلق المنطق الداخلي للنص تعتمد على التتابع السببي والتسلسل المنطقي للأحداث، فلم تعد الأحداث مترابطة بالشكل التقليدي، وإنما استنت لها منطقا مغايرا يعتمد على الجدل والحوار بين الخصائص الكيفية المتضادة وترجيع الأصداء.
وكان الموضوع الروائي يحتل مكان الصدارة، وكانت استراتيجيات القص تستخدم وكأنها أدوات تقتنص القارئ في شبكة الحبكة، فتراجع الموضوع من الواجهة، وحلت مكانه استراتيجيات القص في محاولة لإبراز وعي النص بنصيته قبل وعيه بمرجعيته.
وكان الشكل الفني يتسم بقدر كبير من الثبات حيث وجدنا نجيب محفوظ يكتب عدة روايات في شكل واحد قبل أن ينتقل لآخر فيكتب فيه عدة روايات أخرى وهكذا. فاتسم الشكل بقدر كبير من الحركية، وأخذ يتغير من رواية إلى أخرى، بل ويتغير أحيانا داخل الرواية الواحدة. واتسمت الرواية بالثراء التجريبي وتعدد المنظورات وسيولة الرؤية. وازداد انشغال النص بروائيته بعدما كان مشغولا بالمواضعات الفنية المتعارف عليها، وعزت ساحته مجموعة من الخطابات الأخرى المستقاة من تقاليد نصية مغايرة مثل الخطاب التاريخي أو الوثائقي أو السياسي أو الصوفي والإحصائي، وحتى الخطاب النقدي والتفكيكي.
3. من حيث الفضاء الروائي: كان الفضاء الروائي قادرا على احتواء العناصر المختلفة دون الوعي بتناقضاتها الداخلية، بل كان مشغولا ببلورة عوامل التناغم والتضافر، فأصبح ساحة للصراع الدائم بين الرؤى والأصوات المتصارعة، وفضاءا مشحونا بالتوتر. ودخلت العلاقة بين الإنسان والمكان مرحلة جديدة أصبح فيها المكان شرط الوجود ذاته.
وكان هناك نوع من الوحدة المكانية ومن سيطرة الإنسان على الجغرافيا، أي كان الإنسان سيد المكان لأنه يشعر بأنه سيد مصيره، ويثق في سيطرته العقلية إن لم تكن المادية أيضا عليه. فأصبح هناك نوع من التشتت المكاني، وفقدان السيطرة والاتجاه. ومن هنا كان ثمة ولع واضح بالمتاهة وبسيطرة المكان على الإنسان، وبفقدان القدرة على الفهم مما يزيد الإنسان غربة عن الفضاء الذي يعيش فيه ويعانيه. ومن هنا كان من الطبيعي أن يتسم تناول المكان بقدر من الحيادية، في عالم لايعبأ بالإنسان، ولايستجيب لسيطرته عليه. وأن يتسم المكان بسمات أسطورية أو خيالية تجعل له وجودا مستقلا يحاور وجود الشخصيات.
4. من حيث الشخصية الروائية: كانت حرية الشخصية في التعبير عن نفسها محدودة، وكان اعتمادها على صوت المؤلف العالم بكل شيء المسيطر بقبضته الأبوية الصارمة على كل شيء شبه كلي. فأصبح صوت الشخصية أبرز من صوت المؤلف الذي أخذ في التواري، وفقد الكثير من وثوقيته وسيطرته الصارمة على العالم، بل تسربت نغمة الاحتمالية إلى تناوله للموقف الروائي فجعله مفتوحا للشك وهو يصف الشخصيات، أو يتناول خصائصها وسلوكها ودوافع تصرفاتها.
وكانت الفجوة بين المعلومات المتاحة للقارئ عن الوقائع القصصية ومكونات العالم الروائي وبين ما هو متاح للشخصية عن نفس هذين الموضوعين هي التي تعطي القارئ نشوة الاستمتاع بالتفوق المعرفي المؤقت في الرواية التقليدية. فسعت استراتيجيات القص الحديثة إلى الإجهاز على هذا التفوق المعرفي الساذج، بل أدخلت القارئ في متاهة المعضلات الإنسانية التي تعاني منها الشخصيات. لا من منطلق التعاطف أو التماثل معها، وإنما من منطلق الاكتشاف الذي يتطلب درجة واضحة من درجات الانفصال عن الموقف الروائي.
كانت الشخصية تتسم بالاتساق، وفي كثير من الأحيان بالنمطية، لأن الشخصية كالرواية نفسها كانت تطمح إلى محاكاة الواقع الخارجي، وكانت الأدوار التي تجسدها تلك الشخصيات تطمح إلى أن تكون التجسيد الأمثل لها، كما هو الحال في السيد أحمد عبدالجواد الذي أصبح نمطا على شخصية الأب التقليدي وعلى مرحلة كاملة من الوجود الاجتماعي. ففقدت الشخصية هذا الثبات وتلك النمطية، في عالم لم يعد الإنسان فيه قادرا على السيطرة على الواقع الخارجي، وعاجزا عن فهم إشكالياته المعقدة. وأصبحت الشخصية الروائية ممعنة في التفرد بعد أن طرحت من أفقها أية مزاعم في تمثيل أي شيء عداها.
كانت الشخصية جزءا من البنية المركزية للحبكة، ومن هنا كان مفهوم البطولة في مستوياته المختلفة من مستوى البنية الروائية التي تتطلب أن يكون للنص أبطاله وشخصياته الثانوية، وحتى المستوى القيمي الذي يجعل البطولة مصدرا للإلهام الروائي من الأبطال التاريخيين وحتى أبطال الأساطير، فأصبحت الشخصيات الرئيسية في النص الروائي من أكثر شرائح المجتمع هامشية على مستوى الواقع وعلى مستوى الرؤية على السواء، ولم يعد للنص بطلا بأي مفهوم من المفاهيم، وإنما أصحبت به شبكة من العلاقات المعقدة التي تجعل كل الشخصيات على نفس القدر من الأهمية.
5. من حيث اللغة الروائية: كانت الجملة الروائية نثريةبالمعنى الشامل في هذا المجال، والذي قد يتطلب تمهلا أمام مكونات اللغة النثرية وخصائصها. وكانت النثرية جزءا من الرؤية اللغوية ذاتها بمعنى أن اللغة الروائية لا تتجاوز إطال المتداول والمسموح به. فجنحت اللغة إلى الاقتراب من آفاق الشعر بالمعنى العميق لا الإيقاعي للشعر. وسعت إلى تفجير البنية اللغوية من الناحيتين السياقية والدلالية معا. ولم تتردد في اجتراح المحرمات او انتهاك المقدسات أو التعبير عن كل ما كان مسكوتا عنه من قبل.
كانت لغة القص أقرب إلى السرد التقريري المرتبط بسيطرة الكاتب المركزية على النص. وكان الإيقاع اللغوي سلسا وتقليديا مهما كان احتدام المشاعر، وكان الخلاف حول المستويات اللغوية ـ إذا ما طرح ـ يأخذ شكل المناظرة بين استخدام الفصحى أو اللجوء إلى العامية. فتخلت اللغة عن تقريريتها، واختفى السرد ليحل محله القص بكل استراتيجياته الشكية الحديثة. واستعار هذا القص الحديث مفردات الخطابات الأخرى ولغاتها من الخطاب التاريخي التراثي حتى الخطاب الصوفي أو الوثائقي. وتعددت اللغات والإيقاعات مع تعدد الرؤى وتنوع الأصوات. ولم يعد الخلاف بين العامية والفصحى مطروحا، لأنها وجدا أكثر من صيغة للتعايش والتفاعل داخل النص الروائي. بالصورة التي تغيرت معها كلية جماليات الأسلوب وأصبح من الممكن الحديث عن جماليات القبح.

4. القطيعة المعرفية وجماليات الأفق المسدود:
إذا كنا قد تحدثنا حتى الآن عن ثلاث مجموعات من المتغيرات الحضارية والموقفية والنصية التي صاغت تحول الخطاب الروائي من قواعد الإحالة الكنائية إلى قواعد الإحالة الاستعارية فلابد هنا وقبل الحديث عن التغير الثالث الذي انتاب الخطاب الروائي مع وفود جيل التسعينات الجديد إلى ساحة الكتابة الروائية، وقطيعته المعرفية مع كثير من منطلقات المرحلتين السابقتين، لابد لنا أولا من تأكيد صدور المرحلتين اللتين تحدثنا عنهما حتى الآن عن يقين كامل لدى الكتاب جميعا، منذ محمد حسين هيكل وحتى الجيل الذى تلا جيل الستينات في مصر من أمثال يوسف أبورية وسلوى بكر ومحمود الورداني ومحمد ناجي وغيرهم، بأهمية النزعة الإنسانية والمعرفة العقلية، وبالقدرة لا على فهم العالم فحسب، وإنما على تغييره إلى الأفضل. وكان انتقال رأس المال الرمزي إلى المثقف «العصري» من عوامل تعزيز ثقته بقدرته على أن يحقق ما يريد لنفسه ولشعبه على السواء. فكل فكر الاستنارة الغربي الذي تتلمذ عليه الرواد ينهض على النزعة الإنسانية الغربية والمعرفة العقلية وضرورة أن يكون باستطاعة الإنسان «أن يكون ما يريد». لذلك كان مشروع الثورة الفرنسية الفكري ينهض على فصل الكنيسة عن الدولة، أي فصل المؤسسة التي تسعى لإخضاع البشر لإرادتها باعتبارها إرادة سماوية، أي مؤسسة الكنيسة، عن تلك التي تسعى للتعبير عن الإرادة البشرية، أي مؤسسة الدولة الحديثة. وإذا ما تأملنا طبيعة هذه النزعة الإنسانية في تاريخنا العربي الحديث سنجد أنها هي التي رادت مشروع التحديث المصري منذ محمد علي وحتى جمال عبدالناصر، بالرغم من الطبيعة الاستبدادية لنظم الحكم التي تبنته، أو شرعت في القيام به. وبالرغم من اقتصار الإرادة على حفنة صغيرة من البشر تحقق كينونتها على حساب الآخرين، وتتعلل كثيرا بأنها تحققها باسم الآخرين ومن أجلهم. فقد كان لكل من أصحاب هذا المشروع التحديثي ما أراد، حتى ولو لم يشرك معه أبناء وطنه في صياغة هذه الإرادة، وإن قسر الكثيرين منهم على تحقيقها. وكانت هذه النزعة الإنسانية وأسسها الفلسفية العميقة هي التي دعت رفاعة رافع الطهطاوي إلى استقطاب فكر النهضة الغربي داخل إطار من التأويل العقلي للإسلام، ورؤية تعاليمه باعتبارها تعاليم إنسانية ما أن يتبناها غير المسلم حتى يحقق عبرها تقدمه. وهي أيضا التي دعت الشيخ محمد عبده إلى قول مقولته المأثورة لقد رأيت في أوروبا الإسلام ولكني لم أجد المسلمين، وعندما عدت إلى مصر وجدت مسلمين ولكني لم أجد إسلاما.
وإذا ما انتقلنا الآن إلى الأدب فإننا سنجد أن هذه النزعة الإنسانية كانت منطلق الرواية العربية منذ بداياتها الباكرة. فسر تعاطفنا مع (زينب) محمد حسين هيكل هو عجزها عن «تحقيق ما أرادته لنفسها»، وهذا نفسه هو سر تعاطفنا مع «حميدة» بطلة (زقاق المدق) لنجيب محفوظ التي لم يكن لها هم إلا أن تكون ماتريد، والتي تآمرت الظروف من حولها للحيلولة دون أن تمنحها الحرية والإمكانات كي تحقق هذه الكينونة، وانتهت بها إلى هذه النهاية المأساوية. بل إن معظم روايات جيل نجيب محفوظ والجيل التالي له ليست إلا محاولات متعددة لترسيخ هذا الأساس الفكري بين القراء. وقد بلغ هذا التأسيس ذروته في «ثلاثية» نجيب محفوظ العظيمة لأن سر اهتمامنا ببطلها كمال عبدالجواد، وتوحدنا معه هو قدرته على أن يعمل العقل ليكون «ما أراده لنفسه» بالرغم من تسلط النزعة الأبوية ورفضها لإرادته. بل إن أخذ هذه المصادرات الإنسانية بعين الاعتبار هي التي تمكننا من تأويل الثلاثية تأويلا صحيحا باعتبارها رواية انهيار التسلط الأبوي، وميلاد الإبن المستقل، والأحفاد ذوي النزعات الحرة والاجتهادات الإنسانية المتضاربة والمتفردة في آن. وظلت هذه الافتراضات ثاوية في أحدث روايات محمد البساطي مثلا مثل (جوع) أو (دق الطبول) وبهاء طاهر مثل (نقطة النور) أو (واحة الغروب) وصنع الله إبراهيم مثل (التلصص) وفؤاد التكرلي مثل (اللاسؤال واللاجواب) وغيرها كثير.
ومن هنا فإن افتراضات هذه النزعة الإنسانية هي التي رادت الرواية العربية منذ بداياتها مع هيكل وتوفيق الحكيم وحتى مرحلة الثمانينات، وهي التي انطلقت منها الأجيال المتعاقبة من الروائيين منذ جيل الرواد وحتى جيل الستينات. فقد تكون جيل الستينات هذا في إطار هذه النزعة الإنسانية العقلية، وتفتح وعيه على المشروع الناصري الذي يستهدف تحقيق إرادة قطاعات واسعة من الشعب المصري والعربي في التحرر والاستقلال السياسي والاقتصادي. صحيح أن وعيه بتناقضات هذا المشروع الناصري هو الذي أدخله في صراع معلن ومضمر معا معه، وهو الذي استلزم البحث عن أدوات تعبيرية جديدة لبلورة هذا الصراع وتجسيد تناقضاته، لكن هذا الصراع نفسه أرهف وعيه بإمكانية تحقيق إرادته ولم يوهنها. وكرس انطلاقه من رواسي هذه النزعة الإنسانية التي تعتقد بمركزية الإنسان، وبقدرته لا على فهم واقعه فحسب، وإنما على تغييره كذلك. فجل أعمال كتاب جيل الستينات الروائية تكتسب حدتها النقدية من هذه الرغبة الحارقة في تغيير العالم والتي تتخلل كل تفاصيل هذه الروايات، ولا يمكن فهمها بحق دونها. وكل برنامج للتغيير لا ينطوي على فهم للواقع الذي صدر عنه فحسب، وإنما على نقد له، وتصور مضمر للتغلب على كل مسالبه كذلك، فضلا عن يقين عميق بأن هم كلا النقد والتغيير هو الإنسان الذي لايزال في مركز الاهتمام، بل مركز الكون الإبداعي ذاته.
لكن الأمر اختلف عن ذلك اختلافا جذريا مع ظهور جيل التسعينات في الرواية المصرية. فإذا كانت النزعة الإنسانية تنهض على مركزية الإنسان، وخاصة الإرادة الإنسانية، فكيف لمثل هذه النزعة أن تجد لنفسها صدى لدى شباب التسعينات في مصر الذي يجد نفسه مهمشا وليس مركزيا، وتعصف كل الظروف المحيطة بإرادته، بل تزري بها كل تناقضات الحياة اليومية في مصر. حيث يتعرض الشباب خاصة لشتى صنوف الهوان والعنف الرمزي والفعلي على السواء. فكلما ازداد وعي هذا الشاب التسعيني بما يدور في الواقع المحلي، والعالم من ورائه، حوله كلما ازداد إحساسه باستحكام الأزمة القومية والشخصية على السواء، وتعمق وعيه بتناقضات الواقع الاجتماعي والاقتصادي من حوله، وتفاقم شعوره بالإحباط والعجز واليأس والمهانة. في هذا المناخ يشعر الشباب ـ وعن حق ـ بانسداد الأفق أمامهم كلية. فكل كل شيئ حوله يهمشه ولا يعبأ به. ويجعله يحس بانعدام إمكانيات تحقيق إرادته إلى أقصى حد، إلا في حدود تدمير الذات، أي في حدود السيطرة على جسده فحسب. وهذا هو السر في تنامي كتابة الجسد بين هؤلاء الشبان لأنها المنطقة الوحيدة التي يستطيع هذا الجيل تحقيق إرادته فيها.
ومع إنسداد الأفق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي على السواء، بدأت القطيعة مع كل مصادرات النزعة الإنسانية التي يعي هذا الجيل، أكثر من غيره من أجيال الرواية العربية منذ محمد حسين هيكل وحتى جيل الستينات، عيوب النزعة الإنسانية وجنوحها إلى إضفاء طابع مثالي وكلي على التجربة الإنسانية، وتغليب الأمل عى اليأس فيها. فأي نزعة إنسانية يمكن تبنيها في عالم تسوده قوانين الغابة وحدها، وتتفشى فيه كل صنوف البلطجة والبذاءات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على السواء. فثمة ـ لدى هذا الجيل ـ إحساس طاغ بأن التجربة الموحدة التي كانت تؤمن بها الجموع قد تناءت إلى منطقة بعيدة عن إدراك الذات الحديثة، وأن ثمة نوع من المرض أو قل الفساد قد تسرب إلى بنية الثقافة ذاتها، وأدى إلى تفشي نوع من الإحساس المؤلم بالذنب دونما جريرة. ولذلك فهو ذنب عبثي إلى حد ما، لأنه لا جريرة للذات فيه ولا مسئولية لها عنه. ويتخلل هذا الإحساس المر بالذنب كل كتابات هذا الجيل الشعرية منها والنثرية، ولكنه أوضح ما يكون في الرواية المصرية الجديدة. حيث الإنسان فيها مجرد (الصفر الحادي والعشرون) يأكل الخوف روحه، وتدفعه مواضعات الواقع خارج الزمن ولا يكاد يعثر لنفسه إن كان محظوظا على (دكة حشبية تسع اثنين بالكاد)، أو يتخبط في (هراء متاهة قوطية) أملا في الارتفاع (فوق الحياة قليلا) ويتحرك (داخل نقطة هوائية) في (مدينة اللذة) الكابوسية الخاوية. والمرأة في هذا العالم الغريب ليست إلا (قميص وردي فارغ) في عالم لايعد بأي امتلاء، يريد أن يدفعها من جديد إلى (الخباء) الذي توهمت المرأة قبلها أنها قد تحررت منه.
في هذا العالم التسعيني الجديد لم يعد ممكنا اللجوء إلى بنية نسقية ذات تطور منطقي كما كان الحال في روايات نجيب محفوظ الواقعية بمصادراتها الإنسانية الراسخة، لأن هذه المصادرات قد تعرضت للتزعزع ـ كما ذكرت ـ ولأن الواقع نفسه وقد غاب عنه المنطق ذاته لم يعد يتسم بالنسقية والتطور والنظام. ولم يعد الخاص انعكاسا للعام، بل أصبح نوعا من الصدام المستمر معه بعدما استحال التوفيق بينهما. وأصبحت ثمة حاجة إلى نزعة جديدة هي نزعة الرفض التمردية التي يؤكد عبرها الخاص رفضه للعام، أو يعلن عبرها على الأقل عدم إذعانه له، ورفضه للوقوع تحت سلطانه. فبدلا من البنية القديمة «بداية ـ وسط ـ نهاية» استبعدت البنية الجديدة الوسط من حسابها، مما يؤدي إلى الإخلال بتوازن العالم المقدم وطرح إشكالياته الكيانية في المقدمة. لكن الانشغال بالهاجس الكياني في هذه الأعمال ليس توجها محسوبا، ولكنه أقرب إلى الارتجال العفوي أو الهم الحدسي، منه إلى الشاغل العقلي المبرمج.
فمع فقدان الهاجس المعرفي لمركزيته، والمتون الفكرية الكبرى grand narratives لمصداقيتها ومشروعيتها، لم يعد بمقدور الذات الكاتبة الجوء إلي منطق التراتب القيمي والمعنوي والذي تعتمد عليه بنية التسلسل المنطقي السببية «بداية ـ وسط ـ نهاية» لأن الأساس المعرفي الذي ترتكن إليه هذ البنية ذاتها فقد هو الأخر مصداقيته، وما عاد باستطاعة الذات الكاتبة الاستكانة إلى صلابته. ومن هنا أصبح علي الكاتب التعامل مع سرود عديدة متصارعة تستهدف تقديم الواقع أو احتيازه أو تمثيله، فيما يعرف في السرد الحديث بمصطلح competing representations of reality التي لايمكن الاعتماد فيها على علاقات التراتب القديمة، وإنما على علاقات التجاور الذي لا يعرف الكاتب قبل راويه منطق وجودها ولا سلطان له عليها، أو لاقدرة له على التحكم فيها. فالذات الكاتبة لم تعد صاحبة الوعي المركزي المضمر المسيطر على النص، كما كان الحال مع المنطلق المعرفي للرواية. وحتى نتعرف على طبيعة هذا التجاور لابد أولا من معرفة المنطلق الفكري له، ونوعية القطيعة المعرفية وما ترتب عليها من نقلة فكرية مهمة في هذا المجال.
إذا ما أردنا البحث عن الجوهر الفلسفي للقطيعة المعرفية مع النزعة الإنسانية الحداثية القديمة، أو القاسم المشترك الذي يميز مجموعة التغيرات التي تدعونا إلى البحث في جماليات الرواية الجديدة في مصر، سنجد أن فقدان الثقة في النزعة الإنسانية قد عبر عن نفسه فكريا في جل هذه النصوص من خلال الانتقال على الصعيد الفلسفي أو على صعيد المصادرات المنطلقية من الانشغال بالهاجس المعرفي epistemological إلى التعامل مع الهاجس الكياني ontological ـ أو الوجودي بالمعنى الفلسفي المطلق الذي يتعلق بوجود الشيئ وكينونته. بمعنى «تأييس الأيس من ليس» كما يقول الكندي، وليس بالمعني السارتري الشهير للكينونه. وقد تجسد هذا الأمر في التغير الذي انتاب الأسئلة التي يطرحها إنسان النص علي نفسه من: «كيف يمكنني تفسير هذا العالم وأنا جزء منه؟ ما هو موقعي فيه وموقفي منه؟» إلى: «أي عالم هذا؟ ماذا يمكنني أن أعمل فيه؟ وأي جزء من نفسي المنقسمة على نفسها تنهض بهذا الممكن؟» فبدلا من الأسئلة المعرفية التي كان يضج بها النص الحداثي: ماذا يمكن معرفته؟ ومن الذي يعرف؟ وكيف تأتى له الوصول إلى هذه المعرفة؟ وما هو مدى يقينية هذه المعرفة؟ وكيف نثق فيما يرويه لنا الراوي؟، وما هي الحدود بين الذاتي والموضوعي؟ وهل يمكن حقا أن يكون ثمة قص موضوعي؟ وكيف تنتقل المعرفة من عارف إلى آخر؟ وكيف يتغرير موضوع المعرفة بمجرد انتقاله من عارف إلى آخر؟ وإلى أي حد نعوّل على هذه المعرفة؟ وما هي حدود المعرفة؟
بدلا من كل هذه الأسئلة المعرفية أصبح النص التسعيني الجديد مشغولا بنوع آخر من الأسئلة الأنطولوجية أو الكيانية المتعلقة بكينونة العالم والإنسان معا: ما هو العالم؟ أي عالم هذا؟ وكيف يتكون هذا العالم؟ ولماذا يتكون بهذا الشكل؟ وكيف يختلف عالمنا هذا عن غيره من العوالم؟ وماذا يحدث حينما تتواجه العوالم المختلفة؟ ومذا يجري عندما تنتهك الحدود بين العوالم؟ هل يمكن حقا القول بوجود نص روائي؟ وما هي صيغة وجود النص؟ وكيف تتحقق كينونته ذاتها؟ أو كيف تتخلق حركيته؟ وما هي صيغ وجود العوالم التي يجسدها النص؟ وكيف تنبني هذه العوالم النصية؟ وغير ذلك من الأسئلة الكيانية. وليست هذه أسئلة بدئية، بمعنى أن الكاتب يطرحها على نفسه ويخرج منها بموقف يبني عليه عالمه، ولكنها أسئلة يطرحها النص في ساحته وينشغل بها على الدوام بطريقة حدسية في المحل الأول. إنها الأسئلة التي تحرك بنيته وتتشكل عبرها غائيته، وتصاغ من خلال معاظلتها علاقات مفرداته الداخلية.
فالنص الروائي الجديد يضع كل شيئ تحت الممحاة Sous Rature بالمعنى الذي بلوره المفكر الفرنسي الشهير جاك ديريدا من جري مستمر وراء الكلمات التي محتها الكلمة المستخدمة، وحورتها، واستبعدت بعض دلالاتها، وأضفت عليها ظلالا وإيحاءات جديدة. وبالمعنى المباشر أيضا الذي يختلف عن معنى ديريدا معنى الإزالة والتقويض، معنى محو كل ما هو رازح وثابت، معنى البدء من جديد دون الاعتراف بأي مواضعات قديمة أو قواعد مكرسة. لأنه وهو يجد أن كل شيئ يمكن محوه، ويمكن تحديه، يكتسب من هذه الإمكانية نوعا من الأمل الخاص. فالمحو في نصوص هذه الكتابة الجديدة ليس تحديا لواقع من أجل فرض بديل له، ولكنه مجرد نزع لمصداقية هذا الواقع عنه، دون التفكير في طرح أي بديل. فقد فقد الكاتب الرغبة في التحدي، وفقد معها كل أمل زائف في البطولة مع نزعه قناع اليقين الأيديولوجي عن مفردات الواقع والكشف عما فيهما معا من خواء. لأن هذا الكشف في نظره هو البداية الضرورية لتأسيس أي شيئ مغاير، وهو المنطلق الأساسي للكتابة التي تعمل الممحاة في كل ما هو مدون، قبل أن تشرع في تدوينها الخاص على أنقاض هذا الممحي، بل تكون عالمها ذاته من هذه الأنقاض المهشمة ذاتها. ومن هنا نجد أن البتر والتهشيم من سمات هذه الكتابة اللغوية والدلالية كذلك. هو بتر للغة لم تترسخ بعد، لذلك يبدو في كثير من الأحيان وكأنه عجز لغوي لا بتر للمفردات، لأن المفردات عندها هي العالم، ولا عالم لديها خارجها. وأن جمالياتها ليست جماليات الصقل والكليات، وإنما هي جماليات التجاور والتجميع والجزئيات، أو ما أود دعوته بجماليات الفسيفساء.
والواقع أن الحيرة أو المتاهة المعرفية التي ينطوي عليها النص الحداثي هي بلاشك المقدمة الضرورية للمتاهة الأنطولوجية/ الكيانية التي ينهض عليها النص التسعيني الجديد. فما أن تصل الحيرة المعرفية إلى أفق مسدود، يتحطم فيه منطق التوقعات، وتسود العبثية بأسواء معانيها، حتى تبدأ أسئلة الحيرة الكيانية في التخلق: أي عالم هذا؟ لكن هذه الأسئلة إذا ما تنامت وتضاعفت وتعقدت ما تلتبث أن تقود من جديد إلى متاهة معرفية من نوع آخر. وهذا ما يؤكد جدلية العلاقة بين الحداثة وما بعد الحداثة بالمعنيين الزمني والمفهومي معا. فالعلاقة بينهما ليست خطية، ولكنها جدلية ودائرية. فإذا كان ميشيل فوكو من الذين غيروا مفهومنا للبنية باعتبارها غير مستقلة عن أنساق المعرفة والسلطة/القوة، بل تتخللهما بنفس القدر الذي يتخللانها، وأخرجها بذلك من دائرة التبسيط، إلى الاشتباك بحركية هذه المتاهة المعرفية/ الكيانية/ المعرفية مرة أخرى. فإن بنية الخطاب السردي نفسه سرعان ما فقدت وضوحها وشفافيتها، ولم تعد منفصلة عن هذه الجدلية المعقدة بين المعرفة والسلطة/القوة. فقد أكد فوكو أنها ليست البنية وحدها هي التي تساهم في فهمنا لذواتنا وللواقع من حولنا، ولكنها الطريقة التي تتفاعل بها السلطة/القوة مع المعرفة، و تتخللها بها وتتقاطع معها، هي التي تكشف لنا عمليات القطع والقفزات وعدم الاستمرارية في التاريخ البشري. وأن كشف هذه الآلية هو الذي يفتح الطريق أمام الفهم. فالقوة عند فوكو ليست شيئا موجودا بصورة مستقلة خارجنا وإنما هي تتخللنا وتمارس فعاليتها بنا وتغيرنا وتؤثر فينا في وقت واحد، وهذه ليست عمليات متعاقبة ولكنها متراكبة ومتداخلة ومتزامنة معا، مما يجعل من الصعب علينا الفصل بينها أو عزل أي بعد منها عن أبعادها الأخرى.
وهذا ما يتحقق بشكل له خصوصيته وفرادته بالطبع في النص الروائي التسعيني الجديد. فالمنطلق الذي تنطلق منه هذه الحساسية الأدبية الجديدة منطلق شكي واحتراسي في المحل الأول. يطرح كل المقولات اليقينية والافتراضات المسلم بها عن الأعراف والمواضعات الاجتماعية منها والأدبية وراء ظهره. ويعي مدى ما في الأشياء والمواقف والشخصيات من التباس وازدواجية وتداخل وتعقيد. فهي حساسية تعتمد على التجاور بين الذاتي التأملي والواقعي التاريخي. والتجاور هنا هو التجاور المحايد الذي لايؤكد أحدهما على حساب الآخر، كما فعلت الواقعية في تأكيدها للواقعي والموضوعي على حساب الذاتي، أو كما فعلت الحداثة في إعلائها لشأن الذاتي والفردي علي حساب الموضوعي والجمعي. وفي برهنتها على أن المسافة بين الذاتي والموضوعي توشك ألا يكون لها أي وجود محسوس أو مستقل. إنه تجاور محايد يبلغ فيه الحياد درجة اللامبالاة المطلقة بكليهما. تجاور يبدو فيه بوضوح عدم الاكتراث بأي منهما، وكأنما التقط تفاصيلهما عابر سبيل وضعها بمحض الصدفة بجوار بعضها البعض بالصورة الاعتباطية التي تبدو عليها كثيرا في النص. فالحياد البادي الذي يتجلى في كل النصوص التسعينية الجديدة ليس خاليا من الموقف، ولكنه ينطوي على رفض قطعي لكل المواقف الأحادية واليقينية المسبقة، ويطرح بدلا منها الشك والتعددية. كما أنه حياد يلغي تراتبات الواقع الجائرة التي ينهض عليها المجتمع الجديد من ساحته، بل يسخر منها. فهي عنده تراتبات فاقدة لكل مصداقية ولا مشروعية لها. لذلك يستبدل بها التجاور الذي يبدو محايدا، ولكنه يتعمد في حياده ذاك إلغاء كل تراتب.
فوعي السرد التسعيني الجديد بسرديته ونصيته، وإعلانه لهذا الوعي في ساحة النص نفسه، وما يبدو وكأنه نوع من الغرام بتفكيك العملية الإبداعية أثناء صيرورتها الكتابية، ليس نوعا من الترف أو اللعب الإسلوبي، وإنما هو التجلي الواضح لفقدان الذات الكاتبة ليقينها القديم من ناحية، وعجزها عن أن تكون الوعي المركزي المسيطر على النص من ناحية أخرى. إنها شكل علاقة القوى الجديدة بعد أن استنزفت التغييرات الجديدة قواها. وهي بنت الوعي بوجود الإنسان وسط غابة من السرود المتضاربة والمتنازعة contestational narratives والتي تتطلب منه باستمرار الشك في مصداقيتها والسخرية من مشروعيتها المدّعاة. وهو وعي يدرك أن وجود هذه السرود المتضاربة خارج النص ليس وجودا مستقلا عن النص، وإنما يوجد النص بها وفيها، وتتشكل ماهيته عبر اشتباكاته المستمرة بغابتها الكثيفة. ومن المثير للدهشة أن هذا الوعي المضمر والحدسي في النصوص التسعينية الجديدة بالوجود في غابة السرود المتضاربة والمتنازعة وبها، هو المسؤول في تصوري عن تلك النقلة التي حققها من السرد المتعدي إلى السرد اللازم ـ وهو مصطلح مستعار من كتب النحو، حيث تنقسم الأفعال نحويا إلى أفعال متعدية وأفعال لازمة لا يمتد تأثير فاعلها إلى مفعول إلا من خلال وسيط ـ . فقد كان السرد القديم سردا متعديا كالفعل المتعدي الذي يمتد تأثيره إلى أكثر من مفعول به أو فيه أو معه، أما السرد التسعيني الجديد، وبرغم وعيه بسرديته، فإنه كالفعل اللازم الذي لا يمتد تأثيره خارج جدود فاعله إلى أي مفعول به. أي أن السرد العفوي أو الجزافي لا يطمح ـ ظاهريا على الأقل ـ إلى تغيير العالم كما كان الحال في السرد القديم، ولا حتى إلى التأثير في القارئ. إنه سرد مكتف بذاته، كالأفعال اللازمة التي ينتهي دورها بمجرد القيام بها، ولا يمتد تأثيرها إلى خارج نطاق فاعلها. ولذلك فإن فك شفرات هذا السرد أصعب من فك شفرات سابقه الذي يمكن الاستفاده في عملية فكه من كل العناصر الخارجية عنه، ومن المفاعيل التي يمتد تأثيره إليها.
ويتطلب هذا اللزوم السردي من القارئ منزعين متضاربين: أولهما الانفصال عن النص والتعامل معه بشكية، وثانيهما الانخراط فيه دون التماهي معه، وسبر أعماقه الدلالية، واستشفاف المضمر فيه. وتضارب المنزعين هو ما يجهز على نزعة التماهي مع المسرود من ناحية، ويتطلب البحث في آليات التلقي الجديد من ناحية أخرى. إذ ينطلق هذا السرد من الوعي بأن ثمة عالما جديدا ينبغي تقديمه في السرد، وأن تقديم هذا العالم الجديد يختلف ثقافيا وإيقاعيا وموقفيا عن العالم القديم، ويستدعي بالضرورة القطيعة مع أدوات العالم القديم ومنطقه وجمالياته. والتعددية هي إحدى الأجوبة التي تطرحها الكتابة الجديدة على الوضع المتأزم الذي وجدت فيه الكتابة السردية نفسها إزاء متغيرات الواقع الصادمة. خاصة وأن هذه التعددية تتيح للمهمشين الذين عانوا من قبل من الإهمال وضعا مساويا، لذلك الوضع الذي يستأثر به من هم في الصدارة ومركز الاهتمام. صحيح أن ثمة تعددية في المنطلق الحداثي، ولكن الفرق بين التعدديتين أن الأولى تتبنى مصادرات النزعة الإنسانية دون تعريضها للشك أو التساؤل، بينما تنطلق الثانية من شك جذري فيها، ومحو لكل رواسيها، وتتطلب مراجعة شاملة للكثير من منطلقاتها. فبدون هذه المراجعة لا أمل لديها في الخروج من الأزمة التي تعاني منها الثقافة العربية التنويرية التي قامت على هذه النزعة الإنسانية طوال القرنين الماضيين. فالفرق الأساسي بين المنطلق الحداثي والمنطلق التسعيني الجديد هو أن الأخير يرى أن الداء قد استشرى في هذا الثقافة ولم يعد ثمة أمل في الشفاء. وأنه لابد من تجاوز المنطلقات الحداثية ذاتها، بل وتجاوز الكثير من محددات النزعة الإنسانية إذا كان ثمة أمل في التغلب على أزمة الثقافة المعاصرة. لكن الرواية الجديدة لا تطرح هذا كله على صعيد الرؤية بقدر ما تطرحه على صعيد البنية والأسلوب لأن للشكل عندها محتواه الذي لاينفصل بأي حال عن رؤى هذه الرواية وعوالمها. لذلك كان لابد من التريث عند هذه التجليات، والتعرف على خصائصها وسماتها.
وأول هذه السمات هي التناقض حيث يبدو النص متناقضا مع نفسه كنص لايريد الالتزام بداءة بالمقاييس الجمالية أو المعايير التجنيسية، ولكنه ينضوي في الوقت نفسه تحتها ويقدم نفسه ضمن محدداتها. وهذ التناقض الجوهري هو الذي يسم السرد الجديد بالتوتر المستمر بين الالتزام الظاهري بقواعد السرد ومصادراته، وبين قلب هذه القواعد والمصادرات رأسا على عقب. ومن هنا فإن وعي هذا النص بالخط الرفيع والحرج بين الرغبة في تأكيد استقلالية الأدب كمنتج لغوي له شفراته وبنياته النصية المتفردة؛ والنزعة المناقضة ـ والتي لا تقل عن تلك الرغبة أهمية ـ لتأكيد فاعلية الأدب في سياقه الحضاري الأوسع، هو أحد مصادر هذا التوتر الدائم في الكتابة فيه. فتناقض النص نفسه ينطوي على وعي ضمني بتناقضات الوضع الراهن والتي تمتد إلى بنية النص نفسه، ولا يضاهي هذا الوعي إلا الرفض الواعي لأي محاولة للإجهاز علي هذه التناقضات أو حتى إهدار الطاقة لحلها. فقد أدى طرح النزعة الإنسانية كمنطلق إلى نوع من العدمية التي تترفع عن إهدار الطاقة في حل مثل هذه التناقضات. وهذا هو مصدر حس الأزمة الفاجع والساخر معا في النص التسعيني الجديد، لأنه يبرز مشكلة المعنى بالمفهوم الفلسفي من خلال رفضه تحويل الجزئيات والوقائع والأحداث إلى «حقائق» أو «مفاهيم» والإبقاء عليها في منطقة الأعراف التي تساؤلها باستمرار حول دلالاتها ومعناها، وبالتالي تفتح الباب للتكشيك في ماهيتها ذاتها.
فالنص الجديد لا يطرح التناقض كموضوع للتناول، وإنما كحالة كيانية تتغلغل في بنيته ذاتها. ومن هنا فإن بنيته ذاتها هي المعادل للبنية المتناقضة للواقع الجديد الذي يصدر عنه. حيث تبدو السلطة فيه لا كسلطة حقيقية كما كان الحال في الماضي، لها إرادتها الحرة ومشروعها المستقل، تقبل الآخر أو تتحداه وفق منطق وطني متسق مع مصلحته، وإنما كخيال مآتة، أو وهم للسلطة، يشعر هو نفسه بفقدانه للمصداقية والمشروعية معا، فيبالغ ـ والمبالغة من سمات هذا النص الجديد كما سنبين بعد قليل ـ في إبراز سلطته. لأن هذه السلطة العربية التي تمارس قمعها الوحشي على أبناء شعبها تتحول إلى كلب مطيع يبصبص بذنبه دائما كلما دعاه دعاة البيت الأبيض، لا سلطة له ولا إرادة، وإنما يعاني من التهميش وفقدان الذات. حيث لا يعبأ به سادته كثيرا إلا في حدود التزامه بالدور المخصص له، والتفنن داخل حدود هذا الالتزام. إذن فالتناقض هو جزء أساسي من بنية الواقع كما هو السمة الأساسية لبنية النص. وإذا كانت السلطات العربية تعوض هامشيتها إزاء سادتها في البيت الأبيض بالاستئساد على شعوبها، فإن هذه السمة هي الأخرى سمة نصية. لأن الأنا التي لم يعد لها دور مهم في واقعها بعدما أنسد في وجهها الأفق فيه كلية، سرعان ما تعوض ذلك بتحقيق مركزيتها في النص. واستراتيجيات التعويض والتعبير بالتضاد أو الصياغات المقلوبة من سمات هذا النص الجديد.
فالنص الجديد يؤسس عالمه السردي كله على هذا الخيط الفاصل بين العالم السردي/ المكتوب/ المتخيل/ الذي يمكن قراءته على الورق، ولا يمكن إعادة إنشاؤه في الواقع وبين العالم الواقعي خارجه باعتبارهما أنطولوجيا متماثلان ومختلفان معا في آن. فالنص الجديد يحرص على هذا التمايز الكياني أكثر من حرصه على أي مشابهة بينه وبين الواقع الخارجي. صحيح أنه يعي أن هذه المشابهات هي دائما من المفاتيح الفاعلة في عملية التلقي، إلا أنه يهتم أكثر بعمليات التعويض والتعبير بالتضاد، وقلب البنى والمعايير رأسا على عقب. وتتصل بعمليات التعويض والقلب تلك سمة سردية أخرى هي التقطع أو عدم الاستمرارية. وهي من أكثر سمات هذا النص إشكالية، لأن قطيعتها ليست قطيعة معرفية، فالقطيعة المعرفية تنطوي على موقف يقيني يعرف ما يريد، ويسيطر على أولوياته وبدائله. ولكن التقطع هنا هو أقرب ما يكون لفقدان الاستمرارية والإجهاز على كل أشكال التماهي مع كل ما هو خارج النص أو الاعتماد على منطقه. فالنص الجديد لايريد أن تنهض افتراضاته على ما نعرفه بالفعل، بالرغم من مواجتها الإدراكية الواعية لكل ما نعرفه. ولكنه يحرص على بناء استقصاءاته على قطيعة واضحة مع منطق الحياة كما نعرفها خارجه. ولكنها ليست من نوع القطيعة المعرفية كما ذكرت، ومن هنا كان هذا التقطع وعدم الاستمرارية من سماته الجمالية ذاتها. حيث يتحول التقطع فيه إلى نوع من خلق الفجوات المستمرة في السرد. وترك هذه الفجوات للقارئ لملئها بنفسه واجتهاداته من ناحية، أو لاستخلاص المضمر فيها من ناحية أخرى. وتبلغ بعد النصوص بهذه السمة حدا يجعل تلقيها عملية تحتاج إلى جهد ملحوظ من القارئ كما هو الحال مع نصوص عادل عصمت وحسني حسن، وعاطف سليمان، وأحمد غريب .
وينقلنا هذا إلى سمة أخرى من سمات هذا النص الجديد وهي جزافيته البادية وعفويته randomness حيث يبدو أنه لايتعمد أي شيئ. فإذا كانت أبرز خصائص الحداثة العامة والتي تمتد من الفن التجريدي عند بيكاسو وبراك إلى الكتابة الحداثية عند إليوت أو جيمس جويس هي الاهتمام الواعي بجماليات العمل الفني ومكوناته الشكلية، ووعي العمل الفني الواضح ببنيته ومكوناته الداخلية وانشغاله بهما، وبما ينطويان عليه من إمكانيات تأويلية. فإن أبرز خصائص السرد التسعيني الجديد هي إضمار هذا كله والتظاهر بأن النص لايعبأ بأي شيئ، بما في ذلك بنيته الجمالية ذاتها. وأن كل ما يورده النص هو مجرد استرسالات عفوية أو جزئيات تتجاور بشكل جزافي أو اعتباطي. وتوشك رواية عبداحلكيم حيدر (ورد الأحلام) أن تكون نموذجا جيدا لهذه السمة حيث تبدأ الرواية مع قارئها لعبة الاحتمالات الجزافية المتعددة منذ دخوله عتبات النص. وتبدو الرواية نفسها بسردها المليء بالشكوم والمشاريع المحبطة وكأنها نص بديل لنصوص عديدة لم تكتب، أو تجل آخر من تجليات هذه الكتابة الممحوة. وترتبط بهذه السمة سمة أخرى يمكن دعوتها بالتخلي العفوي عن عالم التفاعل الاجتماعي، عن نبرة المواجهة والصراع معا، وفعل كل شيء دونما ادّعاء بالفعل، ناهيك عن ادّعاء البطولة. وهو تخل عفوي لا عن عالم هذا التفاعل فحسب، وإنما عن كل ما يرتبط به من مواريث وتقاليد ومواضعات. بصورة تبدو معها أن هذه الكتابة ترتد بالإنسان إلى بكارته الأولى. بل إن ثمة ولع بهذا الارتداد، وخاصة في النصوص التي تعاملت مع القرية المصرية وهي قليلة نسبيا، ولكنها تتسم بالتميز الشديد. ففي رواية (الصنم) لأشرف الخمايسي نجد البطل نمطا بدئيا للبكارة، وهذا هو الحال نفسه مع رواية (نجع السلعوّة) لأحمد أبوخنيجر، و(موسم الرياح) لسمير المنزلاوي.
ومن السمات المتعلقة بهاتين السمتين ما يمكن دعوته بالحد الزجاجي بين الوعي واللاوعي. فالفاصل بينهما في هذه النصوص السردية أقرب ما يكون إلى الحد الزجاجي. بمعنى أنه حد شفيف لايميز بين الأثنين، ولا يسعى لتأكيد الانتقالات بينهما، ولكنه كالزجاج السميك الذي لا يمكن لنا التمييز بين سطح منه والسطح الآخر. لكن القدرة على رؤية ما يقع في أي جانب من جانبيه من الجانب الآخر، لا تقلل من قدرة الزجاج على الفصل بينهما، ولا تعني في الوقت نفسه قدرة ما في جانب ما على لمس ما في الجانب الآخر، ناهيك عن الاندماج فيه. وهذا الفاصل بين الجانبين هو إحد تبديات تغير جماليات الحبكة السردية ذاتها. لأن أهم ما انتبابها في هذه الكتابة الجديدة هو أنه لم تعد للقصة حبكة بالمعنى التقليدي. بحيث يكون لها بداية ووسط ونهاية، بل تم الإجهاز كلية على الوسط ـ وهو عادة مركز الدراما في الحبكة ومحركها. وقد أثر استبعاد الوسط بالتالي على بنية الحبكة الكلية بأن جعلها بنية الحد الأدنى. التي تعتمد على التناقض وطلسمة الخيط السردي التعاقبي. وقد ارتبطت هذه الطلسمة بسمة أخرى وهي المبالغة. فمن منا لم يشتك من مبالغة النصوص السردية الجديدة في الإغراق في الغموض، أو العصف بالروادع الأخلاقية، أو مجافاة الذوق السائد، أو المبالغة في الشبقية وصدم الواقع.
أما خاصيتها الثانية المهمة، والتي ترتبط بتلك الخاصية الأولى وتتفاعل معها فهي الوعي الدائم بالأزمة الناجمة عن تأزم بنية النزعة الإنسانية ذاتها، وبأن ثمة انهيار محيق لا سبيل إلى درء عواديه، وهو أمر يتصل كذلك بحالة من التفتت والتشظي لا فكاك منها. إن التمثيل الواقعي الهادئ الذي ينطوي عليه سرد وائل رجب مثلا في روايته (داخل نقطة هوائية) لا ينتمي بأي حال من الأحوال إلى سرد المحاكاة الواقعية القديم، وإن تظاهر بذلك، بقدر ما يطرح المحاكاة باعتبارها أداة لاحتياز الواقع، إو ترويضه وليس لعرضه representation as reclamation أو بالأحرى وسيلة لاستنقاذ ما يمكن انقاذه من هذا الركام من المادة المتاحة في الواقع، وفي الذاكرة على السواء. فهذا التمثيل الذي يتظاهر بالحياد البادي أو يتذرع به ليس إلا شكلا من أشكال السخرية من هذا الركام، والاحتجاج عليه وإعادة النظر الضمنية أو التشكيك الجذري في موضوعية مثل هذا التمثيل أوالمحاكاة. إنه يلجأ إلى هذه المحاكاة الساخرة من أجل تعرية الواقع والفن على السواء، لأن المحاكاة الساخرة Parody هي واحدة من استيراتيجيات هذه الكتابة الجديدة. إذ يلجأ النص عند وائل رجب، وعند عبدالحكيم حيدر، وأحمد غريب، ومصطفى ذكرى ومنتصر القفاش كذلك إلى طرح ما يمكن دعوته بالعوالم المتوازية، والتي لاتتقابل أبدا بحكم منطق التوازي ذاته. فما يطمح النص الجديد إلى تقديمه أقرب ما يكون إلى الـ antiterra وليس الكابوس كما كان الحال في نصوص الحداثة السابقة عليه. فوائل رجب مثلا يمزج ثلاث مراحل في حاضر واحد. سنوات طفولة الأب وسنوات شباب الأبناء في من واحد قادر على استيعاب الزمنين معا دون إحساس بالتناقض بينهما.. بل إن الجغرافيا الريفية والجغرافيا الحضرية تتندغمان معا في نصه بصورة تنمحي معها الحدود الفاصلة بينهما عادة.
والنص التسعيني الجديد مشغول علاوة على هذا كله بعملية إعادة تثقيف القارئ، وخاصة فيما يتعلق بمواضعات تلقيه. فإحد خصائص الكتابة الجديدة هي الاهتمام بالقارئ داخل النص، وبعملية تلقيه له. لآن الكاتب يعي أن عملية الكتابة ذاتها تجرد الكاتب من سلطته على النص بدلا من تأكيدها ـ كما كان الحال في الماضي ـ لأنها تخلق نصا لا يعتمد كلية عليه بقدر ما يعتمد على القارئ الذي يمنحه وجودا مشروطا بنوعية تلقيه له. وهو لذلك مشغول بآليات هذا التلقي وبكيفية تجريدها الكاتب من كل سلطة له على النص. وقد شكل هذا نقلة جوهرية انتابت منطلق العملية الإبداعية ذاتها وموقع الذات الكاتبة فيها باعتبارها الوعي المركزي المسيطر على النص، والمضمر في كل تفاصيله وجزئياته. فلم تعد تزعم لنفسها القدرة على الوقوف خارج موضوعها، ناهيك عن السيطرة الكاملة على كل تفاصيله. فقد عانت من الاغتراب والتشظي والتشوش، ولم يعد لديها ترف الاختيار. ومن هنا فقد تم التخلي عن هذا الوضع المتميز للذات الكاتبة التي لم تعد تتصور نفسها منفصلة عن موضوعها بأي حال من الأحوال بعدما توحدت الذات بالموضوع. ومنحت عملية إزاحة المسئولية من الكاتب إلى القارئ استجابة القارئ قدرا أكبر من الحرية حينما أخذت تكشف عن حيرتها إزاءهما: الذات والموضوع معا، وتعري هذه الحيرة وهي هنا ـ أي التعرية والحيرة معا ـ صنو عملية الكتابة ذاتها. وفقدت بذلك الذات الكاتبة سلطتها على النص وسيطرتها عليه.
وقد رافق ذلك تقويض الأساس المعرفي لشهادة الذات الراوية في النص والتشكيك المستمر في مصداقيتها. وكيف يمكن ألا تتزعزع مصداقية الراوي وقد يصدر عن واقع فقد فيه الجميع مصداقيتهم، واختلطت فيه الحقائق بالأغاليط والأغاريض، وفقدت فيه حتى أعتى المؤسسات السياسية مصداقيتها؟! فلم يعد الراوي ذاتا تابعة للمؤلف subaltern-self وإنما أصبحت هي والمؤلف معا تابعين للنص. وقد نجم هذا عن طلسمة الهوية وتمييعها blurring. فلم تعد الذات قادرة على التماهي مع نفسها ناهيك عن التماهي مع آخر، أو مع قضية. وهذه الطلسمة تعرض العالم المتخيل في السرد إلى الزعزعة، وتستأصل منه الرواسي التي كانت تساعد القارئ في عملية التلقي عادة، مبرزة بذلك إشكاليات هذا العالم الكيانية. وقد سبق أن تعرضت مصداقية الراوي للتزعزع بشكل كبير في سرد الحداثة الستيني، حيث بدا الأمر، في كثير من الأحيان، مجرد بوح ذاتي يقدم رؤية فردية صرفة لاتعبأ بأي من معايير الموضوعية التقليدية. وقد دفعت رواية التسعينات الجديدة هذه الخاصية إلى حدودها القصوى. فبعدما كان باستطاعتنا في قص الحداثة الستيني معرفة سر عدم مصداقية الراوي والدوافع الذاتية التي تدعوه لتحريف الواقع أن تعميه عن رؤية بعض جوانبه. أصبحنا مع هذا السرد الجديد غير قادرين على معرفة ذلك، لأن الرواية بسبب خاصية التقطع والسرد المتوازي تتذبذب باستمرار بين الحياد الموضوع الصارم مرة، والإسراف والإغراق في المغالاة الذاتية أخرى. كما أن هوية الرواي ذاتها وحقيقته هي من أكثر أبعاد العمل افتقارا للوصوح والاستقرار. فالمتاهة المعرفية قد تحولت فيها إلى متاهة وجودية أو كيانية، وإن تأرجح السرد في كثير من الحالات بين المتاهيتين، حيث أن المتاهة الوجودية أو الكيانية تنطوي على المتاهة المعرفية وليس العكس، كما في روايتي سمير غريب علي (الصقار) و(فرعون) أو في رواية ياسر شعبان (أبناء الخطأ الرومانسي) أو في روايتي حسني حسن، أو حتى في رواية هدى حسين (درس الأميبا).
وثمة رافدان مهمان من روافد هذه الرواية الجديدة يرهفان إحساسنا باستمرار بتزعزع مصداقية الراوي: أولهما هو اعتماد هذا الرواي باستمرار على الذاكرة وطرحها في مواجهة الواقع من ناحية، وفي مواجهة السرد الحيادي والموضوعي من ناحية أخرى. فالتذكر هو وسيلة الراوي الوحيدة والمشروعة لاستعادة زمن يتشظى، ومكان يتقوض باستمرار والإمساك بهما، ولكنها في الوقت نفسه خؤون ولا يمكن الاعتداد بها. وهي فضلا عن ذلك تستعيد هذا كله باللغة وهي الأخرى مراوغة تنطوي على عملية الإرجاء المستمرة التي بلورها دريدا وجلب بهذه البلورة إلى ساحة السرد الكثير من الإشكاليات. وقد تجسد الوعي بعمل الذاكرة والإرجاء معا بشكل كبير في رواية مي التلمساني الجميلة (دنيازاد) وفي رواية عاطف سليمان البديعة (استعراض البابلية) وفي روايات ميرال الطحاوي (الخباء)، ونجوى شعبان (الغر) ، وسحر الموجي (دارية). أما الرافد الثاني فهو الاجهاز على تسلسل الأحداث المنطقي، والولع بالفجوات السردية الناجمة بدورها عن خاصية التقطع التي ذكرتها. فقد تغير الموقف من التقاليد والمواضعات الأدبية كلية. ولم تعد التقاليد شيئا يحتذى، ولا المواضعات الأدبية معايير تتبع. بل أصبح التغاضي عنها جميعها، وليس التمرد ضدها أو رد الفعل عليها، هو النغمة السائدة في النص التسعيني. والدافع الأساسي الذي يحرك الكاتب إزاءها جميعا هو الرغبة في أن يكون صادما ومختلفا، بل وبذيئا. فلم يعد الواقع منطويا على شيء يحترم، أو يمكن احترامه ناهيك عن التعويل عليه. فقد كانت هذه المواضعات والتقاليد جميعا تصدر عن تصور منطقي عقلاني للعالم، يؤمن بالترابط أو التقدم المضطرد، وبنسقية المعرفة والإنتاج وإمكانية السيطرة عليهما، وبوجود حقيقة مطلقة ـ أحال إيمان الإسلاميين بامتلاكها مجرد التفكير في وجودها إلى شيء بغيض ـ والإيمان بالتخطيط وبوجود نظام اجتماعي مثالي يمكن الاعتداد به والاعتماد عليه، أو حتى التطلع إلى تحقيقه. وقد تقوض هذا كله مع تقوض المتون الفكرية الكبرى grand narratives فتقوضت بالتالي البنية الروائية التي كانت تنهض على هذا كله، بعدما انهار أساسها المعرفي من تحتها.
وإذا كانت أستاذتنا الراحلة العزيزة الدكتورة لطيفة الزيات كانت تؤكد ـ في دروسها لنا في النقد التطبيقي أيام الطلب ـ على أن التغير الجذري بين عالم كتاب الأربعينات أو الخمسينات الواقعي، وعالم كتاب الستينات الحداثي، يتجلى أبرز ما يتجلى في أن بطل العالم الأول كان مقتحما، ومستعدا لمواجهة العالم وساعيا لتغييره. كان بطلا وطنيا يطمح إلى تحقيق استقلال بلاده واستئصال ما بها من فساد واستعمار. بينما كان بطل جيل الستينات يعاني من الاغتراب، ويشعر أن مجرد عبور الشارع ينطوي على مجازفة خطرة، ولذلك فقد تقوقع على نفسه، ووقع أسيرا لاستراباته الغامضة، وحبيسا للقضبان المرئية وغير المرئية. كان بطلا قد وقع في أنشوطة وعيه بتناقضات الواقع الجديد، وخوفه من مجرد إعلان هذا الوعي ناهيك عن التصرف وفقا لما يمليه عليه من أفعال. إذا كان هذا هو الفرق بين المرحلتين، فإن النص التسعيني الجديد يقدم حالة مغايرة. نجد فيها أن هذا الشعور الطاغي بالاغتراب سرعان ما ترك مكانة لحالة من التفتت والتشظي التي تعيشها الذات التي فقدت مركزيتها كما يقول فيليب هاربر في دراسته الشيقة عن المنطق الاجتماعي لمابعد الحداثة. وهذه الذات التي فقدت مركزيتها decentered self هي الذات التي تستطيع استكناه الواقع من الداخل وكأنها جزء أساسي منه، ولكنها تشعر في الوقت نفسه بأنها ليست منه، وهو شعور يترك ميسمه على عملية الاستكناه ذاتها فيجعلها أكثر إرهافا وأشد مضاءا. لأنها ترى الواقع من داخله باعتبارها افرزا له، ولكن هامشيتها أو عزلتها عنه تمكنها من رؤيته من خارجه في آن واحد، فتتسم رؤيتها لذلك بقدر من العمق والبصيرة لا يتوفران في رؤية الواقع من داخله فقط، أو من خارجه فحسب.
هذا فضلا عن أن ما يسري في طوايا أغلب النصوص الروائية التسعينية ليس رفض الواقع الشائه في هذا الزمن الردئ، فقد تملصت هذه النصوص من الأساس الأيديولوجي الذي ينبني عليه أي رفض. وإنما عدم القدرة على تقبل حدود الوضع الذي يجد إنسان النص نفسه فيه. بصورة يبدو معها العجز عن تقبله وكأنه معضلة هذه النصوص المؤرقة، والتي تدفع الإنسان إلى الرثاء لعجزه عن الاكتفاء بذاته والاكتمال بها. فبطل النص التسعيني هو الإبن الطبيعي لمنطق تسييد الحل الفردي منذ اندلاع سياسة الانفتاح التي دمرت سلم القيم الاخلاقية والاجتماعية القديمة. وهو لذلك بطل حريص علي فرديته وفرادته، ولكنه لمرارة المفارقة محروم من ممارسة هذه الفردية بطريقة مترعة بالمعنى، فيمارسها بطريقة أقرب إلى التسكع الذي يفضى إلي العدم. وكأنه محكوم عليه بهذه الفردية الجوفاء. فالعالم المستعصي على الفهم يدور دونه، ويتعامل معه ليس فقط على أنه شخص هامشي أو غير مهم، ولكن أيضا وكأنه غير موجود أساسا. ولذلك نجد أن بطل هذا النص الأثير هو الإنسان الذي يشعر ـ وإن رفض الاعتراف لنفسه بهذا الشعور في أغلب الأحيان ـ بنوع من الوحشة واليتم في مواجهة هذا العالم المستعصي على الفهم. فثمة نوع من النبذ غير المقصود، وغير المتعمد، يمارس ضده دون مبرر، ويثير فيه قدرا من السخط على كل ما حوله دون فهم لدوافع سخطه، أو حتى تعاطف مع المنبوذين مثله. وكأن المطلوب منه أن يختفي أو يشعر بأنه زائد عن الحاجة.
وهكذا تتأكد على الصعيدين الموقفي والنصي معا مع هذه النقلة الثالثة في تحولات الخطاب الروائي وتبدل آفاق تأويله وتلقيه، تلك القطيعة الكاملة مع مصادرات النزعة الإنسانية، وذلك الغني النصي الذي تواصل فيه الرواية التسعينية فتح أفاق جديدة لرواية قواعد الإحالة الاستعارية.






هوامش
راجع إدوار سعيد: Edard Said, The World, The Text and the Critic (Cambridge, Massachusetts, Harvard University Press, 1983.
. راجع على سبيل المثال محمد رشدي حسن (أثر المقامة في نشأة القصة المصرية الحديثة) القاهرة 1956.
. راجع كتابنا The Genesis of Arabic Narrative Discourse: A Study in the Sociology of Modern Arabic Literature والذي صدرت ترجمته العربية بعنوان (تكوين الخطاب السردي العربي: دراسة في سوسيولوجيا الأدب العربي الحديث) من ترجمة الدكتور أحمد بوحسن (الدار البيضاء، مطبعة القرويين، 2002)، ص 392.
. راجع في هذا المجال دراسات مثل عبدالمحسن طه بدر (تطور

#2 [تحولات الخطاب الروائي العربي: تبدل الجماليات وأفق التلقيرابط المشاركة #2] ماجد رشيد العويد و محمد محمد حسين (الاتجهات الوطنية في الأدب المعاصر) القاهرة 1956 أو عبدالإلاه أحمد (نشأة القصة وتطورها في العراق) بغداد 1969 أو محمد يوسف نجم (القصة في الأدب العربي الحديث) بيروت 1958، أو إبراهيم السعافين (تطور الرواية في بلاد الشام).
. راجع مجلة (الناقد) لندن، عدد 26 في شهر أغسطس / آب 1990 ص 34 – 39.
. راجع مجلة (ألف: مجلة البلاغة المقارنة) القاهرة عدد 21 عام 2001 ص 184-246.
. فيصل دراج (من رواية الهزيمة إلى هزيمة الرواية) في العدد الخاص من (أخبار الأدب) الخاص بمرور أربعين عاما على هزيمة حزيرانن وأعيد نشره في العدد السابع من مجلة (الكلمة) الشهرية الألكترونية يوليو 2007.
. كان هذا الانفصام ابن الانفصال التعليمي الأساسي الذي نجم عن تأسيس المؤسسة التعليمية الحديثة خارج نطاق نظام التعليم التقليدي وفي صراع ثقافي وسياسي وطبقي معه، بدلا من انبثاقها من داخل المؤسسة التقليدية القديمة كما حدث في أوروبا.
. مثل لطيفة الزيات وصوفي عبدالله، ونوال السعداوي ورضوى عاشور وسلوى بكر في مصر، ليلى بعلبكي وإميلي نصرالله وحنان الشيخ وهدى بركات في لبنان، عالية ممدوح في العراق وعروسية النالوتي وعلياء التابعي في تونس، وأحلام مستغانمي في الجزائر.
. راجع في هذا المجال دراسة ياكوبسون الأساسية: Two Aspects if Language and Two Types of Aphasic Disturbances والتي نشرت في أكثر من مكان، ولكنها ظهرت في كتابه Roman Jakobson, Language in Literature, eds: Krystyna Pomorska and Stephen Rudy (Cambridge, Massachusetts, Harvard University Press, 1987), pp 95-121.
لم أستطع وضع الهوامش كاملة في البحث نفسه، ربما لطول البحث. فمن يملك من الزملاء إفادتي في هذا المجال فليفعل مشكوراً
. والواقع أن فهم مناداة الثورة الفرنسية بفصل الكنيسة عن الدولة، أي فصل مؤسسة الإرادة الكهنوتية عن مؤسسة الإرادة البشرية، في إطار هذه النزعة الإنسانية هو الذي ينقذ هذا المفهوم المهم من الخلط القاتل الذي تعرض له عندما ترجم في ثقافتنا العربية خطأ على أنه فصل الدين عن الدولة. فلايزال الدين ـ حتى في أعتى المؤسسات الغربية علمانية، من مؤسسة الدولة إلى المؤسسة العسكرية وحتى مؤسسة الجامعة ـ عنصرا فاعلا في حركيتها وتصوراتها. فالفكر الغربي حينما أسس استنارته ونزعته الإنسانية لم يؤسسها على الإلحاد، وإنما على العقلانية.
. هذا هو عنوان رواية محمود حامد محمود حامد الأولى، صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، في القاهرة 1997
. هذا هو عنوان رواية شحاته العريان الأولى، صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، في القاهرة 1998.
. هذا هو عنوان رواية سيد الوكيل الأولى، صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، في القاهرة 1996.
. هذا هو عنوان رواية وائل رجب الأولى، صدرت عن دار شرقيات، في القاهرة 1996.
. هذا هو عنوان رواية عزت القمحاوي الأولى، صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، في القاهرة 1997.
. هذا هو عنوان رواية نورا أمين الأولى، صدرت عن دار شرقيات، في القاهرة 1996.
. هذا هو عنوان رواية ميرال الطحاوي الأولى، صدرت عن دار شرقيات، في القاهرة 1997.
. للمزيد من التفاصيل راجع Michel Foucault, The Order of Things: An Archaeology of the Human Sciences (New York, Vintage Books, 1970),pp. 217-243
. في (هاجس موت) و(الرجل العاري) التي صدرت عن دار شرقيات، بالقاهرة عام 1998.
. راجع روايتيه (اسم آخر للظل) و(المسرنمون) وقد صدرتا عن دار شرقيات عام 1995، و1998.
. راجع مجموعته القصصية (صحراء على حدة) صدرت عن سلسلة الكتاب الأول، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، عام 1995، وروايته البديعة (استعراض البابلية)، القاهرة، دار النهر، 1998.
. أحمد غريب (صدمة الضوء عند الخروج من النفق)، القاهرة، نوارة للترجمة والنشر، 1996.
. راجع Phillip Brian Harper, Framing the Margin: The Social Logic of Postmodern Culture


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بحث مقدم إلى مهرجان العجيلي الثالث للإبداع الروائي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى